منذ سبعة عشر عاما والعملية السياسية مستمرة على أسس التوافق السياسي، وقد مرت عملية التوافق السياسي في بعض الأطوار بمنعطفات خطيرة كادت تشعل حربا أهلية ووهددت بتقسيم البلد، وعلى هذا الأساس - أي التوافق السياسي- بقيت مكونات العراق تشارك في العملية السياسية، وفي الحكومات المتعاقبة التي شكلت بعد سقوط النظام البعثي، ومن أجل الحفاظ على استمرارية العملية السياسية تنازلت الكتلة الأكبر الشيعية في بعض المراحل عن حقها الدستوري من أجل ترشيح شخصية توافقية، شريطة بقاء هذا المنصب للشيعة حصرا، لأن ذلك – رئاسة الوزراء- خط أحمر لا يمكن لأي مكون الاقتراب منه أو التفكير فيه كما يقول قادة الشيعة أنفسهم، ولهذا منذ سقوط النظام البعثي وحتى لحظة كتابة هذه السطور بقي هذا المنصب للشيعة حصرا، ومن الأسباب التي تجعل الكتل الشيعية تسرع الآن في البحث عن بديل هو الخوف من كوردي يصبح رئيسا للوزراء ولو لفترة وجيزة، ويقصدون بذلك السيد برهم صالح، من الواضح أن العبادي وعادل عبد المهدي جاءا بتوافق سياسي، وذلك للقضاء على التشظي والانقسامات الكبيرة التي حصلت في البلد، فشل العبادي فشلا ذريعا حيث سبب أزمة اقتصادية، وزرع الفتنة بين الكورد والشيعة، وأهان هيبة الدولة ومجلس النواب العراقي، ولم يف بوعوده، ووصل الغرور به الى درجة لا يكمن تصورها، حتى أسقطه أرضا، وكاد يختفى من الساحة السياسية، أدرك الفرقاء السياسيون وخاصة الشيعة أن العبادي لن ينال ولاية ثانية فالرئيس بارزاني وقف ضد ترشيحه بقوة، وخاب أمله، فاتفق الجميع على ترشيح السيد عادل عبد المهدي، فهو رجل المرحلة ورجل التوافق السياسي، ورضي به الجميع، ومن سوء حظ الرجل أن الوضع انفجر في عهده، فمعلوم للجميع أن ما حصل في عهد السيد عادل لا يتحمله هو، وليس هو المسؤول عن ذلك، فهي تراكمات سنين طوال، والجزء الأكبر يتحمله العبادي الذي أثقل كاهل من يأتي بعده، لذلك يمكن القول أن السيد عادل أصبح ضحية تراكمات سنين كثيرة مضت، والذين رشحوه – الفتح وسائرون- تخلوا عنه في نصف الطريق، على أية حال قدم الرجل استقالته، أو بالأحرى أقالته المرجعية الدينية عندما انتفض الشارع بقوة ضد الطبقة السياسية، وبدأت عملية القتل والاختطاف والاغتيال والقمع بحق المتظاهرين السلميين في عهده، والحقيقة أن السيد عادل لم يأمر بمعاملة المتظاهرين بهذه الصورة، انتهى عهده، وبدأت الكتل الشيعية البحث عن بديل، فقدموا مجموعة من المرشحين، وهم (محمد شياع السوداني، إبراهيم بحر العلوم وقصي السهيل وأسعد العيداني) فتم رفضهم جميعا، أما الأخير أي العيداني، فقد رفض السيد رئيس الجمهورية برهم صالح تكليفه بحجة أن المتظاهرين رفضوه، مع اتفاق أغلبية الكتل الشيعية على ترشيحه وقد قلنا للسيد برهم: هذا استحقاق انتخابي للشيعة، ليس من حقك أن ترفض، وقد غضب قادة الشيعة من تصرف برهم، وبدأوا بالبحث عن بديل له، لولا بيان رئيس الإقليم السيد نيجيرفان البارزاني الداعم له، والوقوف ضد من يحاول تغييره، مضت مدة طويلة ونحن – وفد الحزب الديمقراطي الكوردستاني - في بغداد نبحث عن بديل مقبول، ولكن لم نصل الى نتيجة، عدنا، ثم اتفق الفتح وسائرون على ترشيح السيد محمد توفيق علاوي، ووافق رئيس الجمهورية على تكليفه، وكان اسمه مطروحا منذ البداية، فبدأ علاوي مشارواته لتشكيل حكومته في المدة التي حددها الدستور وهي ثلاثون يوما، بدأ الرجل خطواته بصورة خاطئة، حيث صور نفسه المنقذ للعراق، وبدأ يتحاور مع نفسه أكثر مع الآخرين، حيث قال: أنا مكلف شرعيا، ومن أقواله الخالدة: أنه كان مرشحا لرئاسة الوزراء في سنة 2010 في عهد أياد علاوي لكنه تنازل، ومنذ سنتين وهو يبحث عن شخصيات مستقلة نزيهة كفوءة للمشاركة في كابينته، فالرجل قد خطط لذلك منذ سنين، فبدأ يتعامل مع قادة العملية السياسية كما يتعامل مدير شركة مع موظفيه، حيث قال: لقد أخترت شخصيات مستقلة من جميع مكونات العراق لكابينتي، ولا يحق لأحد التدخل في شؤوني، ودعني أذكر هنا - كشاهد – على ما جرى في لقاءنا - أي الوفد الكوردستاني- مع السيد المكلف، دخلنا غرفة الاستقبال، فلم يكن موجودا، بل كان في غرفة أخرى يسجل خطابا متلفزا للمتظاهرين، حيث لم ينتظر وفد كوردستان ماذا يريد وماذا سيقول، وهذه كانت نقطة الانطلاق في قناعنا أن هذا الرجل لا يصلح لقيادة البلد، ثم قال لنا: لقد اخترت شخصيات كوردية مستقلة نزيهة، ولا يتدخل أحد في ذلك، اذهبوا وفكروا في ذلك، فالرجل قد انهى مهمته، وقد قال الكلام نفسه للسنة، وهذا ما أسخط الوفد الكوردستاني والوفد السني ( تحالف القوى العراقية برئاسة الحلبوسي)، ولهذا أعلنا عن موقفنا أن هذه الآلية التي يتعامل بها علاوي معنا مرفوضة، لأن كوردستان كيان دستوري له برلمان وحكومة ورئاسة إقليم، لا يمكن لأحد أن يقرر بدلا عنا، وأن يحدد لنا من يمثلنا في الكابينة الحكومية، وقد عدنا الى أربيل وعقدنا اجتماعا مهما مع الرئاسات الثلاث وقادة الأحزاب الكوردستانية، وصدر عن الاجتماع بلاغ مهم يرفض الآلية التي اتبعها علاوي، وطالبه بتغييرها، وعندما أدرك علاوي أن آليته ليست مجدية، بدأ يغير مواقفه، وطالب برؤية الوفد الكوردستاني، وغير مواقفه السابقة، وبدأ اتصالاته بكثرة مع القيادة الكوردستانية، لأن عدم مشاركة الكورد يعني انهيار الحكومة، وخاصة أن وزير الخارجية الأمريكية بومبيو حذره بشدة من تهميش الكورد والسنة، والحقيقة أن الرجل بدأ بداية غير صحيحة، وهو يحاول تدراكها لكن داهمه الوقت، فأغلبية السنة رفضوه وطالبوا تبديله بأسرع وقت، والكورد موقفهم ثابت في عدم المشاركة، ومن الذين رفضوه المالكي واياد علاوي وبعض أطراف الفتح، والنصر والمكون المسيحي، وقد طالب السيد المكلف بتحديد موعد لجسلة البرلمان لمنح الثقة، ودستوريا ليس من حقه المطالبة، لذا طالب السيد عادل تحديد جلسة، ولكن النصاب لم يكتمل، طلب السيد المكلف بتأجيل الجلسة الى يوم الأحد 1-3-2020 لأن جبهة المعارضة اشتدت ضده، وهو اليوم الأخير من حياته السياسية، فهو إما سيعود الى بيته خائبا، وإما سينال الثقة، ومما دفع الكتل السياسية الى عدم دعمه، خوفها من سيطرة سائرون على مقاليد الحكم، لأنه بات من الواضح أن الفتح وسائرون وراء ترشيحه ودعمه وتأييده، ومع ذلك يدعي أنه مستقل، ويدعي أن وزراء كابينته مستقلون، وهذا غير صحيح على الإطلاق، بدليل وما أكثر الأدلة، فعندما رشح شخصية لتولي وزارة معينة، اعتذر الرجل، فاتصل بجهة سياسية ترشيح شخصية لتسنم هذه الحقيبة الوزارية، ثم إن طريقة عمله وسياسة تعامله مع الأحزاب السياسية كانت كارثية، فبدل أن يعلن الحرب على الفساد والإرهاب أعلن الحرب على الأحزاب، أليس من أبجديات الديمقراطية وجود أحزاب تتنافس على السلطة، ولدينا تجربة واضحة جلية أن الوزير الحزبي أقوى من الوزير المستقل، فالمستقل لا أحد يدعمه في البرلمان، ولهذا سيصبح الوزير المستقل ألعوبة بيد النواب، بينما الحزبي وراء نواب كتلته التي ينتمي إليها، وأكثر ما أقلق قادة الأحزاب والأطراف السياسية( سنة وشيعة وكوردا ومكونات أخرى) تغريدات الصدر المتكررة، ووكذلك مقابلته الأخيرة على قناة الشرقية، فهي لم تكن موفقة، بل فيها التهديد والتخويف لمن لا يوافقه، وكأنه الحاكم المطلق، فأمارة إقصاء للشركاء السياسيين واضحة، ولهذا نجد بعض أطراف الفتح ضد علاوي خوفا من سيطرة الصدر، أما العامري فقد قال لا أستطيع سحب دعمي لعلاوي، لسببين: لأن المرحلة خطيرة لا بد من تجاوزها، وهي انتقالية، فقد تحدث حرب أهلية شيعية، وهو نفس الموقف الذي اتخذه السيد عمار الحكيم، والثاني أن الصدر ربما وعد بترشيحه رئيسا للوزراء في الانتخابات القادمة المبكرة إن أجريت في موعدها، ولهذا لا يتصورن أحد أن كابينة علاوي انتقالية بل هي مفصلية تؤسس لمرحلة سياسية خطيرة، يكون الصدريون هم الأغلبية السياسية، لأنه بموجب قانون الانتخابات الجديد سيحصد الصدريون ربما مائة مقعد، وقد قال رئيس الهيئة السياسية للتيار الصدري الدكتور نصار الربيعي في اللقاء الذي جمعنا – وفد كوردستان- وإياه: سنشكل حكومة بأغلبية سياسية، ولا يمكن التنازل عن حقنا، لأننا تنازلنا كثيرا خلال الفترات السابقة، والحقيقية أن الصدر دائما يحاول ترشيح شخصيات مستقلة حتى يكتسب قوة الجماهير، ولكن في الحقيقة هدفه هو أن يجعلهم أي المرشحين أسرى عنده يتحكم فيهم كيف يشاء، ويمنَ عليهم باستمرار، ولا يختار من بين أعضاء تياره، لكي يبدو للناس رجلا مستقلا، والسبب الداخلي هو خوفه من تمرد أعضاءه عليه، وهذا ما حصل مرات عديدة، وقد انتهج الصدر الطريقة نفسها مع العبادي والسيد عادل وحاليا مع علاوي، ولهذا نجد علاوي أسيرا مطيعا للصدر بعد أن رشحه، فالخوف الحقيقي عند أغلبية الشيعة ناهيك عن السنة والكورد هو صَدْرنَةُ الدولة، فالسيد المكلف لا قرار له، بل هناك من يقرر عنه، ويحركه، فالرجل ليس مستقلا بل جاء بتزكية من الفتح وسائرون، وكابينته ليست مستقلة، حيث رشحت أسماء معنية لكابينته من جهات سياسية وشحصيات سياسية، ثم الأدهى من ذلك، أن اختياره ليس عراقيا، بل جاء من تدخلات خارجية فهي (طبخة خارجية)، كما قال الدكتور أياد علاوي، ولقد قال الرئيس بارزاني لأحد الوفود العراقية: متى سنتفق فيما بيينا على رئيس وزراء عراقي حقيقي، وليس رئيس وزراء من الخارج، وعليه أقول: إن علاوي أخفق في إعلان كابينته للأسباب التالية:
1) صور نفسه المنقذ الشرعي المكلف من وحي يوحى إليه من خلال خيالاته الفسيحة.
2) منذ سنين وهو يهيأ نفسه لهذا المنصب (المقدس في تصوره)، فقد أكمل كابينته من شخصيات مستقلة كما يدعي، والحقيقة أن كابينته من بين تجار ومتقاعدين وحزبيين وأصدقاء وأقرباء وبعضهم لا يعرف أين تقع بعض مدن العراق.
3) أعلن الحرب على الأحزاب وصورها للمتظاهرين أنها سبب دمار العراق، لا يمكن قبول هذا التعميم المجحف، فليس كل حزب عراقي فاسدا.
4) فالرجل لم يكن مستقلا، وقد كان نائبا ووزيرا، فشروط المتظاهرين لا تنطبق عليه، ولهذا تم رفضه من قبلهم، ومع ذلك يصر أنه مرشح الشعب، فمن يدعي أنه مرشح شرعي ديني كيف لا يدعي أنه مرشح الشعب حسب خيالاته.
5) علاوي رجل عقائدي وليس طائفيا، فالرجل العقائدي لا يكره الآخرين، بل يريد بقوة المنطق أن يقنع الآخرين أن يعتقدوا بعقيدته لأنه على الحق، بخلاف الطائفي الذي يكره الآخرين ويحاول بمنطق القوة أن يجبر الآخرين أن يعتقدوا بما يعتقده هو، لأنهم على باطل.
6) طريقة تعامله مع المكون السني كان فظا كما قال الدكتور ظافر العاني، وطريقة تعامله مع الوفد الكوردستاني كان مهينا كما رأيته بأم عيني، وعندما أدرك فداحة ما ارتكبه بحق المكونين، بدأ يصحح أخطاءه، ولكن بعد خراب البصرة.
7) تمسك علاوي بتحالف سائرون، وأهمل بقية الكتل السياسية، علما أن هذه الطريقة هي التي دفعت أطرافا شيعية الى الوقوف ضده، لأنه يعني أن المرحلة القادمة هي مرحلة صدرية، فسيكون مصير قادة الكتل السياسية الشيعية الأخرى السجن أو الخروج من العراق، هذا ما قاله لنا أحد قادة الكتل الشيعية.
أكتب هذه السطور وأمام علاوي ساعات معدودة، فقد يفشل ويعود الى بيته، وقد ينجح ويقود البلد، فأسبوع واحد في السياسة مدة طويلة كما يقول البريطانيون، وفي العراق حتى بضع ساعات مدة طويلة في السياسة، ودأبنا أننا نصل الى النتيجة في الوقت الضائع، أغلبية السنة رافضون لعلاوي، وكذلك الكورد، وبعض الأحزاب والأطرف الشيعية أعلنت رفضها له، وهناك محاولة حثيثية لتبديل علاوي، وإذا تم تمرير هذه الحكومة دون مشاركة السنة والكورد، فهي بكل تأكيد حكومة غير وطنية، وهي سابقة خطيرة تهدد العملية السياسية، وستدفع المكونين الرئيسين الى البحث عن خياراته، فالسنة متجهون الى الإقليم، والكورد متجهون نحو الكونفدرالية، ولهذا من الصعب جدا تمرير هذه الكابينة، والحل الأنجع هو البحث عن بديل آخر لعلاوي شريطة أن يكون عراقيا حقيقيا من داخل العراق وليس من خارجه، حتى يعرف كيف يتعامل مع العراقيين على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم وطوائفهم وقومياتهم وأحزابهم، ولا يتعامل مع إقليم كوردستان كما يتعامل مع المحافظات العراقية.