الركائز الثلاث عند مشيخة بارزان
د.عرفات كرم ستوني
مسؤول شؤون العراق في مقر بارزاني
إن بناء الإنسان أهم من بناء الأوطان، فلو اكتفينا ببناء الأوطان دون بناء الإنسان لأصحبنا نعيش في مجتمع راكد جامد خامد بارد، وبناء الإنسان يعني تربيته تربية سليمة صحيحة مستقيمة، ويمكن تسمية هذه الحالة بالحالة الثقافية، وهذه الحالة تشمل جوانب عديدة من السلك التربوي، أما بناء الأوطان فهو الجانب الحضاري المادي في الحياة، فكم من دول تطورت وتقدمت لكن شعوبها تعاني من التخلف الثقافي، أعتقد جازما أن بناء الأوطان وتعميرها وتطويرها دون بناء الإنسان سيقودنا إلى مصير مجهول، بل قد ينهار السقف على رؤوسنا يوما ما، لأننا لم نستطع بناء إنسان سليم يعرف قيمة ما بُني له، إن بناء الإنسان وتربيته وتثقيفه وتطويره سيقودنا إلى مستقبل عظيم، لأنه عندما نبني إنسانا سليما فنحن نبني مجتمعا سليما، وعندما نبني مجتمعا سليما فنحن نبني وطنا سليما، وعندما يكتمل ذلك كله فهو سيقودنا بلا ريب إلى بناء وطن عظيم ليعيش فيه شعب يستحقه، هذه المقدمة كانت ضرورية لفهم الركائز الثلاث عند مشيخة بارزان وهي:
أولا) معرفة الله وعبادته.
ثانياً) حب الوطن.
ثالثاً) التعايش السلمي.
لنبدأ بالحديث عن تلك الركائز واحدة تلو الأخرى، اهتم مشائخ بارزان بهذه الركائز الثلاث، ابتداء من الشيخ عبد السلام الأول ثم عبد السلام الثاني، وترسخت هذه العقيدة أكثر في عهد الشيخ أحمد البارزاني، واستمر البارزاني الخالد على هذا المنهج، ولا تزال هذه العقيدة راسخة ثابتة في منطقة بارزان، ولقد أشار الرئيس بارزاني إلى ذلك في خطابه التاريخي في مراسيم افتتاح صرح البارزاني التاريخي في بارزان، هذه الركائز الثلاث هي التي حولت منطقة بارزان بعشائرها السبع المعروفة (دولمري، شيرواني، بروزي، نزاري، مزوري، گردي، هركي بنجي) إلى منطقة آمنة متطورة خرجت علماء ومشائخ وقادة وساسة، فمثلا قرية بارزان كانت مركزا للتعايش السلمي بين أتباع الديانات الثلاث(الإسلام واليهودية والمسيحية)، فقد كان الحاخام أهارون البارزاني كبير حاخامات كوردستان في العهد العثماني، وكان مؤلف كتاب العهد الجديد قراءات طقسية من الإنجيل القس داود بن الشماس يوحنان البارزاني، وما أكثر علماء الإسلام في المنطقة خذ مثلا الحافظ العراقي شيخ ابن جر العسقلاني، ولقد تحدثت عن ذلك بتفصيل في كتابي(الحياة الدينية من نهري إلى بارزان).
الركيزة الأولى: معرفة الله، لا يمكن للإنسان أن يعبد ربا لا يعرفه حق المعرفة، فهو شرط أساس لما بعده، والغاية من وجودنا في الأرض عبادة الله، كل على طريقته، لأننا نحن البشر إخوة، وهذه الاخوة لا بد أن تدفعنا إلى المحبة والسلام والتعاون. يقول عالم اللاهوت الديني السويسري هانز كونج": لن يكون هناك سلام بين الأمم، ما لم يكن هناك سلام بين الأديان ". فقد كان في قرية بارزان مسجد للمسلمين وكنيسة للمسيحيين ومعبد لليهود، كل يعبد الله وفق معتقده، دون أن يحتقر أحد الآخر ويهزأ من دينه، بل كان ثمة احترام متبادل بين أشياع تلك الديانات الثلاث، ولا تزال هذه العقيدة ثابتة لم تتغير.
الركيزة الثانية: حب الوطن، لا يمكن أن نعد من لا حب له لوطنه إنسانا، بل هو فاقد لإنسانيته، ولقد قال عمر بن الخطاب(عمر الله البلدان بحب الأوطان) بهذا الحب نعمر أوطاننا ونطورها ونبنيها ونحافظ على جمالها ونظافتها وبيئتها وجبالها ووديانها وسهولها وأشجارها وثمارها ونباتها وأرضها وسماءها وماءها وحيواناتها، والأهم من ذلك كله نقدم دماءنا للدفاع عنها، فهذا رسول الله (ص) عندما أخرجه قومه من مكة المكرمة قال( ما أطيبك من بلد، وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك). يقول محب الدين الخطيب( تحن الكرام لأوطانها حنين الطيور لأوكارها).
الركيزة الثالثة: التعايش السلمي، منطقة بارزان نموذج رائع في التعايش السلمي عبر التاريخ، عاش اليهود والمسيحيون والمسلمون معا بسلام وأمان، كل ذلك بفضل مشيخة بارزان التي رسخت هذه العقيدة في نفوس الناس، وأهم من ذلك حب الناس، فلو ذهب أي غريب إلى المنطقة لاستقبلوه بحفاوة وقدموا له الطعام والماء، وربما المأوى إن كان بحاجة إليه. ولهذا قال الفيسلوف الصوفي ابن عربي الأندلسي(لن تبلغ من الدين شيئا حتى توقر جميع الخلائق).
بهذه الركائز الثلاث بقيت هذه المنطقة آمنة مستقرة سالمة، خرجت جيلا مؤمنا محبا لوطنه وشعبه، ومحبا لكل إنسان بغض الطرف عن هويته، ومع أن هذه المنطقة وأخص بالذكر قرية بارزان دمرت ست عشرة مرة، لكنهم لم يستطيعوا تدمير هذه الركائز الثلاث في قلوبهم مع مرارة الأحداث وصعوبة المواجهة، وسبب استقرار كوردستان أن الرئيس بارزاني رسخ هذه الركائز الثلاث في عقل كل فرد يعيش في كوردستان، ولهذا نجد المجتمع الكوردستاني مجتمعا مؤمنا، محبا لوطنه، ومحبا لمن يعيش معه، وبهذه العقيدة لم يتأذَ أحد من أفراد الجيش العراقي بعد سقوط النظام، بل إن شعب كوردستان قدم لهم الطعام الشراب واللباس والمأوى، وساعدوهم في العودة إلى بيوتهم سالمين، وبهذه العقيدة فتحت القيادة الكوردستانية صفحة جديدة مع الخونة والجحوش الموالين لنظام صدام، ولولا ذلك لما استقرت كوردستان ولا تطورت، وبهذه العقيدة قاومت الثورة الكوردية عبر التاريخ أعتى الأنظمة، وأشرس الإرهابيين، وأخبث المؤامرات، وسنبقى صادمين إلى أبد الدهر إن لم نحد عنها، وهذه الركائز لا بد أن تكون مجتمعة، فالإيمان لا يكفي إن لم يكن معه حب الوطن، وحب الوطن وحده لا يكفي إن لم يكن معه إيمان بالله، وكلاهما لا يكفيان إن لم يكن ثمة تعايش سلمي بين أبناء الشعب بغض الظر عن الهويات الدينية والقومية والمذهبية.
ولعل ما نعانيه اليوم أن ثمة غيابا لإحدى هذه الركائز وهي حب الوطن، ولا يزال البعض لا يفرق بين الوطن والحكومة أو السلطة، فعندما تكره السلطة لا ينبغي أن تكره الوطن، فالوطن باق والسلطة فانية، كراهيتك للوطن كراهيتك لوجودك وتاريخك وموقعك وروحك، ومما يندى له الجبين أن بعض الساسة قد ربى الشباب على هذا المفهوم المغلوط، ولهذا عندما لا يملك السياسي ثقافة تاريخية وتاريخيا ثقافيا فإنه يفسد أكثر مما يصلح، فأكثرهم تجار، وتلفازهم أكبر من مكتبتهم، إن كانوا يملكون مكتبة.
ما أحوجنا إلى هذه الركائز الثلاث في أيامنا هذه، وما يؤلمني أن كثيرا من ساستنا لا يعرفون عنها شيئا، بل لا يعيرون لها اهتماما، لأن همهم الوحيد تحسين حياتهم، وتوسيع تجارتهم، وتثبيت مواقعهم، ولا يدري المسكين أن ما وصلنا إليه الآن من تطور سياسي وتجاري وعمراني هو بفضل جيل آمن بتلك الركائز، فعندما تموت تلك الركائز في نفوس شبابنا وأجيالنا سنخسر كل شيء لا سامح الله. يقول الأديب شكيب أرسلان( يفكر الوطني في الأجيال القادمة، أما السياسي فيفكر في الانتخابات القادمة).