طبيعي أن تكون من طائفة معينة ومعتقداً بمذهب معين، ولكن ليس من الطبيعي أن تكون طائفيا ولا مذهبيا، والفرق أن الطائفي يرى طائفته على الحق المبين، وغيره على الضلال المبين، ولهذا سمى البعض أنفسهم عصائب أهل الحق، ومعنى ذلك أن غيره عصائب أهل الباطل، وهذه الحالة الطائفية ليست موجودة عند المسلمين فقط بل تجدها عند أهل الديانات الأخرى، ففي اليهودية والمسيحية والبوذية والهندوسية تجد هذا النوع من التفكير الطائفي، الى درجة ارتكاب الجرائم بحق الطوائف الأخرى في الديانة نفسها، دعنا لا ندخل في مقارنة الأديان والمذاهب، ولنركز على الحالة الإسلامية، حيث نجد أن الطائفية جلبت الدمار والخراب والفساد والكراهية الى مجتمعاتنا، وذلك لأنها في كنهها وحقيقتها ترسخ ثقافة الكراهية وبغض الآخر، بل تصل الى مرحلة إلغاء الآخر وسحقه، لأنها أي الطائفية تركز على ملفات الماضي وليس على تطلعات المستقبل، فهي تنبش التاريخ لكي تنتقم وتحاكم، وليس لكي تستفيد وتتعلم، وهي لا تنتعش إلا في أحقاب الماضي ولا تنكمش إلا في تطورات المستقبل، وما دخلت الطائفية بلدا إلا دمرته، ولا ظهرت فيه إلا أفسدته، وأمامنا تجربتها المرة والفاشلة في سوريا ولبنان واليمن وأفغانستان والعراق وغيرها من البلدان المسلمة، فقد غدت الطائفية أسمى من الوطن والدولة والدستور، هل يعقل أن يقتل مواطن عراقي في سبيل الطائفية في سوريا؟ هل يعقل أن يقتل مواطن باكستاني لنصرة الطائفية في اليمن؟ هل يعقل أي يقتل عربي في أفغانستان لإحياء الطائفية؟ سئل قيادي طائفي عراقي: إذا وقعت الحرب بين العراق وايران لا سامح الله، فمع من ستكون؟ قال سأقاتل تحت راية الولي الفقيه ضد العراق، لأن هذه عقيدتي، فالطائفيون في كل مكان يقاتلون ويَقتلون ويُقتلون في سبيل الطائفية، فهؤلاء لا وطن لهم ولا حدود ولا انتماء، دينهم ووطنهم ودستورهم وانتماءهم هو الطائفية فقط، إذا كنا نبحث عن الدولة المدنية والديمقراطية والمواطنة فإن الطائفية تنسف هذه الأسس نسفا، ولسنا مستعدين أن نعيش في دولة طائفية شعارها يحيى الماضي ويموت المستقبل، بل إن كل من يريد العيش الكريم والسعادة والاستقرار لبلده سيقف ضد الطائفية، لأنها تفسد علينا عيشنا وسعادتنا واستقرارنا وآمالنا وطموحاتنا، هل رأيت بلدا دخلت أو ظهرت فيه الطائفية فاستقر؟ بل تحول الى جحيم لا يطاق، ولذلك سيبقى الصراع قائما بين الطائفيين والمدنيين، ولن ينتهي إلا بالقضاء على الطائفية، ولا نعني بذلك القضاء على الطائفة فهي باقية لأنها عقيدة شعب معين يجب احترامها، ولقد أفلست الطائفية في كثير من البلدان، وكشفت عن وجهها القبيح، وخاصة في العراق ولبنان، فالعراقيون بعد ستة عشر عاما أدركوا أنهم خدعوا من قبل الطائفيين باسم الطائفة، وفي لبنان أيضا تعرى لشعب لبنان الوجه الحقيقي للطائفية، وكذلك في اليمن وسوريا وافغانستان وغيرها من البلدان المسلمة، ولا جرم أن الطائفية ثمار ولاية الفقيه، فلو لم تكن هناك ولاية الفقيه لما كانت ثمة طائفية، فالطائفية من نتاج ولاية الفقيه(المرجعية الناطقة)، فعندما تتدخل ولاية الفقيه في جميع شؤون السياسية والدولة فهي ستنتج طائفية، لأنها ستهتم بشؤون طائفتها، ولا تعير اهتماما بشؤون الطوائف والأديان والقوميات الأخرى، فرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والنواب والوزراء والمحافظون لا بد أن يكونوا من تلك الطائفة حصرا، ولهذا عارض كثير من المرجعيات الدينية الشيعية التاريخية هذه الولاية المطلقة التي ترسخ الطائفية وتهدد السلم المجتمعي وحقوق الإنسان والتعايش الديني، بينما المرجعية الدينية في النجف(المرجعية الصامتة) وعلى رأسها السيد علي السيستاني تعارض ولاية الفقيه معارضة شديدة، وترى أنها لن تتدخل في شؤون الدولة والسياسة، بل رسالتها النصح والإرشاد عن طريق خطب يوم الجمعة أو الفتاوى التي تصدر بين الفينة والأخرى، وإن كنت ألاحظ تطورا في تدخلاتها في شؤوون السياسة، وهذا لا يبشر بخير، فالمرجعية مكانها الطبيعي في الحقل الفقهي والشرعي والديني، والحق أقول إن بعض الساسة يجرون المرجعية الى السياسة جرا، وأحيانا تتدخل في حالات قصوى يتعرض البلد الى انهيار وتفكك، ولكن في تقديري ينبغي للمرجعية الدينية أن تحافظ على حرمتها، فمجرد تدخلها في السياسة سينظر إليها أنها ولاية فقيه، ووقتئذ ستفقد ثقلها الديني والمجتمعي، فالسنة يحترمون المرجعية لكونها مرجعية دينية لطائفة معينة، ولهذا يغضون الطرف عن هوية المرجع الديني سواء كان باكستانيا أو أفغانيا أو إيرانيا، ولكن عندما يتدخلون في شؤون الدولة والسياسة، فعندئذ سيهتمون بهوية المرجعية، ويكون لسان حالهم: كيف لرجل إيراني أو أفغاني أو ما شبه ذلك أن يتدخل في شوؤننا السياسية، ولو كانت عراقية وتدخلت في شؤون الدولة والسياسة لكان الأمر هينا، وإن كان ذلك أيضا مرفوضا، ثم ذلك يفتح للسنة والمكونات والطوائف الأخرى أن تسمح لمرجعياتها بالتدخل في شؤون السياسة، وإن كانت الطوائف الأخرى لا تعير اهتماما بمسألة المراجع الدينية، ولكن ذلك لن يمنعهم من السماح لهم بذلك، لمواجهة المرجعيات الدينية الأخرى لطوائف أخرى، ولكي ننجو من هذه الجدلية العميقة والعقيمة ينبغي فصل الدين عن الدولة، ليس لأننا لا نريد الدين، بل إن الدين هو الحياة، ولا حياة لمن لا دين له، ولكن لكي لا يستغل الدين من قبل البعض لمآرب سياسية، كما حصل ويحصل باستمرار في العالم الإسلامي، وهذا الفصل والتمييز يشمل السنة والشيعة معا، فالمرجعية الدينية الأصيلة عبر التاريخ الشيعي لم تتدخل في السياسة، بل كانت رسالتها دينية شرعية فقهية، وخاصة مرجعية النجف، وجميع الذين تدخلوا في السياسة كانوا من أنصار الإسلام السياسي الشيعي، وينطبق الأمر على السنة، فعلماء السنة كانت رسالتهم في المساجد، ولم تخرج منها، والذين أخرجوا تلك الرسالة كانوا من أشياع الإسلام السياسي السني، ولقد بات جليا أن الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي فشل، وجلب التخلف والفوضى في المنطقة، بل ما دخل الإسلام السياسي أرضا إلا أسرع إليها عدم الاستقرار، والذي أريد أن أصل إليه أن تدخل المرجعية الدينية في شؤون الدولة والسياسة يتعارض قطعا مع مباديء الديمقراطية والمدنية، وبمرور الزمن ستتحول الدولة الى دولة دينية أيدولوجية، وهذا لا مناص سيهدد مستقبل العملية السياسية، ومصير الدولة الوطنية، فالعراق بلد المكونات بوجب الدستور، ولن ترضى المكونات والطوائف والأديان والقوميات الأخرى العيش والبقاء في دولة دينية طائفية.