التعايش السلمي في كردستان
د.عرفات كرم ستوني
لكي نحقق التعايش السلمي في كردستان أو أي مكان في العالم لا بد من العمل على تأسيس حوار ناجح مثمر، وذلك لأن الحوار أساس التعايش السلمي، ولقد ذكر اللاهوتي السويسري هانز كونج أنه لا سلام بين الديانات إذا لم يكن ثمة حوار، وهذا الحوار لا بد أن يكون حوارا جديا لا تكتيكيا، حوار من أجل تحقيق تعايش سلمي حقيقي يضمن مستقبلا زاهرا للأجيال القادمة، ويكون قاعدة أساسية لبناء مجتمع مسالم بعيد عن ثقافة الكراهية وإلغاء الآخر، كما هو الحال في بعض البلدان مع الأسف الأسيف.
لا يخلو دين من الأديان سواء كان سماويا (إبراهيميا) أو دينا أرضيا من مجموعة متطرفة تحاول دوما إجهاض مشروع الحوار، بحجة أن الحوار يقتضي التنازل عن العقائد الأساسية، ويقتضي في الوقت نفسه الاعتراف بالدين الآخر، وهؤلاء هم المحافظون في زعمهم، ومعلوم أن ذلك كله غير صحيح، فالاعتراف بالآخر لا يقتضي الاعتراف بأحقية دينه، ولا يقتضي التنازل عن العقائد الأساسية، فالأمر كله متعلق بإيجاد أرضية خصبة للتعايش المشترك، والاتفاق على الأصول المشتركة، فيما يحقق للطرفين السلم الاجتماعي والتعايش الديني الآمن، ولقد اعترف الإسلام بفلسفة الحوار كقاعدة أساسية لبناء مجتمع مسالم، ولسنا بحاجة إلى إعادة الحديث عن ذلك، فقد مر ذكره، لكن أرى من الضروري الإشارة إلى الآية التي أسست ورسخت مفهوم الحوار، قال تعالى{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }، فلقد خلق الله تعالى الناس على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وقومياتهم ومذاهبهم وعقائدهم ودياناتهم، من أجل أن نتعارف، وهذا التعارف ليس مجرد معرفة بعضنا ببعض فقط، بل الأمر أعظم من ذلك، هذا التعارف يعني الحوار والتعاون والتضامن، وإلا أي غرض يمكن أن يتحقق بمجرد معرفة بعضنا ببعض، فلقد غدا جليا أننا نعيش في عصر يمكننا أن نتعارف من غير أن نلتقي، فالغاية التي تغياها الآية تحقيق العمل المشترك، والمنافسة إلى فعل الخيرات، فخير الناس من نفع الناس، فلو لم يكن الهدف ما ذكرناه لكان مفهوم التعارف صفرا خاليا لا معنى له.
عندما نتحدث عن الحوار لا نقصد به هنا الحوار بين الأديان فقط، بل هو حوار بين كل طرفين، بين دين ودين آخر، بين مذهب ومذهب آخر، وبين قومية وقومية أخرى، بين بلد وبلد آخر وهلم جرا، لأن المقصد الأعلى من ذلك تحقيق حياة آمنة لجميع الأطراف المتباينة في هذه القرية الصغيرة، لكن الحوار إذا أطلق أريد به الحوار بين الأديان، وذلك لأهميته القصوى، فلو تحقق ذلك لكان ما دونه أهون.
أطلق المجمع الفاتيكاني الثاني دعوة للحوار بين الإسلام والمسيحية، وذلك من أجل نسيان الماضي، والإنصراف باخلاص للتفاهم المتبادل، ويذكر جورافسكي أن هذه الدعوة بين أوساط الكنيسة الكاثوليكية أنتجت ثلاث نزعات من حيث الموقف من هذا الحوار، أي الحوار الإسلامي المسيحي، النزعة الأولى وهي الأكثرية حيث أيدت الحوار انطلاقا من قرارات المجمع الفاتيكاني ووثائق الفاتيكان والرسائل البابوية اللاحقة... أما أنصار النزعة الثانية، فإنهم لا يمانعون من حيث المبدأ في إقامة الحوار بين الديانتين، لأنهم يشترطون في إقامته ضمن المجال الدنيوي البحت... بينما تتجلى مواقف النزعة الثالثة، ومنطلقاتهم في رسالة الأسقف اللبناني.ب. بسيم إلى الكاردينال بينيدولي الذي ترأس سر اللجنة الخاصة بشؤون الديانات غير المسيحية(1977)... يؤكد بسيم أن الشكل الوحيد المقبول لدى المسلمين فيما يخص النسق الاجتماعي – السياسي هو الأمة، أي الجماعة الإسلامية – الثيوقراطية، التي تضع المسلمين (الأغلبية) في مرتبة المحامي و الراعي لديانات الأقليات الأخرى... وهذا الواقع يحول وحده دون إقامة أي حوار مفيد بين الديانتين".
لكن النزعة الأولى هي التي انتصرت على بقية النزعات لضرورة الحوار، فلو لم يكن ثمة حوار لحل محله التصادم والتنازع والصراع، وهذه فرصة ذهبية لأشياع التيار المتطرف في الأديان المختلفة للقضاء على أبجديات الحوار وأسسه وقواعده، وفي النهاية سيكون المتضرر الأول والخاسر الأكبر في هذا الصراع أتباع الديانات من المعتدلين من الذين يحملون أملا للأجيال القادمة، وسلاما للبشرية جمعاء، لا ريب أن هذا الحوار عويص من الناحية العملية، لكن مجرد وجوده والإيمان به والدعوة إليه خطوة في الاتجاه الصحيح، فهو بمرور الزمن سيتحول إلى واقع عملي، فلو قارنا بين السنين التي خلت، لوجدنا تطورا ملحوظا في الحوار والتعاون والتضامن، لا أحد ينكر بعض المعوقات والمشاكل، لكنها طبيعية فيما يخص حوارا بين ديانتين عاشا أتباعهما قرونا طويلة في صراع مرير وصدام عنيف.
ومن الضروري الإشارة إلى بعض هذه المحاولات التي جرت في السنوات الماضية من أجل تحقيق حوار جدي حقيقي بين الأديان وخاصة الحوار بين الإسلام والمسيحية، ففي سنة(1965م) تحدث كاردينال الكنيسة الكاثوليكية ف.كينيغ أمام العلماء المسلمين في جامعة الأزهر، وهي هي المرة الأولى منذ ألف سنة تقريبا يتحدث في هذه الجامعة رجل دين مسيحي، ومنذ ذلك الحين تجري اللقاءات الإسلامية المسيحية بصورة مستمرة، وبعد مرور سنوات دعي الكاردينال بينيدولي إلى زيرة جامعة الأزهر، وفي سنة (1974م) قام سكرتير (أمين سر) أمانة شؤون الديانات غير المسيحية الكاردينال بينيدولي بزيارة للسعودية، التقى الملك فهد، وفي السنة نفسها قام وفد من العلماء المسلمين من السعودية بزيارة الفاتيكان. ويمكن إيجاز أهم هذه المؤتمرات والندوات واللقاءات التي عقدت حول الحوار بين الأديان، وخاصة بين الإسلام والمسيحية:
1) إيطاليا (1973م) و (1985م).
2) قرطبة (1974م) و(1977م)، وفي مدريد (1978م).
3) تونس (1974م) و(1979).
4) طرابلس (1976م).
5) سويسرا (1977م).
6) النمسا (1977م) و(1978م).
7) البرتغال (1977م) عقد مؤتمر بين الديانات التوحيدية الثلاث.
بيروت (1977م).
9) فرنسا (1979م).
10) أستراليا (1979م)و (1980م).
11) ماليزيا (1979م).
12) يوغوسلافيا (1981م).
13) سريلانكا (1982م).
14) القدس(1984م).
15) زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى المغرب بدعوة من الملك الحسن الثاني سنة(1985) وألقى كلمة لثمانين ألفا من الشباب في الملعب الرياضي بدار البيضاء.
16) زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى كل من نيروبي وغانا للقاء ممثلي الجماعات الإسلامية في سنة (1980م).
17) زيارة البابا بولس الثاني للفلبين للقاء الأقلية المسلمة سنة(1981م).
ولا تزال هذه المؤتمرات والندوات واللقاءات مستمرة، وهي في حقيقتها تخدم البشرية بصورة عامة، وبذلك نستطيع أن نحقق السلام والأمن، ونحارب ثقافة العداء والكراهية، وإلغاء الآخر وإقصاءه.
نعود لنذكر أسطرا حول التعايش السلمي بين الأديان في كردستان، عاش أبناء الديانات الأخرى كاليهود والمسيحيين والإيزيديين والكاكائيين في كردستان عبر القرون في سلام ووئام وأمان واستقرار، وشارك الجميع في بناء كردستان، وفي إثراء ثقافتها وتطوير مدنيتها، فقدموا تضحيات جسام في سبيل هذا الوطن، ولا إخال أن أحدا ينكر ذلك، فالتاريخ الكردستاني حافل بالوقائع والأحدث التي تثبت هذه الحقيقة التاريخية، وعليه، فلقد عاش الجميع كشعب واحد ينتمي إلى وطن واحد يربطهم الإنتماء إلى الوطن، ولا مجال للتطرق إلى هذه المسألة بتفصيل.
لا جرم أن كردستان جزء من العالم الإسلامي، فلا يمكن أن نكون منفصلين عن هذا الواقع، وخاصة أن تهديدات الجماعات التكفيرية جدية بحق أتباع الديانات الأخرى، وبالأخص المسيحيين، ولقد تعرضوا لهجمات منظمة شرسة من قبل تلكم الجماعات مما اضطروا إلى ترك العراق والاستقرار في كردستان، وهم الآن آمنون ومطمئنون، ولا يشعرون بالغربة.
إن تاريخ كردستان يشهد على حقيقة هذا التعايش السلمي بين الأديان، حيث كان أتباع تلك الأديان بمرور الزمن يعيشون معا، الى درجة أن لا يشعر أحدهم بانتماء الآخر، بل كان طبيعيا أن يزور بعضهم بعضا في جل المناسبات، وخاصة القرى.
لا ريب أن ثمة حالات مؤسفة وقعت في تاريخ كردستان من المعارك والاعتداء والظلم بحق أتباع الديانات الأخرى، ولكن في تقديري كانت تلك الحالات عبارة عن نزاعات اجتماعية ومشاكل عائلية واقتصادية تحولت إلى صراعات دينية من أجل تحقيق بعض المكاسب الشخصية أو القبلية وهلم جرا، ولكن الخط العام والوعي الجمعي كان ضد هذه المحاولات اليائسة، وخاصة نجد هنا دور مشيخة وعلماء المنطقة في إخماد هذه الفتن الخطيرة، وسنذكر بعض هذه النماذج التي تفتخر بها كردستان في تاريخها، وسيكون الحديث أكثر حول المسيحيين، لكونهم يمثلون الأغلبية بين أتباع الديانات الأخرى كالإيزيدية والكاكائية:
موقف الشيخ عبد القادر النهري من المسيحيين
في خريف عام(1909) أقدم الشيخ عبد القادر بجولة في أنحاء شمدينان، وعمل وهو رئيس مجلس الدولة على عقد مؤتمر كردي – أرمني، وألقى فيه خطبة، أكد فيها إخلاصه للإتحاديين، وتمسكه بمبادئهم، إلا أنه أقلق بالهم عندما تطرق فيها إلى العلاقة بين الأرمن وبين شعبه الكردي، إذ قال::" علينا أن نعيش مع الأرمن كاخوة، علينا أن نعيد لهم تلك الأراضي التي يدعون بها، والتي لم تتم استعادتها بعد، وسنعمل معا على تقوية التفاهم والاتحاد مع إخواننا العثمانيين الآخرين"، يبدو أن الشيخ عبد القادر النهري يطبق سياسة والده تجاه المسيحيين، فعندما قام الشيخ عبيد الله النهري بثورته العظيمة، طلب منه أنصاره أن يسمح لهم بتقتيل نصارى أورمية، فقال:" نحن الكرد ننفع الترك في شيء واحد، وهوأن نكون أسلحة في أيديهم ضد المسيحيين، وعندما لا يبقى مسيحي في الساحة، فإنهم يقلبون ظهر المجن لنا، ويبيدوننا جميعا".
موقف الشيخ سعيد النورسي من المسيحيين
كان الشيخ سعيد النورسي آمرا عسكريا على قوات الفرسان الحميدية في مناطق موش، وفي هذه الأثناء أمره الجنرال التركي(نوري ويسي) بجمع كل الأرمن الموجودين في تلك المناطق سواء من الرجال والنساء أو الأطفال وقتلهم، فجمع بديع الزمان قرابة ألف وخمسمائة (1500) من الأرمن، وذهب بهم سرا على مقدمات الجبهة، وخطوط التماس مع الروس في واد، وأمر بإطعامهم، وما أن حل العصر، حتى أمر أحد الأرمن بالذهاب إلى الجيش الروسي، ونصحه بصياحه باستمرار (أرمن، أرمن) لكي لا يقتلوه، آخذا وجهة نظرهم، هل هم على استعداد لفتح الطريق أمام الأرمن، يذكر أن الأرمني وصل إلى صفوف الجيش الروسي الذي أبدى قائده ترحيبا بذلك، وبهذه الطريقة تمكن بديع الزمان من إنقاذ أرواح قرابة (1500) أرمني بريء".
موقف مشيخة بارزان من المسيحيين
كتب نائب القنصل البريطاني في ديار بكر وهو يقول:" إن الشيخ عبد السلام بحق من أحسن شيوخ المنطقة، فلم يكن له مع الحكومة إلى فترة قريبة أية مشاكل، وهو عادل في معاملة رعيته، وحام للنصارى".
وجه أندرانيك الأرمني عام(1920م) رسالة يطلب من الشيخ أحمد البارزاني إنقاذ عائلته المهددة بالموت حسب تعبيره، من مجازر الأتراك، فلبى طلبه، وشكل فصيلة بقيادة (وليد بك)، وكان ملا مصطفى شابا من ضمن الفصيلة، فصارت الفصيلة بين العشائر الموالية للأتراك على أنها بطريقها إلى مذبحة الأرمن، هذه الحيلة مكنتها من إنقاذ عائلة أندرانيك، ونقلها إلى الأراضي السورية. وقد قتل من جراء هذه العملية (14) أربعة عشر شخصا من الفرسان البارزانيين.
والأمثلة عديدة حول هذه المسألة، لا نستطيع ذكرها جميعها، لأننا تناولنا هذه المسألة في موضع آخر، وما ذكرنا يكفي لإيضاح نموذج التعايش السلمي بين أتباع الديانات الأخرى.
بعد أن استقلت كردستان من الناحية الإدارية، وأصبح لشعب كردستان برلمان مستقل، وحكومة مستقلة ومستقرة، تحول الاهتمام بالديانات الأخرى إلى سياسة استراتيجية للحكومة، وللقيادة الكردية، حيث نجد في الهيكل الإداري العام الوزراء وأعضاء برلمان ومدراء ومحافظين من جميع الديانات الأخرى، وحتى في وزارة الأوقاف نجد مديرية عامة للمسيحيين ومديرية عامة للإيزيديين، وأخيرا لليهود، وهذه السياسة آتت أكلها، وأثمرت ثمارا طيبة، وتلقت بالقبول من قبل جميع الأطراف، إلا ما كان من قبل بعض الجماعات المتزمتة، وهؤلاء لا يؤبه بقولهم ولا بموقفهم، والملاحظ أن التعايش السلمي في تطور مستمر، ترك آثارا طيبة في جميع أصقاع كردستان. التعايش السلمي في كردستان
د.عرفات كرم ستوني
لكي نحقق التعايش السلمي في كردستان أو أي مكان في العالم لا بد من العمل على تأسيس حوار ناجح مثمر، وذلك لأن الحوار أساس التعايش السلمي، ولقد ذكر اللاهوتي السويسري هانز كونج أنه لا سلام بين الديانات إذا لم يكن ثمة حوار، وهذا الحوار لا بد أن يكون حوارا جديا لا تكتيكيا، حوار من أجل تحقيق تعايش سلمي حقيقي يضمن مستقبلا زاهرا للأجيال القادمة، ويكون قاعدة أساسية لبناء مجتمع مسالم بعيد عن ثقافة الكراهية وإلغاء الآخر، كما هو الحال في بعض البلدان مع الأسف الأسيف.
لا يخلو دين من الأديان سواء كان سماويا (إبراهيميا) أو دينا أرضيا من مجموعة متطرفة تحاول دوما إجهاض مشروع الحوار، بحجة أن الحوار يقتضي التنازل عن العقائد الأساسية، ويقتضي في الوقت نفسه الاعتراف بالدين الآخر، وهؤلاء هم المحافظون في زعمهم، ومعلوم أن ذلك كله غير صحيح، فالاعتراف بالآخر لا يقتضي الاعتراف بأحقية دينه، ولا يقتضي التنازل عن العقائد الأساسية، فالأمر كله متعلق بإيجاد أرضية خصبة للتعايش المشترك، والاتفاق على الأصول المشتركة، فيما يحقق للطرفين السلم الاجتماعي والتعايش الديني الآمن، ولقد اعترف الإسلام بفلسفة الحوار كقاعدة أساسية لبناء مجتمع مسالم، ولسنا بحاجة إلى إعادة الحديث عن ذلك، فقد مر ذكره، لكن أرى من الضروري الإشارة إلى الآية التي أسست ورسخت مفهوم الحوار، قال تعالى{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }، فلقد خلق الله تعالى الناس على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وقومياتهم ومذاهبهم وعقائدهم ودياناتهم، من أجل أن نتعارف، وهذا التعارف ليس مجرد معرفة بعضنا ببعض فقط، بل الأمر أعظم من ذلك، هذا التعارف يعني الحوار والتعاون والتضامن، وإلا أي غرض يمكن أن يتحقق بمجرد معرفة بعضنا ببعض، فلقد غدا جليا أننا نعيش في عصر يمكننا أن نتعارف من غير أن نلتقي، فالغاية التي تغياها الآية تحقيق العمل المشترك، والمنافسة إلى فعل الخيرات، فخير الناس من نفع الناس، فلو لم يكن الهدف ما ذكرناه لكان مفهوم التعارف صفرا خاليا لا معنى له.
عندما نتحدث عن الحوار لا نقصد به هنا الحوار بين الأديان فقط، بل هو حوار بين كل طرفين، بين دين ودين آخر، بين مذهب ومذهب آخر، وبين قومية وقومية أخرى، بين بلد وبلد آخر وهلم جرا، لأن المقصد الأعلى من ذلك تحقيق حياة آمنة لجميع الأطراف المتباينة في هذه القرية الصغيرة، لكن الحوار إذا أطلق أريد به الحوار بين الأديان، وذلك لأهميته القصوى، فلو تحقق ذلك لكان ما دونه أهون.
أطلق المجمع الفاتيكاني الثاني دعوة للحوار بين الإسلام والمسيحية، وذلك من أجل نسيان الماضي، والإنصراف باخلاص للتفاهم المتبادل، ويذكر جورافسكي أن هذه الدعوة بين أوساط الكنيسة الكاثوليكية أنتجت ثلاث نزعات من حيث الموقف من هذا الحوار، أي الحوار الإسلامي المسيحي، النزعة الأولى وهي الأكثرية حيث أيدت الحوار انطلاقا من قرارات المجمع الفاتيكاني ووثائق الفاتيكان والرسائل البابوية اللاحقة... أما أنصار النزعة الثانية، فإنهم لا يمانعون من حيث المبدأ في إقامة الحوار بين الديانتين، لأنهم يشترطون في إقامته ضمن المجال الدنيوي البحت... بينما تتجلى مواقف النزعة الثالثة، ومنطلقاتهم في رسالة الأسقف اللبناني.ب. بسيم إلى الكاردينال بينيدولي الذي ترأس سر اللجنة الخاصة بشؤون الديانات غير المسيحية(1977)... يؤكد بسيم أن الشكل الوحيد المقبول لدى المسلمين فيما يخص النسق الاجتماعي – السياسي هو الأمة، أي الجماعة الإسلامية – الثيوقراطية، التي تضع المسلمين (الأغلبية) في مرتبة المحامي و الراعي لديانات الأقليات الأخرى... وهذا الواقع يحول وحده دون إقامة أي حوار مفيد بين الديانتين".
لكن النزعة الأولى هي التي انتصرت على بقية النزعات لضرورة الحوار، فلو لم يكن ثمة حوار لحل محله التصادم والتنازع والصراع، وهذه فرصة ذهبية لأشياع التيار المتطرف في الأديان المختلفة للقضاء على أبجديات الحوار وأسسه وقواعده، وفي النهاية سيكون المتضرر الأول والخاسر الأكبر في هذا الصراع أتباع الديانات من المعتدلين من الذين يحملون أملا للأجيال القادمة، وسلاما للبشرية جمعاء، لا ريب أن هذا الحوار عويص من الناحية العملية، لكن مجرد وجوده والإيمان به والدعوة إليه خطوة في الاتجاه الصحيح، فهو بمرور الزمن سيتحول إلى واقع عملي، فلو قارنا بين السنين التي خلت، لوجدنا تطورا ملحوظا في الحوار والتعاون والتضامن، لا أحد ينكر بعض المعوقات والمشاكل، لكنها طبيعية فيما يخص حوارا بين ديانتين عاشا أتباعهما قرونا طويلة في صراع مرير وصدام عنيف.
ومن الضروري الإشارة إلى بعض هذه المحاولات التي جرت في السنوات الماضية من أجل تحقيق حوار جدي حقيقي بين الأديان وخاصة الحوار بين الإسلام والمسيحية، ففي سنة(1965م) تحدث كاردينال الكنيسة الكاثوليكية ف.كينيغ أمام العلماء المسلمين في جامعة الأزهر، وهي هي المرة الأولى منذ ألف سنة تقريبا يتحدث في هذه الجامعة رجل دين مسيحي، ومنذ ذلك الحين تجري اللقاءات الإسلامية المسيحية بصورة مستمرة، وبعد مرور سنوات دعي الكاردينال بينيدولي إلى زيرة جامعة الأزهر، وفي سنة (1974م) قام سكرتير (أمين سر) أمانة شؤون الديانات غير المسيحية الكاردينال بينيدولي بزيارة للسعودية، التقى الملك فهد، وفي السنة نفسها قام وفد من العلماء المسلمين من السعودية بزيارة الفاتيكان. ويمكن إيجاز أهم هذه المؤتمرات والندوات واللقاءات التي عقدت حول الحوار بين الأديان، وخاصة بين الإسلام والمسيحية:
1) إيطاليا (1973م) و (1985م).
2) قرطبة (1974م) و(1977م)، وفي مدريد (1978م).
3) تونس (1974م) و(1979).
4) طرابلس (1976م).
5) سويسرا (1977م).
6) النمسا (1977م) و(1978م).
7) البرتغال (1977م) عقد مؤتمر بين الديانات التوحيدية الثلاث.
بيروت (1977م).
9) فرنسا (1979م).
10) أستراليا (1979م)و (1980م).
11) ماليزيا (1979م).
12) يوغوسلافيا (1981م).
13) سريلانكا (1982م).
14) القدس(1984م).
15) زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى المغرب بدعوة من الملك الحسن الثاني سنة(1985) وألقى كلمة لثمانين ألفا من الشباب في الملعب الرياضي بدار البيضاء.
16) زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى كل من نيروبي وغانا للقاء ممثلي الجماعات الإسلامية في سنة (1980م).
17) زيارة البابا بولس الثاني للفلبين للقاء الأقلية المسلمة سنة(1981م).
ولا تزال هذه المؤتمرات والندوات واللقاءات مستمرة، وهي في حقيقتها تخدم البشرية بصورة عامة، وبذلك نستطيع أن نحقق السلام والأمن، ونحارب ثقافة العداء والكراهية، وإلغاء الآخر وإقصاءه.
نعود لنذكر أسطرا حول التعايش السلمي بين الأديان في كردستان، عاش أبناء الديانات الأخرى كاليهود والمسيحيين والإيزيديين والكاكائيين في كردستان عبر القرون في سلام ووئام وأمان واستقرار، وشارك الجميع في بناء كردستان، وفي إثراء ثقافتها وتطوير مدنيتها، فقدموا تضحيات جسام في سبيل هذا الوطن، ولا إخال أن أحدا ينكر ذلك، فالتاريخ الكردستاني حافل بالوقائع والأحدث التي تثبت هذه الحقيقة التاريخية، وعليه، فلقد عاش الجميع كشعب واحد ينتمي إلى وطن واحد يربطهم الإنتماء إلى الوطن، ولا مجال للتطرق إلى هذه المسألة بتفصيل.
لا جرم أن كردستان جزء من العالم الإسلامي، فلا يمكن أن نكون منفصلين عن هذا الواقع، وخاصة أن تهديدات الجماعات التكفيرية جدية بحق أتباع الديانات الأخرى، وبالأخص المسيحيين، ولقد تعرضوا لهجمات منظمة شرسة من قبل تلكم الجماعات مما اضطروا إلى ترك العراق والاستقرار في كردستان، وهم الآن آمنون ومطمئنون، ولا يشعرون بالغربة.
إن تاريخ كردستان يشهد على حقيقة هذا التعايش السلمي بين الأديان، حيث كان أتباع تلك الأديان بمرور الزمن يعيشون معا، الى درجة أن لا يشعر أحدهم بانتماء الآخر، بل كان طبيعيا أن يزور بعضهم بعضا في جل المناسبات، وخاصة القرى.
لا ريب أن ثمة حالات مؤسفة وقعت في تاريخ كردستان من المعارك والاعتداء والظلم بحق أتباع الديانات الأخرى، ولكن في تقديري كانت تلك الحالات عبارة عن نزاعات اجتماعية ومشاكل عائلية واقتصادية تحولت إلى صراعات دينية من أجل تحقيق بعض المكاسب الشخصية أو القبلية وهلم جرا، ولكن الخط العام والوعي الجمعي كان ضد هذه المحاولات اليائسة، وخاصة نجد هنا دور مشيخة وعلماء المنطقة في إخماد هذه الفتن الخطيرة، وسنذكر بعض هذه النماذج التي تفتخر بها كردستان في تاريخها، وسيكون الحديث أكثر حول المسيحيين، لكونهم يمثلون الأغلبية بين أتباع الديانات الأخرى كالإيزيدية والكاكائية:
موقف الشيخ عبد القادر النهري من المسيحيين
في خريف عام(1909) أقدم الشيخ عبد القادر بجولة في أنحاء شمدينان، وعمل وهو رئيس مجلس الدولة على عقد مؤتمر كردي – أرمني، وألقى فيه خطبة، أكد فيها إخلاصه للإتحاديين، وتمسكه بمبادئهم، إلا أنه أقلق بالهم عندما تطرق فيها إلى العلاقة بين الأرمن وبين شعبه الكردي، إذ قال::" علينا أن نعيش مع الأرمن كاخوة، علينا أن نعيد لهم تلك الأراضي التي يدعون بها، والتي لم تتم استعادتها بعد، وسنعمل معا على تقوية التفاهم والاتحاد مع إخواننا العثمانيين الآخرين"، يبدو أن الشيخ عبد القادر النهري يطبق سياسة والده تجاه المسيحيين، فعندما قام الشيخ عبيد الله النهري بثورته العظيمة، طلب منه أنصاره أن يسمح لهم بتقتيل نصارى أورمية، فقال:" نحن الكرد ننفع الترك في شيء واحد، وهوأن نكون أسلحة في أيديهم ضد المسيحيين، وعندما لا يبقى مسيحي في الساحة، فإنهم يقلبون ظهر المجن لنا، ويبيدوننا جميعا".
موقف الشيخ سعيد النورسي من المسيحيين
كان الشيخ سعيد النورسي آمرا عسكريا على قوات الفرسان الحميدية في مناطق موش، وفي هذه الأثناء أمره الجنرال التركي(نوري ويسي) بجمع كل الأرمن الموجودين في تلك المناطق سواء من الرجال والنساء أو الأطفال وقتلهم، فجمع بديع الزمان قرابة ألف وخمسمائة (1500) من الأرمن، وذهب بهم سرا على مقدمات الجبهة، وخطوط التماس مع الروس في واد، وأمر بإطعامهم، وما أن حل العصر، حتى أمر أحد الأرمن بالذهاب إلى الجيش الروسي، ونصحه بصياحه باستمرار (أرمن، أرمن) لكي لا يقتلوه، آخذا وجهة نظرهم، هل هم على استعداد لفتح الطريق أمام الأرمن، يذكر أن الأرمني وصل إلى صفوف الجيش الروسي الذي أبدى قائده ترحيبا بذلك، وبهذه الطريقة تمكن بديع الزمان من إنقاذ أرواح قرابة (1500) أرمني بريء".
موقف مشيخة بارزان من المسيحيين
كتب نائب القنصل البريطاني في ديار بكر وهو يقول:" إن الشيخ عبد السلام بحق من أحسن شيوخ المنطقة، فلم يكن له مع الحكومة إلى فترة قريبة أية مشاكل، وهو عادل في معاملة رعيته، وحام للنصارى".
وجه أندرانيك الأرمني عام(1920م) رسالة يطلب من الشيخ أحمد البارزاني إنقاذ عائلته المهددة بالموت حسب تعبيره، من مجازر الأتراك، فلبى طلبه، وشكل فصيلة بقيادة (وليد بك)، وكان ملا مصطفى شابا من ضمن الفصيلة، فصارت الفصيلة بين العشائر الموالية للأتراك على أنها بطريقها إلى مذبحة الأرمن، هذه الحيلة مكنتها من إنقاذ عائلة أندرانيك، ونقلها إلى الأراضي السورية. وقد قتل من جراء هذه العملية (14) أربعة عشر شخصا من الفرسان البارزانيين.
والأمثلة عديدة حول هذه المسألة، لا نستطيع ذكرها جميعها، لأننا تناولنا هذه المسألة في موضع آخر، وما ذكرنا يكفي لإيضاح نموذج التعايش السلمي بين أتباع الديانات الأخرى.
بعد أن استقلت كردستان من الناحية الإدارية، وأصبح لشعب كردستان برلمان مستقل، وحكومة مستقلة ومستقرة، تحول الاهتمام بالديانات الأخرى إلى سياسة استراتيجية للحكومة، وللقيادة الكردية، حيث نجد في الهيكل الإداري العام الوزراء وأعضاء برلمان ومدراء ومحافظين من جميع الديانات الأخرى، وحتى في وزارة الأوقاف نجد مديرية عامة للمسيحيين ومديرية عامة للإيزيديين، وأخيرا لليهود، وهذه السياسة آتت أكلها، وأثمرت ثمارا طيبة، وتلقت بالقبول من قبل جميع الأطراف، إلا ما كان من قبل بعض الجماعات المتزمتة، وهؤلاء لا يؤبه بقولهم ولا بموقفهم، والملاحظ أن التعايش السلمي في تطور مستمر، ترك آثارا طيبة في جميع أصقاع كردستان. التعايش السلمي في كردستان
د.عرفات كرم ستوني
لكي نحقق التعايش السلمي في كردستان أو أي مكان في العالم لا بد من العمل على تأسيس حوار ناجح مثمر، وذلك لأن الحوار أساس التعايش السلمي، ولقد ذكر اللاهوتي السويسري هانز كونج أنه لا سلام بين الديانات إذا لم يكن ثمة حوار، وهذا الحوار لا بد أن يكون حوارا جديا لا تكتيكيا، حوار من أجل تحقيق تعايش سلمي حقيقي يضمن مستقبلا زاهرا للأجيال القادمة، ويكون قاعدة أساسية لبناء مجتمع مسالم بعيد عن ثقافة الكراهية وإلغاء الآخر، كما هو الحال في بعض البلدان مع الأسف الأسيف.
لا يخلو دين من الأديان سواء كان سماويا (إبراهيميا) أو دينا أرضيا من مجموعة متطرفة تحاول دوما إجهاض مشروع الحوار، بحجة أن الحوار يقتضي التنازل عن العقائد الأساسية، ويقتضي في الوقت نفسه الاعتراف بالدين الآخر، وهؤلاء هم المحافظون في زعمهم، ومعلوم أن ذلك كله غير صحيح، فالاعتراف بالآخر لا يقتضي الاعتراف بأحقية دينه، ولا يقتضي التنازل عن العقائد الأساسية، فالأمر كله متعلق بإيجاد أرضية خصبة للتعايش المشترك، والاتفاق على الأصول المشتركة، فيما يحقق للطرفين السلم الاجتماعي والتعايش الديني الآمن، ولقد اعترف الإسلام بفلسفة الحوار كقاعدة أساسية لبناء مجتمع مسالم، ولسنا بحاجة إلى إعادة الحديث عن ذلك، فقد مر ذكره، لكن أرى من الضروري الإشارة إلى الآية التي أسست ورسخت مفهوم الحوار، قال تعالى{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }، فلقد خلق الله تعالى الناس على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وقومياتهم ومذاهبهم وعقائدهم ودياناتهم، من أجل أن نتعارف، وهذا التعارف ليس مجرد معرفة بعضنا ببعض فقط، بل الأمر أعظم من ذلك، هذا التعارف يعني الحوار والتعاون والتضامن، وإلا أي غرض يمكن أن يتحقق بمجرد معرفة بعضنا ببعض، فلقد غدا جليا أننا نعيش في عصر يمكننا أن نتعارف من غير أن نلتقي، فالغاية التي تغياها الآية تحقيق العمل المشترك، والمنافسة إلى فعل الخيرات، فخير الناس من نفع الناس، فلو لم يكن الهدف ما ذكرناه لكان مفهوم التعارف صفرا خاليا لا معنى له.
عندما نتحدث عن الحوار لا نقصد به هنا الحوار بين الأديان فقط، بل هو حوار بين كل طرفين، بين دين ودين آخر، بين مذهب ومذهب آخر، وبين قومية وقومية أخرى، بين بلد وبلد آخر وهلم جرا، لأن المقصد الأعلى من ذلك تحقيق حياة آمنة لجميع الأطراف المتباينة في هذه القرية الصغيرة، لكن الحوار إذا أطلق أريد به الحوار بين الأديان، وذلك لأهميته القصوى، فلو تحقق ذلك لكان ما دونه أهون.
أطلق المجمع الفاتيكاني الثاني دعوة للحوار بين الإسلام والمسيحية، وذلك من أجل نسيان الماضي، والإنصراف باخلاص للتفاهم المتبادل، ويذكر جورافسكي أن هذه الدعوة بين أوساط الكنيسة الكاثوليكية أنتجت ثلاث نزعات من حيث الموقف من هذا الحوار، أي الحوار الإسلامي المسيحي، النزعة الأولى وهي الأكثرية حيث أيدت الحوار انطلاقا من قرارات المجمع الفاتيكاني ووثائق الفاتيكان والرسائل البابوية اللاحقة... أما أنصار النزعة الثانية، فإنهم لا يمانعون من حيث المبدأ في إقامة الحوار بين الديانتين، لأنهم يشترطون في إقامته ضمن المجال الدنيوي البحت... بينما تتجلى مواقف النزعة الثالثة، ومنطلقاتهم في رسالة الأسقف اللبناني.ب. بسيم إلى الكاردينال بينيدولي الذي ترأس سر اللجنة الخاصة بشؤون الديانات غير المسيحية(1977)... يؤكد بسيم أن الشكل الوحيد المقبول لدى المسلمين فيما يخص النسق الاجتماعي – السياسي هو الأمة، أي الجماعة الإسلامية – الثيوقراطية، التي تضع المسلمين (الأغلبية) في مرتبة المحامي و الراعي لديانات الأقليات الأخرى... وهذا الواقع يحول وحده دون إقامة أي حوار مفيد بين الديانتين".
لكن النزعة الأولى هي التي انتصرت على بقية النزعات لضرورة الحوار، فلو لم يكن ثمة حوار لحل محله التصادم والتنازع والصراع، وهذه فرصة ذهبية لأشياع التيار المتطرف في الأديان المختلفة للقضاء على أبجديات الحوار وأسسه وقواعده، وفي النهاية سيكون المتضرر الأول والخاسر الأكبر في هذا الصراع أتباع الديانات من المعتدلين من الذين يحملون أملا للأجيال القادمة، وسلاما للبشرية جمعاء، لا ريب أن هذا الحوار عويص من الناحية العملية، لكن مجرد وجوده والإيمان به والدعوة إليه خطوة في الاتجاه الصحيح، فهو بمرور الزمن سيتحول إلى واقع عملي، فلو قارنا بين السنين التي خلت، لوجدنا تطورا ملحوظا في الحوار والتعاون والتضامن، لا أحد ينكر بعض المعوقات والمشاكل، لكنها طبيعية فيما يخص حوارا بين ديانتين عاشا أتباعهما قرونا طويلة في صراع مرير وصدام عنيف.
ومن الضروري الإشارة إلى بعض هذه المحاولات التي جرت في السنوات الماضية من أجل تحقيق حوار جدي حقيقي بين الأديان وخاصة الحوار بين الإسلام والمسيحية، ففي سنة(1965م) تحدث كاردينال الكنيسة الكاثوليكية ف.كينيغ أمام العلماء المسلمين في جامعة الأزهر، وهي هي المرة الأولى منذ ألف سنة تقريبا يتحدث في هذه الجامعة رجل دين مسيحي، ومنذ ذلك الحين تجري اللقاءات الإسلامية المسيحية بصورة مستمرة، وبعد مرور سنوات دعي الكاردينال بينيدولي إلى زيرة جامعة الأزهر، وفي سنة (1974م) قام سكرتير (أمين سر) أمانة شؤون الديانات غير المسيحية الكاردينال بينيدولي بزيارة للسعودية، التقى الملك فهد، وفي السنة نفسها قام وفد من العلماء المسلمين من السعودية بزيارة الفاتيكان. ويمكن إيجاز أهم هذه المؤتمرات والندوات واللقاءات التي عقدت حول الحوار بين الأديان، وخاصة بين الإسلام والمسيحية:
1) إيطاليا (1973م) و (1985م).
2) قرطبة (1974م) و(1977م)، وفي مدريد (1978م).
3) تونس (1974م) و(1979).
4) طرابلس (1976م).
5) سويسرا (1977م).
6) النمسا (1977م) و(1978م).
7) البرتغال (1977م) عقد مؤتمر بين الديانات التوحيدية الثلاث.
بيروت (1977م).
9) فرنسا (1979م).
10) أستراليا (1979م)و (1980م).
11) ماليزيا (1979م).
12) يوغوسلافيا (1981م).
13) سريلانكا (1982م).
14) القدس(1984م).
15) زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى المغرب بدعوة من الملك الحسن الثاني سنة(1985) وألقى كلمة لثمانين ألفا من الشباب في الملعب الرياضي بدار البيضاء.
16) زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى كل من نيروبي وغانا للقاء ممثلي الجماعات الإسلامية في سنة (1980م).
17) زيارة البابا بولس الثاني للفلبين للقاء الأقلية المسلمة سنة(1981م).
ولا تزال هذه المؤتمرات والندوات واللقاءات مستمرة، وهي في حقيقتها تخدم البشرية بصورة عامة، وبذلك نستطيع أن نحقق السلام والأمن، ونحارب ثقافة العداء والكراهية، وإلغاء الآخر وإقصاءه.
نعود لنذكر أسطرا حول التعايش السلمي بين الأديان في كردستان، عاش أبناء الديانات الأخرى كاليهود والمسيحيين والإيزيديين والكاكائيين في كردستان عبر القرون في سلام ووئام وأمان واستقرار، وشارك الجميع في بناء كردستان، وفي إثراء ثقافتها وتطوير مدنيتها، فقدموا تضحيات جسام في سبيل هذا الوطن، ولا إخال أن أحدا ينكر ذلك، فالتاريخ الكردستاني حافل بالوقائع والأحدث التي تثبت هذه الحقيقة التاريخية، وعليه، فلقد عاش الجميع كشعب واحد ينتمي إلى وطن واحد يربطهم الإنتماء إلى الوطن، ولا مجال للتطرق إلى هذه المسألة بتفصيل.
لا جرم أن كردستان جزء من العالم الإسلامي، فلا يمكن أن نكون منفصلين عن هذا الواقع، وخاصة أن تهديدات الجماعات التكفيرية جدية بحق أتباع الديانات الأخرى، وبالأخص المسيحيين، ولقد تعرضوا لهجمات منظمة شرسة من قبل تلكم الجماعات مما اضطروا إلى ترك العراق والاستقرار في كردستان، وهم الآن آمنون ومطمئنون، ولا يشعرون بالغربة.
إن تاريخ كردستان يشهد على حقيقة هذا التعايش السلمي بين الأديان، حيث كان أتباع تلك الأديان بمرور الزمن يعيشون معا، الى درجة أن لا يشعر أحدهم بانتماء الآخر، بل كان طبيعيا أن يزور بعضهم بعضا في جل المناسبات، وخاصة القرى.
لا ريب أن ثمة حالات مؤسفة وقعت في تاريخ كردستان من المعارك والاعتداء والظلم بحق أتباع الديانات الأخرى، ولكن في تقديري كانت تلك الحالات عبارة عن نزاعات اجتماعية ومشاكل عائلية واقتصادية تحولت إلى صراعات دينية من أجل تحقيق بعض المكاسب الشخصية أو القبلية وهلم جرا، ولكن الخط العام والوعي الجمعي كان ضد هذه المحاولات اليائسة، وخاصة نجد هنا دور مشيخة وعلماء المنطقة في إخماد هذه الفتن الخطيرة، وسنذكر بعض هذه النماذج التي تفتخر بها كردستان في تاريخها، وسيكون الحديث أكثر حول المسيحيين، لكونهم يمثلون الأغلبية بين أتباع الديانات الأخرى كالإيزيدية والكاكائية:
موقف الشيخ عبد القادر النهري من المسيحيين
في خريف عام(1909) أقدم الشيخ عبد القادر بجولة في أنحاء شمدينان، وعمل وهو رئيس مجلس الدولة على عقد مؤتمر كردي – أرمني، وألقى فيه خطبة، أكد فيها إخلاصه للإتحاديين، وتمسكه بمبادئهم، إلا أنه أقلق بالهم عندما تطرق فيها إلى العلاقة بين الأرمن وبين شعبه الكردي، إذ قال::" علينا أن نعيش مع الأرمن كاخوة، علينا أن نعيد لهم تلك الأراضي التي يدعون بها، والتي لم تتم استعادتها بعد، وسنعمل معا على تقوية التفاهم والاتحاد مع إخواننا العثمانيين الآخرين"، يبدو أن الشيخ عبد القادر النهري يطبق سياسة والده تجاه المسيحيين، فعندما قام الشيخ عبيد الله النهري بثورته العظيمة، طلب منه أنصاره أن يسمح لهم بتقتيل نصارى أورمية، فقال:" نحن الكرد ننفع الترك في شيء واحد، وهوأن نكون أسلحة في أيديهم ضد المسيحيين، وعندما لا يبقى مسيحي في الساحة، فإنهم يقلبون ظهر المجن لنا، ويبيدوننا جميعا".
موقف الشيخ سعيد النورسي من المسيحيين
كان الشيخ سعيد النورسي آمرا عسكريا على قوات الفرسان الحميدية في مناطق موش، وفي هذه الأثناء أمره الجنرال التركي(نوري ويسي) بجمع كل الأرمن الموجودين في تلك المناطق سواء من الرجال والنساء أو الأطفال وقتلهم، فجمع بديع الزمان قرابة ألف وخمسمائة (1500) من الأرمن، وذهب بهم سرا على مقدمات الجبهة، وخطوط التماس مع الروس في واد، وأمر بإطعامهم، وما أن حل العصر، حتى أمر أحد الأرمن بالذهاب إلى الجيش الروسي، ونصحه بصياحه باستمرار (أرمن، أرمن) لكي لا يقتلوه، آخذا وجهة نظرهم، هل هم على استعداد لفتح الطريق أمام الأرمن، يذكر أن الأرمني وصل إلى صفوف الجيش الروسي الذي أبدى قائده ترحيبا بذلك، وبهذه الطريقة تمكن بديع الزمان من إنقاذ أرواح قرابة (1500) أرمني بريء".
موقف مشيخة بارزان من المسيحيين
كتب نائب القنصل البريطاني في ديار بكر وهو يقول:" إن الشيخ عبد السلام بحق من أحسن شيوخ المنطقة، فلم يكن له مع الحكومة إلى فترة قريبة أية مشاكل، وهو عادل في معاملة رعيته، وحام للنصارى".
وجه أندرانيك الأرمني عام(1920م) رسالة يطلب من الشيخ أحمد البارزاني إنقاذ عائلته المهددة بالموت حسب تعبيره، من مجازر الأتراك، فلبى طلبه، وشكل فصيلة بقيادة (وليد بك)، وكان ملا مصطفى شابا من ضمن الفصيلة، فصارت الفصيلة بين العشائر الموالية للأتراك على أنها بطريقها إلى مذبحة الأرمن، هذه الحيلة مكنتها من إنقاذ عائلة أندرانيك، ونقلها إلى الأراضي السورية. وقد قتل من جراء هذه العملية (14) أربعة عشر شخصا من الفرسان البارزانيين.
والأمثلة عديدة حول هذه المسألة، لا نستطيع ذكرها جميعها، لأننا تناولنا هذه المسألة في موضع آخر، وما ذكرنا يكفي لإيضاح نموذج التعايش السلمي بين أتباع الديانات الأخرى.
بعد أن استقلت كردستان من الناحية الإدارية، وأصبح لشعب كردستان برلمان مستقل، وحكومة مستقلة ومستقرة، تحول الاهتمام بالديانات الأخرى إلى سياسة استراتيجية للحكومة، وللقيادة الكردية، حيث نجد في الهيكل الإداري العام الوزراء وأعضاء برلمان ومدراء ومحافظين من جميع الديانات الأخرى، وحتى في وزارة الأوقاف نجد مديرية عامة للمسيحيين ومديرية عامة للإيزيديين، وأخيرا لليهود، وهذه السياسة آتت أكلها، وأثمرت ثمارا طيبة، وتلقت بالقبول من قبل جميع الأطراف، إلا ما كان من قبل بعض الجماعات المتزمتة، وهؤلاء لا يؤبه بقولهم ولا بموقفهم، والملاحظ أن التعايش السلمي في تطور مستمر، ترك آثارا طيبة في جميع أصقاع كردستان.