أسئلة ما بعد استفتاء كردستان
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
بعد شدّ وجذب ورفض وتأييد، مرّ الاستفتاء الكردي بهدوء داخل إقليم كردستان وفي المناطق المتنازع عليها، على الرغم من بعض التحفظات والمناشدات على المستوى الدولي، أو ردود الفعل الحادة على المستوى الإقليمي، لاسيّما الإيراني والتركي، أو الرفض الشديد وشبه الجماعي على المستوى الداخلي من جانب الحكومة الاتحادية والغالبية الساحقة من القوى السياسية على اختلاف توجهاتها وتياراتها.
ومع تلويح تركي بالخيار العسكري وقصف إيراني لمواقع قرى كردية قالت طهران أن فيها قواعد لإرهابيين، ومناورات للجيش العراقي، واتصالات بين طهران وأنقرة وبغداد وإجراءات معلنة ومستترة للعقوبات من جانب البرلمان العراقي وبعض القوى العراقية، فإن احتمالات اندلاع حرب داخلية عربية - كردية أو بمشاركة أطراف إقليمية ليس وارداً على الأقل في الوقت الحاضر، لكن ذلك لا يمنع من تصاعد التوتر في المناطق المتنازع عليها واحتمالات انفلاتات محدودة من هذا الطرف أو ذاك بما فيها أعمال عنف وإرهاب قد يستغلها داعش والمنظمات الإرهابية.
لقد أصرّ رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني على إجراء الاستفتاء في موعده المقرر في 25 سبتمبر (أيلول) ولم يلتفت إلى جميع المناشدات بالإلغاء أو التأجيل، خصوصاً بعد فشل محاولات الحصول على ضمانات من بغداد ومن المجتمع الدولي كما قال، لذلك مضى إلى الاستفتاء باعتباره الحل الأخير لتأكيد حق شعب الإقليم في إقامة كيانية خاصة به، تأخذ شكلاً قانونياً ينتظر بعد إعلانه اعتراف المجتمع الدولي به، لكن ذلك لن يكون سريعاً أو برسم التنفيذ، بل إنه يحتاج إلى حوار طويل لكي يتم التوصل إلى ما هو مقبول من الأطراف المختلفة.
وكانت بعض نتائج الاستفتاء الأولية قد قالت أن نسبة المشاركين بلغت أكثر من 70% وهي في إربيل أكثر من 80 % وأكثر منها في دهوك في حين كانت في السليمانية نحو 55% ، وفي المناطق المتنازع عليها كانت المشاركة عموماً ضعيفة، لكن العملية مرّت بسلاسة ودون حدوث مفاجآت منتظرة أو غير محسوبة، علماً بأن المشمولين بالاستفتاء حسب المفوضية الخاصة بالاستفتاء بلغ عددهم 5 ملايين إنسان.
ومع بدايات التصويت بنعم أو لا وهو الاستمارة الانتخابية الوحيدة، أصدر البرلمان العراقي سلسلة من القرارات منها: فرض السيطرة المركزية على المنافذ الحدودية والمطارات وإلزام الشركات النفطية الأجنبية بالتعامل مع الحكومة العراقية (الاتحادية) فقط والبدء بإجراءات لملاحقة أموال قادة الإقليم في الخارج وقطع مرتبات الموظفين الأكراد الذين شاركوا في الاستفتاء، وتضمّنت إجراءات البرلمان : إغلاق المنافذ الحدودية مع كردستان في كل الاتجاهات واعتبار البضائع الداخلة منها مهرّبة، وإعادة حقول النفط إلى سيطرة الحكومة الاتحادية، خصوصاً حقول شمال كركوك، إضافة إلى إلزام الحكومة استعادة المناطق المتنازع عليها.
وإذا كان الكرد قد أعلنوا استعدادهم للحوار مع بغداد بعد الاستفتاء، لاسيّما عند فشل المفاوضات قبله، فإن ردّ الفعل من جانب بغداد، كان رفض الحوار، الأمر الذي سيعني تصعيد حدّة التوتر بين الطرفين، ولكن إلى أين سيفضي الموقف؟ وكيف يمكن حل أي قضية دون حوار وأخذ ورد، سواءً طال هذا الحوار أم قصر؟ وبغض النظر عن مطالب وحقوق ومشروعية كل طرف، فالحوار هو السبيل الأنسب والأنجع للتوصّل إلى حلول مرضية وبأقل الخسائر للأطراف المختلفة، لأن عكسه ستكون الحرب والصراع المسلح، وهذه مهما كانت نتائجها فإنها ستكون الأكثر إيلاماً وأذى وإبتعاداً عن تلبية الحقوق.
ولعلّ أول سؤال يتبادر إلى الذهن كيف يمكن للحكومة الاتحادية استعادة المنافذ الحدودية، التي يسيطر عليها الإقليم منذ أواخر العام 1991 حيث كانت الإدارة الحكومية قد انسحبت ، بالإضافة إلى قوات الأمن والشرطة وحرس الحدود، وتركت كردستان التي حظيت بدعم التحالف الدولي كمنطقة آمنة safe heaven. لتقيم سلطة الإقليم،ثم كيف يمكن للكرد تنفيذ نتائج الاستفتاء في إطار خطة طويلة الأمد؟ بتقديري إن الطرفين في نهاية المطاف سيضطران إلى الجلوس إلى طاولة الحوار، ولعلّ من الأفضل الركون إليه الآن وليس بعد حين.
هكذا سيكون عراق ما بعد الاستفتاء هو غيره عراق ما قبل الاستفتاء، وكذلك كردستان، وبما إن الأمر سياسي بامتياز فهو يحتاج إلى حل سياسي بامتياز أيضاً، أي إن المسألة المطروحة ليست أزمة سياسية للحكم كما نعرفها منذ تصدّع إطار الشرعية الدستورية في العراق، وخصوصاً بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958، وما بعدها في إطار سلسلة الانقلابات العسكرية والدكتاتوريات الحاكمة وصولاً للاحتلال، بل له علاقة بمستقبل الدولة العراقية وكيانيتها، فإمّا أن تبقى دولة كما عرفناها منذ التأسيس 1921 أو أن لا تكون، بمعنى أن جزء منها قرر الإنفصال عنها وإعلان الاستقلال في إطار تمثيله للشعب الكردي لتقرير مصيره عبر استفتاء حصل على موافقة ساحقة بالتأييد لإقامة دولة مستقلة.
ولكن السؤال ما هي حدود هذه الدولة؟ هل هي حدود ما قبل 19 مارس/آذار العام 2003 أم أنها ستشمل كركوك وبعض المناطق المتنازع عليها كما يريد الكرد؟ أو إن موضوع كركوك بشكل خاص سيبقى مؤجلاً، وقد يتطلب ذلك شكلاً مشتركاً لإدارة مشتركة؟
وأياً كان الوقت الذي سيستغرقه قيام الدولة وأياً كان طريقة قيامها، سلماً أو حرباً، وأياً كان شكل نظامها ديمقراطياً أو دكتاتورياً، فهناك مشكلات لا بدّ من بحثها في إطار التغيير الجيوبوليتيكي الذي سيطال المنطقة في الحال وفي المستقبل، بعضها ربما على نحو عاجل والآخر تدرجي طويل الأمد، وربما بعضها يحتاج إلى تغييرات مجتمعية وسياسية لا تتعلّق بالعراق وحده ، بل بدول الإقليم والمحيط .
وسيتم الأمر في إطار تحالفات واصطفافات إقليمية جديدة والأمر رهن بالسياسة، ولا سياسة من دون الحوار، حتى وإن كان الحوار بالسلاح، باعتبار الحرب شكلاً من أشكال السياسة بوسائل حربية أو عسكرية حسب المفكر كلاوزفيتز، ولكن في نهاية المطاف، لا بدّ من حوار حتى لو كان طويلاً واستغرق عقداً أو أكثر من الزمان، لكنه في الأخير لا بدّ من التوصّل إلى حلول لتحديد شكل العلاقة المستقبلية، فكيف ستكون؟
وماذا لو أعلنت هذه الدولة أنها ستتّحد بالعراق في إطار دولة كونفدرالية مثلاً؟ أي الإبقاء على الجيش موحداً والسياسة الخارجية وبعض الفاعليات الاقتصادية مثلا النفط، وفيما عدا ذلك سيكون الاستقلال كاملاً في جميع القضايا الأخرى، أو أن الاستقلال سيكون كاملاً وتاماً ونهائياً كدولة مستقلة.
وبالتالي هل ستكون دولة صديقة أم عدوّة؟ وهل تتحالف مع أعداء العراق العربي مثلاً أم أنها ستنتظم في إطار معاهدة صداقة وتعاون مع العراق وفقا لمصالح الشعبين الجارين وأهدافهما المشتركة والعلاقات المتبادلة والمتفاعلة والمتداخلة بينهما؟
وكانت علاقة الإقليم بالمركز من أواخر العام 1991 أقرب إلى كونفدرالية، سواء في أوقات المعارضة أو حين كان الكرد شركاء أساسيين وفاعلين في العملية السياسية، وحين صيغ الدستور العراقي الدائم العام 2005 بعد قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية لعام 2004 أخذ هذه الحقائق بنظر الاعتبار، سواء في وزن وصلاحيات الإقليم واستقلال القوات المسلحة الكردية (البيشمركة) وقضايا النفط والمناطق المتنازع عليها بموجب المادة 58 من قانون إدارة الدولة التي تم ترحيلها للمادة 140 من الدستور والتي لم تنفذ، وإنْ كانت هذه ألغاماً في الدستور الذي يقول الفرقاء إنهم متمسكون به، لكنه في واقع الحال يصدر إشارات منذرة بالانفجار بين فترة وأخرى وعند أول منعطف يصادفه.
وحين يلقي الكرد اللوم على عاتق بغداد بعدم تنفيذ الدستور، فإن بغداد تعتبر القضم التدريجي لهذه المناطق هو الذي يحول دون التطبيع وإجراء إحصاء سكاني ومن ثم القيام بالاستفتاء، وإن كان الأمر أبعد من ذلك. ويذهب الكرد إلى أن الدستور أعطاهم الحق في إجراء الاستفتاء باعتبار تطبيقه " ضمانة لوحدة العراق" وبما أنه لم يطبّق، بل إن ما يقارب من 50 مادة منه ظلّت معوّمة، لأن معظمها معلقاً بتشريع قانون خاص بها فمن حقهم اللجوء إلى الاستفتاء لحسم مصيرها، إلاّ أن بغداد ليست وحدها المسؤولة عن عدم تطبيق الدستور، بل إن الإقليم هو الآخر مسؤول فيما وصل إليه وضع البلاد الذي انتهى منذ ما يزيد على ثلاث سنوات للخضوع إلى حرب فرضها عليه داعش بعد احتلال الموصل العام 2014، ناهيك عن ما تعانيه البلاد من عنف وإرهاب وتمييز وفساد مالي وإداري ونظام محاصصة طائفي وإثني، بل إن بغداد تعتبر الشروع بإجراء الاستفتاء إنما هو خروج على الدستور الذي أقسم الجميع على حفظه لوحدة العراق. وهكذا يعلّق الجميع مشاكلهم وأخطاءهم على شمّاعة الدستور.
قد يكون من السابق لأوانه التكهن بما ستؤول إليه العلاقة بين بغداد وأربيل ولكن يمكن القول بثقة: إن الحركة الكردية فشلت في تحقيق أهدافها بالسلاح والعمل العسكري ، كما فشلت الحكومات المتعاقبة من القضاء على الحركة الكردية بالعمل المسلح والحرب التي شنّتها ضد الشعب الكردي وليس هناك من سبيل الآن سوى الجلوس إلى طاولة المفاوضات، فهي التي سيكون بإمكانها إيجاد الحلّ المناسب.
وهناك أسئلة معقدة بخصوص مشكلات محافظة كركوك ومناطق سهل نينوى وسنجار وما يتصل بالمناطق المتنازع عليها في محافظتي صلاح الدين وديالى والموصل، وهذه قد تشهد احتكاكات وأعمال عنف أو بعض الصدامات المسلحة المحدودة، لكنه من غير المحتمل أن يذهب أي طرف من الأطراف المتنازعة إلى شن الحرب لأنه لا غطاء سياسياً دولياً لها، لاسيّما من قوات التحالف الدولي التي تقوم بدور كبير في محاربة داعش وفي دعم العراق كدولة والإقليم كجزء منه يطمح في تحقيق الاستقلال.
كما إن شن الحرب من جانب بغداد على الإقليم أو حتى على المناطق المتنازع عليها لفك ارتباطها بالإقليم بالقوة، سيساعد على تسريع الاعتراف الدولي بالدولة الكردية، التي سيكون الاستفتاء مبرراً شرعياً وقانونياً لصالحها، خصوصاً وإن الحكومة العراقية لا تحظى بالتأييد الدولي في ظل حكم الأحزاب الإسلامية، بل إن البعض يعتبرها موالية لإيران التي يتعارض مشروعها مع العديد من دول المنطقة.
وإذا أخذنا تاريخياً بموضوع مظلومية الكرد، فإن شن أي حرب مهما كانت الأسباب، سيعيد إلى الأذهان حملات الأنفال وقصف حلبجة بالسلاح الكيماوي وسيكون ذلك ليس في صالح بغداد أو التسوية السلمية لكلا الطرفين.
ومن المشكلات التي تحتاج إلى التفكير بحلول لها هو إدارة الموارد المائية، خصوصاً وأن نهر دجلة يمرّ من خلال إقليم كردستان ويمر الفرات بمحاذاته قريباً من المناطق الكردية السورية، الأمر الذي سيكون محط اشتباك تركي وسوري (كردي) وعراقي وهي مشكلة قائمة منذ السبعينات، لاسيّما باستكمال بناء مشروع الكاب التركي لبناء منظومة سدود ضخمة وحجب منسوب المياه باتجاه العراق العربي.
ثم كيف سيتم التعامل مع الأكراد العراقيين الذين يحملون الجنسية العراقية خارج الإقليم، والعرب الذين سيكونو داخل الإقليم ،سواء في مناطق كركوك سابقاً، أو بعض الذين استقروا بعد حملات داعش في كردستان. ولو كان الأمر يتم بالتفاهم لكان بالإمكان حمل هويتين أو جنسيتين مزدوجتين كما هي بين الجيك والسلوفاك.
وهناك مشكلات تتعلق بالمواصلات البرية وطرق النقل وما يترتب على ذلك من أعباء على الدولة والإقليم وكيف يمكن حلّها. والأهم من ذلك كيف سيكون إنتاج وتصدير النفط من حقول كركوك وبيد من؟ وكل ذلك يحتاج إلى حوار طويل الأمد، خصوصاً بعد الاستفتاء، سواء كان حواراً عاجلاً أم آجلاً، كما يحتاج إلى تنازلات متبادلة ومراعاة المصالح المشتركة.