• Wednesday, 17 July 2024
logo

الدولة الطائفية

الدولة الطائفية

د.عرفات كرم ستوني

خاص - كولان العربي

         في كل دين طوائف متعددة، ومذاهب مختلفة، ومدارس كثيرة، وذلك لأن لكل دين نصوصاً، وهذه النصوص بحاجة إلى تفسير وتأويل واجتهاد، وعند تفسير النصوص تتعدد الطوائف والمذاهب والمدارس، ففي الإسلام مثلا ثمة مدارس ومذاهب وطوائف عديدة، ولقد تشكلت هذه التعددية للاختلاف في تفسير نصوص الدين من القرآن والسنة، ولهذا نجد تفاسير كثيرة (قديما وحديثا) للقرآن الكريم، وفي الوقت نفسه نجد شروحا عديدة (قديما وحديثا) لأحاديث النبي (ص)، ففي المذهب السني ثمة مذاهب فقهية (كالحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي والظاهري)، وهي مذاهب مدونة مكتوبة، وثمة مذاهب أخرى كثيرة وهي ليست أقل أهمية من المذاهب التي ذكرناها آنفا، بل قد نجد بعضها أفضل من المذكورة، وثمة مدارس فكرية مثل (الصوفية والماتريدية والأشعرية والمعتزلة والإباضية والأحمدية والسلفية والقرآنيون وإسلامية المعرفة)، وفي المذهب الشيعي ثمة مدارس مختلفة (كالأثنا عشرية (الجعفرية) والزيدية والإسماعيلية) وثمة الكثير، وهي مذكورة في كتب تاريخ الفرق والمذاهب.

       هذه التعددية الدينية ظاهرة طبيعية في كل دين، شريطة عدم تحول أي طائفة أو مذهب أو مدرسة أو جماعة إلى قوة مستبدة تفرض رأيها على البقية بمنطق القوة وقوة الإكراه، أضف إلى ذلك أن تبقى هذه التعددية في عالمها الخاص بعيداً عن السياسة والدولة، لأن مجرد تدخل أي طائفة أو مذهب أو مدرسة أو جماعة في السياسة والدولة فإنها ستفسد الدولة وستخرب السياسة، فالدولة للجميع إجباراً، والدين لمن يريد اختياراً،  بعبارة أخرى الدولة راعية لجميع مواطنيها لتحقيق العدالة والسعادة والاستقرار والسلام والأمن والعيش الرغيد دون تمييز ولا إقصاء ولا تهميش.

        هنا من الضروري تعريف الدين حتى لا يفهم أحد أننا ضد الدين ولا نريده في حياتنا، بل إن الدين هو حياة الإنسان، فقد نجد مدنا وقرى دون مستشفيات ولا مدارس ولكن يستحيل وجودها دون مكان للعبادة، فالدين علاقة خفية بينك وبين الله، وحينئذ لا ينبغي أن تدخل هذه العلاقة الروحية الخاصة بك في عالم الدولة الذي هو عالم الجميع، فكل من يدعي التدين أو الانتماء إلى دين أو مذهب أو طائفة فعليه أن يحتفظ ذلك لنفسه، لا أن يعلنه ويظهره ويحاول فرضه على الآخرين المختلفين معه دينا وعقيدة ومذهبا وفكرا، لأن ما تعتقده حقا قد يراه الآخر باطلا، وما يراه الآخر سليما، قد يراه المقابل سقيما، وهنا تتجلى مغالطة الإسلاميين عندما يريدون أسلمة كل شيء، أو طَأْفَنَةَ كل شيء أو أَدْلَجَةَ كل شيء، لا يمكن لفكر بشري أو اجتهاد شخصي أن يكون دينا للجميع، فالدولة التي تأسست عبر التاريخ على الدين أو الطائفة أو المذهب أو الأيدلوجية الدينية حولت حياة مواطنيها إلى جحيم لا يطاق، وخاصة تلك الدول التي تتكون من شعوب مختلفة وطوائف متعددة ومذاهب شتى، قد يستقيم الأمر لدولة معينة حيث يعيش فيها شعب واحد ودين واحد ومذهب واحد، ولكنه يستحيل أن يستقيم مع دول فيها تنوع ديني وثقافي وقومي، وحتى تلك الدول التي تتأسس على الأيدولوجية الدينية تندحر فيها الديمقراطية والحرية، ولقد رأينا نماذج عدة لا حاجة للتطرق إليها خوفا من الإطالة.

    ولكي يفهم القاريء مقالي هذا واضحا سأتحدث عن العراق نموذجاً، فقد أسس الاستعمار الغربي( بريطانيا وفرنسا) هذه الدولة سنة 1921، ثم في سنة 1924 أجروا استفتاء لشعب كوردستان، وقد كان استفتاء استبداديا، حيث لم يسألوا شعب كوردستان ماذا تريدون لتقرير مصيركم، وإنما فرض عليه الاختيار بين الانضمام إلى الدولة الجديدة(العراق الملكي) أو الانضمام إلى تركيا( أتاتورك)، وقد اختار شعب كوردستان الانضمام إلى العراق، وإخال أن البعد الديني هو الذي دفعهم إلى الانضمام إلى هذه الدولة الفتية، معتقدين أن العرب والإسلام شيء واحد، مع مغالطة هذه العقيدة، ولو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا لربما كان الانضمام إلى تركيا أفضل لنا، فلو قمنا بذلك لربما لم نرَ فاجعة حلبجة والأنفال والتشريد والتهجير والقصف الكيمياوي والمقابر الجماعية وتدمير القرى والإبادة الجماعية وقطع الموازنة والرواتب، وإن كان تقرير المصير حلم جميع الشعوب الأصيلة، وشعب كوردستان أولى شعوب المنطقة، لامتلاكه مقومات الدولة، فهو يملك إرادة وتاريخا وحضارة وثقافة ولغة وأرضا وفنا وقيادة ونضالا وعادات خاصة به، وما استقلت أكثر دول العالم إلا بتقرير مصيرها من قبل شعوبها، ونضالها لنيل حريتها، فلماذا يحق لبعض الشعوب تقرير مصيرها ولا يحق لنا ذلك، بل إن شعب كوردستان قد عودي وأوذي كثيرا لأنه فقط عبر عن رأيه في استفتاء شعبي سلمي سنة 2017، دعنا لا نخرج عن موضوعنا، فالدولة العراقية أسسها الاستعمار لتحقيق مصالحه وليس مصالح الشعوب العراقية، فمنذ تأسيس الدولة العراقية وحتى سقوط نظام البعث سنة 2003، لم يحقق شعب كوردستان حياة مستقرة ومطمئنة، ولربما رأي بعض الاستقرار والسلام لفترة ولكن سرعان ما ينقض حكام بغداد العهود والمواثيق، والجميع يتذكر اتفاقية الحادي عشر من آذار التاريخية لسنة 1970، حيث أصبحت هباء منثورا، ولو طُبقت لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه، ولأصبح العراق بلدا مستقرا متطورا في مصاف دول الخليج، إن لم نقل الدول الغربية،  وبعد إسقاط النظام البعثي من قبل أمريكا، عدنا إلى بغداد بكل قناعة أننا سنعمل مع شركاءنا في النضال والتاريخ والمعاناة والغربة وخاصة الشيعة في بناء عراق مدني ديمقراطي حر، ونعمل معا على تطوير البلد وخدمة الشعب الذي عانى كثيرا عبر التاريخ وخاصة في فترة الحروب، ولو عادت بنا الأيام ما وطأت أقدامنا بغداد، فقد عادت معاناة شعب كوردستان من جديد، حيث قطعت الموازنة والرواتب، وتم قصفنا من قبل مليشيات منفلتة، وترسخت ثقافة مشوهة في العقل الجمعي الشيعي أن كوردستان سبب تخلف العراق، ولهذا كان شعارهم في الانتخابات الهجوم المستمر على كوردستان شعبا وقيادة، مع أننا كنا نملك الشرعية قبل سقوط النظام (حيث البرلمان والحكومة والمؤسسات المدنية والعسكرية) فأعطينا الشرعية لمن لم يكن يملكها أصلا، فلولا الكورد لما استطاع الشيعة نيل الشرعية في حكم العراق، فالسنة كانوا مقاطعين وبعضهم كانوا مع الجماعات المسلحة ضد النظام السياسي الجديد.

    تبين لنا بمرور الزمن وخاصة بعد ولاية السيد نوري المالكي الثانية أن أكثر ساسة الشيعة لا يريدون عراقا ديمقراطيا مدنيا حرا، بل يريدون أدلجة الدولة أو بعبارة أدق طأفنة الدولة، وليس ذلك غريبا، فحزب الدعوة الشيعي الذي تأسس سنة 1957 مَثَّلَ الإسلام السياسي الشيعي في العراق، وهو بلا ريب متأثر بالإسلام السياسي في مصر وأعني جماعة الإخوان المسلمين التي تأسست سنة 1928 في مصر من قبل حسن البنا، أدركتُ جيدا أن العراق يتجه نحو الدولة الطائفية وخاصة عندما جاءوا بقانون الحشد الشعبي إلى البرلمان وصوتوا عليه في البرلمان الاتحادي سنة 2016 ، ولقد صرحتُ آنذاك وقلت: انتهت الدولة المدنية بالتصويت على هذا القانون، لم أقل ذلك لأنني ضد الحشد الشعبي فقد قدموا دماء زكية في حرب داعش، ولكن قلت ذلك لأن تشريع قانون كهذا ينافي فلسفة الدولة المدنية والديمقراطية، لا يمكن تأسيس جيش على البعد الديني الطائفي، وهو مخالف للمادة التاسعة من الدستور العراقي، فهذه المؤسسة لطائفة معينة، ووجود بعض الوجوه المختلفة لا يزيح عنها البعد الطائفي، وهذه التجربة فقط موجودة في الدول الدينية، قال علي خاتمي ممثل المرشد الإيراني علي خامنئي في محافظة زنجان: " إن الحشد الشعبي وحزب الله اللبناني وفصائل المقاومة الأخرى في المنطقة هي نتاج فكر الثورة الإيرانية"، فليكن ذلك كذلك، ولكن في بلد مثل العراق لا يصلح ذلك البتة، لأن البلد يجمع بين لابَتَيْهِ شعوبا مختلفة وأديانا متنوعة ومذاهب متباينة، فكيف يمكن فرض تجربة أيدولوجية على البقية، هذا ظلم واجحاف، وسيهوي بالدولة إلى الهاوية، لأنه لا يمكن للشعوب والأديان والطوائف الأخرى الخضوع لمثل هذه السياسة، فأدلجة الدولة وطأفنتها كارثة بحق تاريخ العراق الحضاري العريق وشعوبه الأصيلة وأديانه القديمة ومذاهبه المعروفة وطوائفه المعلومة، والمضي بهذا المشروع الأيدولوجي سيكون سببا في تمزيق البلد وتقويض التعايش السلمي وخنق الحريات وهضم الحقوق، والأدهى من ذلك والأمَرّ إشعال الفتنة الطائفية التي لا تبقي ولا تذر، لقد حاول البعث لعقود طويلة بعثنة العراق ففشلوا، مع قوتهم وجبروتهم وطغيانهم.

    المشكل أن بعض ساسة الشيعة يرون أن العراق لهم وحدهم لا شريك لهم، فهم الذين أسسوه وبنوه، ولهذا يتفردون بتشريع القوانين، وإصدار القرارات، ويصرحون دون مراعاة شركاءهم، وكأن البقية ضيوف مغادرون، وغرباء راحلون، وفي تعاملهم مع كوردستان وكأنهم يتصدقون علينا عندما نطالب بحقوق شعب كوردستان من الموازنة والأدوية والأسلحة والرواتب والمناصب وهلم جرا، واليوم - مع الأسف الأسيف- أصبح تاريخنا ونضالنا وقضيتنا وهمنا ومستقبلنا ودماءنا مقابل رواتب تدفعها بغداد بطريقة مهينة جدا، مع أنها من أبسط حقوق شعب كوردستان، علما أن بغداد لم تقصر يوما واحدا في دفع رواتب مواطنيها عندما كانوا تحت قبضة داعش في الموصل، وفيما يخص المناصب فلو قمنا بتحقيق دقيق نجد أن أكثرها بيدهم، وحتى السنة أيضا يعانون من التهميش، فقد تجد وزارة كاملة لا كوردي فيها ولا سني، فلا وجود للمثلث السياسي (التوافق، التوازن، الشراكة) والذي يؤكد الرئيس بارزاني عليه كثيرا.

      لن أتطرق إلى مسائل أخرى فيها إشارات جلية إلى أن العراق يتجه نحو الدولة الطائفية، ولكن لا بأس أن نتطرق إلى قضيتين اثنتين كمثال، الأولى إخراج القوات الأمريكية من العراق، فهذا القرار الذي صدر في البرلمان سنة 2020، كان قرارا لمكون معين وهم الشيعة، لا الكورد ولا السنة راغبون في ذلك، وحتى المكونات الأخرى غير راضية بذلك، فهو في النهاية ليس قرارا وطنيا، فالقضايا الإستراتيجية والمصيرية لا بد أن يكون ثمة اجماع وطني، والقضية الثانية عيد الغدير، حيث أقر نواب الشيعة يوم الغدير عطلة وطنية رسمية بضغط قوي من الصدريين، مع احترامنا للطائفة الشيعية وما يعتقدون في أحقية علي بن أبي طالب بالخلافة بعد رسول الله(ص) إلا أن ذلك رسخ الطائفية، وسيهدد التعايش السلمي، لأن السنة لا يعترفون بذلك، فهم يعتقدون أن أبابكر الصديق هو خليفة رسول الله، ثم يليه عمر بن الخطاب، فالاعتراف بيوم الغدير يقتضي أن خلافة أبي بكر وعمر(رض) باطلة،  ولست أرغب في الحديث عن هذه الخلافات التاريخية العميقة والعقيمة، لأنه لا يمكننا حلها، وقد عجر عن حلها من هو أعلم منا جميعا، ثم إنه لا يمكن بناء الدولة على هذه الخلافات التي أيقظها البعض من سباتها، ولسنا بحاجة إليها البتة، وأتذكر جيدا عندما كنت رئيسا لكتلة الحزب الديمقراطي الكوردستاني في مجلس النواب العراقي في الدورة الثالثة (2014-2018) جاءني نائب شيعي وفي يده ورقة يجمع تواقيع النواب لجعل يوم الغدير عطلة، فرفضت التوقيع، ثم في اليوم الثاني جاءني نائب سني وبيده ورقة يجمع التواقيع لجعل يوم السقيفة عطلة رسمية فرفضت، وقلت إن الأعياد الدينية والطائفية لن تصبح أعيادا وطنية، إذا أردنا بناء دولة مدنية وطنية يجب الابتعاد عن هذه المسائل، وحصرها في عالمها الخاص، فمثلا كان ينبغي جعل يوم الغدير عطلة خاصة بالطائفة الشيعية، ويوم السقيفة  - فيما إذا قرروا جعله عطلة رسمية- خاصا بالطائفة السنية، أعتقد أن هذه القرارات والمواقف ستشتت اللحمة الوطنية، وترسخ ثقافة الكراهية، وتجدد الأحقاد التاريخية، والشعوب العراقية ليست بحاجة إلى عطل دينية، بل بحاجة إلى خدمات وماء وكهرباء وشوارع وحدائق وألعاب وبيوت سكن وفرص عمل وتنظيف الشوراع ومحاربة الفساد والفاسدين والبطالة القاتلة، والسلاح المنفلت، والمؤلم أن أكثر ساسة العراق الجديد لم يفلحوا في تطوير البلد ولا في تحسين معيشة المواطنين، بَيْدَ أنهم أبدعوا في تحسين معيشتهم فقط، وبعض القريبين منهم.       

    

Top