اليمن : هذه البئر المخيفة
تحوّل الصراع في اليمن سريعاً إلى ساحة حرب، بعد أن كانت مبادرة مجلس التعاون الخليجي قد امتصّت الأزمة، بإقناع الرئيس السابق علي عبدالله صالح على التنحّي، مفتتحة مرحلة انتقالية لسنتين تخطتهما لبضعة أشهر لاستكمال عملية التحوّل، الذي كان يفترض فيه أن يكون سلساً وسلمياً، لكن التداخل الإقليمي ارتفع منسوبه، لاسيّما في الاستقطابات الداخلية والتجاذبات السياسية والاصطفافات المذهبية، وخصوصاً بعد أن سيطرت جماعة أنصار الله "الحوثيون" على مقاليد الأمور بوضع اليد على المرافق الحكومية والمراكز الرئيسية في الجيش والشرطة وتشكيل اللجنة الثورية واقتراح مجلس رئاسي جديد وبرلمان جديد.
كانت سياسة المملكة العربية السعودية التقليدية تقوم على الابتعاد قدر الإمكان عن المشاكل العربية القائمة تجنّباً من انتقال عدواها ، إلاّ أن تحوّلاً كبيراً قد طرأ عليها منذ ما سمّي بالربيع العربي بالانتقال من نهج النأي بالنفس إلى التدخل غير المباشر أو المباشر، وهكذا سارعت لاتخاذ موقف بصدد الأزمة السورية، حتى وإن ظلّت بعيدة عن ساحة الصراع الساخن، وإن انحازت سياسياً أو قدّمت دعماً مادياً، وفي البحرين كان للتدخل السعودي باسم " درع الجزيرة" الدور الحاسم في حماية النظام، أما في اليمن فقد اتخذ التدخّل شكل تحالف عربي- إقليمي وأطلق على العملية "عاصفة الحزم"، حيث شعرت إن النار وصلت إلى تخومها.
ولعلّ ردّة الفعل العاجلة يعود سببها إلى المحذور من وقوع المنطقة تحت النفوذ الإيراني، إضافة الروابط العميقة التي تربط المملكة باليمن، حيث التداخل بين الشعبين على صعيد الحدود الطويلة والتاريخ المشترك والعلاقات الاجتماعية والقبلية، إضافة إلى مئات الآلاف من اليمنيين في المملكة، والذين يزداد عددهم طردياً مع مرور الزمن.
في الصراع اليمني، لم يكن الأمر مجرد اختلافات داخلية، بل نظرت إليه المملكة ببعده الإقليمي باعتباره صراعاً عربياً- فارسياً، اتّخذ شكلاً سياسياً بالدرجة الأولى على خلفية مذهبية متناحرة، وهو ما تفشّى في المنطقة تحت عناوين " السنّة والشيعة" وذيولهما، وكان التطلّع الخليجي يأمل في منع إيران من استكمال مشروعها النووي، الذي سبق وأن أبدت قلقها منه، وأعلنت واشنطن التي عبّرت عن وصولها إلى اتفاق مع إيران، باعتباره أفضل الحلول الممكنة عن تأييدها لعاصفة الحزم، وهو ما جاء على لسان الرئيس باراك أوباما.
كان مجلس التعاون الخليجي قد أنشأ في العام 1981 بعد الثورة الإيرانية العام 1979 على خلفية مواجهة التمدّد الإيراني، ولاسيّما وأن موقفه كان داعماً للنظام العراقي السابق في الحرب العراقية – الإيرانية 1980- 1988، ولذات الأسباب والمبررات الراهنة، ونعني بها الخوف مما سمّي بالخطر الإيراني وتصدير الثورة.
وإذا كان التحالف الدولي يتعاون مع العراق لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام " داعش" ويدعو المسلّحين المعارضين في سوريا لمواجهة داعش، في هدنة غير معلنة مع النظام السوري، خرجت من المستور إلى المكشوف لدرجة أصبحت فيه المصالح متداخلة ومتشابكة، بين الأعداء والأصدقاء أو " الأعدقاء"، لاسيّما في التصدي للتنظيمات الجهادية المتطرّفة.
في اليمن، تزداد الصورة تعقيداً، حيث يدخل الحوثيون في صراع مع تنظيمات القاعدة، والصراع كان على أشدّه أيضاً بين واشنطن وهذه التنظيمات. من جهة أخرى كان اللقاء الدولي 5+1 مع إيران وعلى ضفاف بحيرة ليمان (لوزان) في سويسرا، قد وصل إلى مرحلته الأخيرة بعد مفاوضات استمرّت 16 شهراً ونقاشات دامت نحو 12 عاماً، في الوقت الذي كانت فيه المملكة العربية السعودية، مُستفزّةً بوصول النفوذ الإيراني إلى مشارفها، بل كان هناك من صبّ الزيت على النار بتصريحات من طرف معلن هذه المرّة في طهران، إن عاصمتهم الإمبراطورية هي "بغداد"، وإن باب المندب قاب قوسين أو أدنى.
لقد كانت حرب اليمن في الستينيات مختلفة عن الحرب الراهنة، وهي حرب بين الإماميين وبين ثورة السلال، وإن اتخذت بُعداً إقليمياً بين مصر التي أرسلت نحو 70 ألف جندي للتدخّل في حسم الصراع، وبين دعم المملكة العربية السعودية للشرعية المخلوعة، في مواجهة شرعية ثورية لم تثبت أقدامها بعد، ولم يكن بالإمكان حصول اعتراف سريع بها، وهو الأمر الذي اختلف في صراع العام 2014 وما بعده، فالشرعية الثورية التي تعكز عليها الحوثيون تم رفضها بقوة وحزم خليجيين مع إصرار على إعادة الشرعية القديمة الممثلة بعبد ربه هادي منصور (الرئيس المؤقت) ونائب الرئيس السابق، الذي نصّبته المبادرة الخليجية قبل نحو ثلاثة أعوام، وإثر انفجار الهبّة الشعبية في اليمن ضد حكومة علي عبدالله صالح.
في الحرب اليمنية الستينية من القرن الماضي كانت سياسة المحاور الإقليمية والدولية قائمة بين معسكرين (الاشتراكي والرأسمالي) وامتداداتهما بين محور بقيادة القاهرة ومحور آخر بقيادة الرياض التي دعت لتأسيس "الحلف الإسلامي" لمواجهة احتمالات امتدادات الناصرية، ولكن بعد هزيمة العام 1967 من جانب "إسرائيل" انعقدت قمة مصالحة مصرية- سعودية، وتوّجت في مؤتمر الخرطوم الذي عُرِفَ باسم مؤتمر اللاءات الثلاث (لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض ).
الصراع اليوم قد لا ينتهي لمجرد مصالحات عربية- إقليمية، بل إنه أكثر تعقيداً، فهو صراع مركّب ومتداخل، لأن المسألة لا تتعلق بالحاضر فحسب، وباليمن بالذات، بل تتعلق بمستقبل المنطقة، والأمر الذي سيواجه الجميع من سيحكم اليمن، سواءً بافتراض إزاحة الحوثيين، وإن عاصفة الحزم ستعيد الرئيس منصور إلى مواقعه، أو بالعودة إلى طاولة الحوار؟ ولكن السؤال الكبير يتمثل في: هل سيبقى اليمن يمناً أم أن الانفصال سيصبح أمراً واقعاً؟ ويعود التشطير إلى ما قبل الوحدة في العام 1990، تلك التي جرت محاولات لإعادة القديم إلى قدمه في العام 1994حين اندلعت الحرب برغبة في الانفصال مجدّداً بين الرئيس علي عبدالله صالح ونائبه علي سالم البيض ومن يمثلانهما، لكن تيار الوحدة ونفوذ علي عبدالله صالح ومناوراته حالت دون ذلك.
وإذا ما انفتح ملف الانفصال والتشطير، فقد لا يتوقّف عند الجنوب، وقد تبدأ فوضى ما بعد العاصفة، تلك التي لا تشبه الفوضى السورية أو الفوضى الليبية ، وقبل ذلك الفوضى العراقية، لأن في اليمن ما قبل انفجار الصراع كان نحو 68 مليون قطعة سلاح أي بمعدّل يزيد على قطعتين لكل فرد، فما بالك ما بعد العاصفة حيث تم ضخّ السلاح من جميع الأطراف المباشرة وغير المباشرة.
وإذا كان التعاون اليوم بين الحوثيين والرئيس السابق علي عبدالله صالح، أعداء الأمس والذي شن ستة حروب ضدهم، وسابعها امتدّت عبر حدود المملكة العربية السعودية، فإن العديد من أحزاب اللقاء المشترك: اشتراكيون وناصريون وإصلاحيون والحراك الجنوبي وفاعليات وأنشطة أخرى ضدهم، بمن فيهم تنظيمات القاعدة وقبائل متعدّدة الولاء.
قد تكون الحاجة إلى حملة برّية لحسم المعركة ميدانياً، وهو ما لم يقرّره التحالف الخليجي- العربي حتى الآن، ولكن مثل هذه الخطوة قد تحتاج إلى توسيع قاعدة التحالف، حيث يمكن الاعتماد على الذراع المصري ويكون الذراع الآخر باكستانياً، وقد يتم دعم ذلك بقوة بحرية لاستكمال عاصفة الحزم، لكن مثل هذا الخيار سيكون محفوفاً بالمخاطر وربما بالمفاجآت ، فاليمن بئر عميقة وموحشة.
ما هو جديد في الوضع اليمني إن القمة العربية في شرم الشيخ قرّرت مواجهة التمدّد الإيراني، ولاسيّما بدعم عاصفة الحزم التي بدأت قبل يومين من انعقاد القمة، خصوصاً وقد سعت مصر لاستعادة دورها، لاسيّما عبر تشكيل قوة عربية مشتركة، سيكون لها اليد الطولى فيها، وخصوصاً القوى البشرية التي ستشكل قوامها الأساسي.
اليمن انتقلت من الإمامية إلى العروبة ومنها في الجنوب إلى الإشتراكية، وأخيراً بالحراك الشعبي استهدفت التحوّل نحو الديمقراطية، وإذا بها تعود إلى عصبيات قبلية ونزاعات وتناحرات وربما انشطارات سيكون ثمنها الأكبر اليمنيين ومستقبل بلادهم، الذي قد يتوقف عليه جزء مهم من مستقبل الخليج والمنطقة.