• Sunday, 24 November 2024
logo

كيف السبيل لتعويض ضحايا داعش؟

كيف السبيل لتعويض ضحايا داعش؟
نظّمت مجموعة من الناشطين المدنيين والسياسيين من مختلف القوميات والديانات في البلاد، مؤتمراً عن (الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ومستقبل الإيزيديين والمسيحيين في العراق)، استمرت أعماله في عاصمة إقليم كردستان ، أربيل، على مدى ثلاثة أيام ( 8 - 10 شباط 2015 )، بمشاركة شخصيات أكاديمية وسياسية وثقافية وممثلين عن منظمات مدنية وهيئات دينية.
كنتُ واحداً من المشاركين في المؤتمر الذين جاءوا من مختلف مناطق العراق ومن عدد من بلدان المنفى أيضاً. وعدا عن الأبحاث القيّمة والمناقشات الحيوية التي شهدها المؤتمر، فإنني وجدتُ ان الفقرتين الأكثر إثارة للانتباه والإهتمام في أعمال المؤتمر تمثلتا في واحدة جرت على مسرح قاعة الشهيد سعد عبد الله التي شهدت وقائع اليوم الأول للمؤتمر، والثانية جرت خارج القاعة وخارج مدينة أربيل.
في زاوية من المسرح انتصبت ستارة بيضاء جلست خلفها سيدتان من اللواتي حالفهن الحظ في الإفلات من قبضة وحوش داعش بعد معاناة رهيبة .. نعم، إن كلمة "وحوش" هي الوحيدة في قاموس اللغة المناسبة لتوصيف عناصر تنظيم داعش الإرهابي، بل ربما يتعيّن علينا أن نبحث عن مفردة أخرى، فحتى وحوش البرية الأكثر ضراوة تتخلى عن عدوانيتها بعدما تشبع، بخلاف عناصر داعش الذين لا حدود لعدوانيتهم وكراهيتهم لكل شي ولروح الانتقام المتأصلة فيهم، بحسب ما أوضحت شهادة السيدتان الإيزيديتان اللتين تحدثتا على المسرح من خلف الستارة البيضاء.
وأنا أستمع الى الشهادتين وأشعر بان كل خلية من خلايا جسمي وروحي تكاد أن تتحطم كما الأشجار في عين عاصفة رهيبة، تمنيتُ لو ان منظمي المؤتمر ما وضعوا تلك الستارة البيضاء لتحجب السيدتين عن الحضور الذين زاد عددهم عن ثمنمئة شخص. كنت أرغب في أتابع بعينيّ انفعالات السيدتين وهما تتحدثان بلغة مفعمة بالوجع الممضّ والحزن العميق عن محنتهما .. إنها محنة مئات الآلاف من النساء والرجال والأطفال والشيوخ... السيدتان الإيزيديتان تحدثتا عن الفظائع والانتهاكات البربرية التي تعرضتا لها أو شهدتا فصولها الأليمة الدامية على مدى أشهر، مما لا يستطيع تحمله حتى حجر الجبال.
أما الفقرة التي جرت خارج قاعة المؤتمر فكانت زيارة الى تجمع لبضع مئات من العوائل النازحة من مناطق مختلقة احتلها تنظيم داعش .. المكان موجود في بلدة عينكاوا القريبة من أربيل، وهو بناية جديدة لم تكتمل بعد .. انها مجرد هيكل لمركز تجاري (مول) أوقف مالكه العمل فيه لإيواء النازحين .. المكان ليس مناسباً للسكن، فهو مفتوح من كل الجهات، وقامت السلطات المختصة بالتعاون مع الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة بتقسيمه الى مساحات صغيرة أحاطتها بجدران من اللأمنيوم .. كل مساحة لا تتعدى مساحة غرفة في بيت سكني عادي، وكان على كل عائلة بكل افرادها أن تنحشر في هذه المساحة التي بدت لي أضيق من علبة السردين بالنسبة لسكانها .. أحد مرافقينا قال لنا: هؤلاء أوفر نصيباً وأسعد حظاً(!) من الآخرين، فهم حصلوا على ملاذ له سقوف وقريب من المدينة، فيما هناك عشرات الآلاف من العوائل غيرهم تسكن الآن في مخيمات، بل ان هناك من لم تتوفر له الخيم فيعيش في العراء.
هذا المرافق حدّثنا أيضاً عن أنواع واصناف من المشاكل الصحية والاجتماعية والمادية التي يعاني منها النازحون، فضلاً عن المعاناة النفسية الرهيبة، وبخاصة لأولئك الذين فقدوا أحبة لهم أو الذين لا يعرفون شيئاً عن مصير هؤلاء الأحبة، وعلى وجه الخصوص النساء السبايا اللائي أسرهن التنظيم الإرهابي وتركهن عرضة لأشنع ممارسة، وهي الاغتصاب، أو قام ببيعهن في سوق النخاسة. .. إنها معاناة مدمرة ولا شك، لا حدود مكانية أو زمانية لآلامها المبرحة.
المؤتمر انهى أعماله بجملة من المطالب والتوصيات، منها على سبيل المثال: اعتبار ما حصل في مناطق الموصل وسنجار وسهل نينوى جرائم إبادة جماعية وضد الإنسانية ، والتنديد بجريمة استرقاق النساء الإيزيديات والمسيحيات وبيعهن وانتهاك كرامتهن من قبل عصابات داعش الإرهابية كجريمة ضد الإنسانية، وبذل الجهود لتأهيل المجني عليهن، وتوفير الحماية الكاملة من جانب الدولة العراقية والمجتمع الدولي لضحايا الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، والعمل لتحرير المناطق التي سيطرت عليها الجماعات الإرهابية في أسرع وقت، وتأمين عودة النازحين الى ديارهم وتعويضهم وسائر الضحايا مادياً.
هي مطالب وتوصيات جيدة في العموم ولازمة التحقيق، لكن ليس في وسع كل ثروات العالم أن تعيد الروح الى واحد فقط من الضحايا الذين قُتلوا، وليس في وسع كل هذه الثروات أن تعوض سيدة إيزيدية أو مسيحية عمّا تعرضت له من انتهاك سافر لإنسانيتها ولكرامتها .. كل الأحياء من الضحايا ستظل أرواحهم تتعذب وقلوبهم تنزف حتى آخر نفس فيهم.. لا شيء سيعوض، ولهذا من اللازم أن تعمل الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان والمجتمع الدولي بكل الجدية ليس فقط على القضاء على داعش وتحرير المناطق التي يحتلها وتعويض المتضررين مادياً، وانما تعويضهم معنوياً أيضا، وهذا لن يكون ما لم يُقدّم الى العدالة كل المتسببين في هذه المأساة الرهيبة. وقبل داعش يتحمل المسؤولية القادة السياسيون والعسكريون العراقيون الذين أدت سياساتهم الرعناء الى وقوع هذه المأساة، ولا يجب أن يفلت أيٌّ من هؤلاء من العقاب. مجلس النواب العراقي شكّل قبل أشهر لجنة للتحقيق في قضية سقوط الموصل في أيدي داعش ، وكما يفيد بعض أعضاء هذه اللجنة في تصريحات علنية لوسائل الإعلام، فان اللجنة تتعرض لضغوط قوية من أجل حرف مسار التحقيق بما لا يدين كبار القادة السياسيين والعسكريين الذين تسببوا بالكارثة.
هذا لا يجب أن يحدث أبداً، فلضمان عدم تكرار ما حدث في المستقبل يجب أن تتحدد المسؤوليات عمّا حدث على نحو واضح وصحيح .. لا نريد للتاريخ أن يعيد نفسه .. لا نريد لما حدث في 2006 أن يتكرر بأي صورة من الصور، وما حدث آنذاك ان الحكومة الأولى لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي مكّنت الدكتاتور صدام حسين من الإفلات من مسؤوليته عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها، فقد اختارت تلك الحكومة له قضية "صغيرة" لمحاكمته وإدانته والحكم عليه بالإعدام عنها، هي قضية إعدام بضعة أشخاص في منطقة الدجيل، بينما لم يُحاكم الدكتاتور عن جرائم الإنفال وقصف حلبجة ومناطق كردستانية أخرى بالغازات السامة، ولم يحاكم عن جرائم المقابر الجماعية التي شملت العرب والكرد وسواهم، ولم يحاكم عن حروبه العدوانية الخارجية.
كانت مأساة لنا جميعاً الا يُدان صدام عن جرائمه الكبرى تلك، وستكون مأساة ومهزلة لنا جميعاً أن يفلت من الحساب والعقاب المسؤولون السياسيون والعسكريون الذين مكّنوا داعش من إرتكاب جرائمه في حق ملايين العراقيين.
Top