عن الخريطة الأممية لليبيا
د. عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
حين اختطف رئيس الوزراء الليبي الأسبق علي زيدان، عدتُ بذاكرتي إلى أكثر من ربع قرن مضى ، يوم كنّا نحضر مؤتمراً في القاهرة العام 1993، وأعلن عقب انتهائه عن الاختفاء القسري لمنصور الكيخيا ممثل ليبيا الأسبق في الأمم المتحدة، والذي كان قد انضم إلى صفوف المعارضة الليبية في الخارج، التي كان علي زيدان أحد نشطائها البارزين في ألمانيا. وبعد أن شكّلنا لجنة عربية للدفاع عن منصور الكيخيا في لندن، كان علي زيدان قد حضر الاجتماع لإعلانها، والتي ضمّت محمد المقريف رئيس المؤتمر الوطني الليبي (لاحقاً) إلى عضويتها، إضافة إلى شخصيات فكرية وسياسية ودبلوماسية بارزة، وكانت برئاسة الشاعر بلند الحيدري .
قلتُ مع نفسي هكذا يدور الزمن، فعلي زيدان الذي عمل ما في وسعه لإجلاء مصير الكيخيا، هو اليوم يختفى قسرياً بفعل الصراع السياسي وضعف الدولة وتفكّك مؤسساتها واستشراء العنف والإرهاب في البلاد. وحين علمت بإطلاق سراحه وشاهدته من على شاشة التلفزيون، استعدتُ مشهد اكتشاف رفات منصور الكيخيا في أواخر العام 2012 والاحتفال الكبير الذي نُظِّم له في طرابلس وبنغازي، حيث كان علي زيدان وقتها رئيساً للوزراء، وكان لي شرف حضور الاحتفال وإلقاء كلمة فيه، وكنتُ قد أصدرت كتاباً عن الكيخيا (العام 1997) بعنوان " الاختفاء القسري في القانون الدولي- الكيخيا نموذجاً".
ولعلّ مونولوجي الداخلي كان يقول: إلى متى تبقى ليبيا تعيش مثل هذا الاستعصاء والاستثنائية والتفكك؟ وبعد أن قرأت خريطة الطريق الأممية الجديدة التي اقترحها المفكر اللبناني والمبعوث الأممي غسّان سلامة، قلتُ عسى أن تكون هذه الخطّة هي الفرصة الأخيرة، بعد أن عانت البلاد لعقود من الزمان من الاستبداد والعنف والفردية والارتجالية والفوضى . وإذا كان هناك ما يثير التشاؤم لديّ منذ عقود من الزمان، لكنه تشاؤم بلا يأس ، طالما هناك إرادة على تجاوز ذلك، لوضع حدّ للأزمة الليبية المستفحلة والمستمرّة منذ الإطاحة بنظام معمر القذافي في العام 2011، والتي ازدادت تعقيداً وعمقاً، بصعود النزعات الجهوية والقبلية وانقسام الدولة ومؤسساتها وانتشار الميليشيات والسلاح على نحو منفلت من عقاله وتفشي الفساد المالي والإداري وتعطّل التنمية واستشراء العنف والإرهاب، خصوصاً بانتعاش تنظيم الدولة الإسلامية "داعش".
وتستهدف الخطة بناء دولة المؤسسات التي تكون الكلمة فيها للقانون والدستور، لتجاوز مرحلة التيه السياسي على حدّ تعبير سلامة، الذي أشاد بقدرات ليبيا الكبيرة وحق مواطنيها في مستقبل زاهر، خصوصاً بعد فقدان الثقة بالسياسيين الذين أخفقوا في تقديم ما يجعل الليبيين غير نادمين على ثورتهم ضد النظام السابق.
وتشمل خريطة الطريق الأممية ثلاث مراحل هي: الأولى ستبدأ بتعديل اتفاق الصخيرات الذي أبرم في المغرب في أواخر العام 2015. والثانية عقد مؤتمر وطني لدمج الفاعلين على الساحة السياسية والشروع بحوار مع الجماعات المسلّحة لضم أفرادها في العملية السياسية. والثالثة إجراء استفتاء شعبي لاعتماد دستور جديد للبلاد في مدّة لا تتجاوز عام واحد، الأمر الذي سيفتح الباب أمام إمكانية إجراء انتخابات عامة لانتخاب رئيس لليبيا وبرلمان جديد.
ولعلّ هذه الخريطة تحتاج إلى قبول من الأطراف المختلفة، وإرادة سياسية متوافقة، فضلاً عن جدّية من الأمم المتحدة، حيث سبقها مبادرات عديدة، لكنه تم تسويفها والالتفاف عليها وامتناع بعض الأطراف من تنفيذها. ولكي تنجح تماماً فلا بدّ من الحصول على دعم الدول العظمى، ولاسيّما أعضاء مجلس الأمن الدولي (الدائمين)، إضافة إلى الدول الإقليمية والمحاور التي قامت عليها، سواء بدعم هذا الفريق أو ذاك.
لقد حاول غسّان سلامة تقديم قراءته للمشهد الليبي في إطار الواقعية السياسية مستفيداً من الخبرة المتراكمة لمن سبقوه بإيجابياتها وسلبياتها، إضافة إلى خبراته الدبلوماسية وكفاءاته السياسية، خصوصاً وهو يدرك إن فريقي الصراع ليس بإمكان أحدهما القضاء على الآخر، وبالتالي لا بدّ من حلول وسط يلتقي عندها المتصارعون وتعترف بالتمايز والاختلاف في إطار ليبيا الموحدة،علماً بأن استخدام السلاح لم يكن مجدياً أو حاسماً، وبالتالي لا بدّ من البحث عن مخرج سلمي لإغلاق ملف الحرب الأهلية والنزاع المسلح والعنف والإرهاب الذي يستمر منذ 6 سنوات ونيّف.
ولكي تكون العملية السياسية شاملة، فلا ينبغي استثناء أية قوى سياسية أو مدنية بما فيها الجماعات المسلحة التي عليها إلقاء السلاح والتوجه صوب حلّ سلمي يتوافق عليه الفرقاء، ولا يفترض فيه تهميش أي أحد، وقد كانت قمة الكونغو الأخيرة وزيارات تونس ولقاء بعض الفرقاء، مقدمة أولية للسير بخريطة الطريق الأممية.
وستكون خطة غسّان سلامة الأممية أقرب إلى جرس إنذار قد يكون أخيراً، فإمّا الاستمرار في التشرذم والتفتت والانفلات، وأما الاتفاق والتوافق بالتراضي على الانتقال إلى دولة مدنية لجميع الليبيين على أساس المواطنة المتساوية والشراكة والحد الأدنى من حقوق الإنسان الأساسية الجماعية الفردية.