• Sunday, 24 November 2024
logo

إسلاميون وقوميون عرب .. نظر من خرم الإبرة

إسلاميون وقوميون عرب .. نظر من خرم الإبرة
يوم الجمعة السابع من كانون الثاني الجاري وقع الهجوم الإرهابي على صحيفة "شارلي إيبدو" الفرنسية في العاصمة باريس، ويوم الأحد التالي، الحادي عشر من الشهر، شهدت العاصمة الفرنسية واحدة من أضخم المظاهرات في التاريخ، حيث نزل الملايين الى الشوارع لتوديع الضحايا ولاستنكار الجريمة المروّعة التي راح ضحية لها ولسلسلة هجمات وحوادث لاحقة أكثر من 15 قتيلاً وعدداً مُقارباً من الجرحى.
مظاهرة باريس العظمى ضمّت 50 من الزعماء والمسؤولين الكبار من مختلف دول العالم، بينهم عرب ومسلمون، الذين حرصوا للذهاب الى هناك لتأكيد وقوف هذه الدول وحكوماتها وشعوبها ضد الإرهاب الأعمى الذي يُزهق يومياً عشرات الأرواح البريئة، معظمها في الدول العربية والإسلامية. ومظاهرة باريس إمتد نطاقها الى جميع المدن الفرنسية تقريباً والى معظم العواصم والمدن الكبرى الأوروبية.
في عالمنا العربي والإسلامي لم تخرج أي مظاهرة الا بعد عشرة أيام من هجوم باريس، لكن المظاهرات لم تندد بالهجوم الإرهابي ولا بالإرهاب والإرهابيين. المظاهرات خرجت للتنديد بصدور عدد جديد من الصحيفة الفرنسية تضمّن رسماً إعتبره البعض مسيئاً للنبي محمد. تلك المظاهرات إتسع نطاقها من أندونيسيا الى موريتانيا مروراً بباكستان وإيران والشيشان والأردن وغزة والجزائر. وفي النيجر إتخذت طابعاً عنيفاً للغاية، فالمتظاهرون أحرقوا عشر كنائس وعدداً من الفنادق والمحال والمدارس ودور الأيتام، ما أدى الى مقتل خمسة أشخاص وإصابة 128 آخرين من المدنيين ورجال الشرطة. والواقع ان تلك المظاهرات كانت في جوهرها مؤيدة للعمل الإرهابي الذي إهتزت له باريس وسائر مدن العالم.
من الناحية السياسية كل ما حدث، منذ الهجوم الإرهابي على الصحيفة الفرنسية حتى المظاهرات في العواصم العربية والإسلامية، لم ينفع في شيء قضية الدفاع عن النبي محمد التي تذرّع بها الإرهابيون المهاجمون لتبرير فعلتهم، وكذا الذين تظاهروا من إندونيسيا الى موريتانيا، فالصحيفة لم تكن معروفة جيداً خارج فرنسا، وحتى في فرنسا نفسها فانها لم تكن تطبع سوى بضع عشرات الآلاف من النسخ وكانت تعاني من متاعب مالية، لكن أول عدد صدر منها بعد الهجوم الإرهابي طُبع بثلاثة ملايين نسخة وبـ 16 لغة، ووزع في أكثر من 20 دولة ونفذ من الأسواق خلال ساعات، وقامت المطابع بطبعه مجاناً على نفقتها تضامناً مع ضحايا العمل الإرهابي، أي ان الهجوم جعل من تلك الصحيفة صحيفة دولية أكثر شهرة من أهم الصحف الصادرة في الولايات المتحدة أو بريطانيا أو اليابان، بينما زاد الهجوم الإرهابي وتوابعه من الإنطباع لدى عموم الناس في العالم بوجود علاقة بين الدين الإسلامية والإرهاب، فالهجوم تمّ في ظل تكبيرة " الله أكبر"، فيما تبنّى تنظيمان يدّعيان الهوية الإسلامية، هما داعش والقاعدة في اليمن، المسؤولية عن الهجوم.
النقاش الذي دار في عالمنا العربي والإسلامي عقب حوادث باريس جرى تركيزه من جانب الإسلاميين، وبالذات المتشددين منهم، على ما رأوه إعتداءً من الصحيفة على مكانة النبي محمد وتجاوزاً على معتقدات المسلمين المقدسة، من دون أن يلوح لأنظارهم الجانب الإرهابي الخطير للقضية، مع ان البلدان العربية والإسلامية هي أكثر البلدان معاناة من النشاط الإرهابي، فالعمليات الإرهابية التي تتعرض لها بلدان أوروبا والأميركيتين لا تعادل عشرة بالمئة مما يجري منها في أفغانستان وباكستان والعراق وسوريا ومصر واليمن وتونس وسواها.
الهجوم على الصحيفة الفرنسية وما تلاه من هجمات هي أعمال إرهابية بكل المقاييس، فقد كان معظم ضحاياها من الأبرياء (حراس ورجال شرطة ومدنيون)، هذا إذا كان هناك مذنبون كالرسامين ورئيس تحرير الصحيفة.
النظرة الى عملية باريس من زاوية الرسوم المسيئة للمعتقدات الإسلامية فقط، وإهمال الجانب الإرهابي للعملية برمتها، نظرة قاصرة للغاية، وهي موضوعياً تقدّم خدمة لا تُقدّر بثمن للمنظمات الإرهابية التي تسعى الى إايجاد الذرائع والمبررات لأعمالها، وهي تعيد الى ذهني شخصياً ما كنّا قد عانينا منه في أواخر الثمانينيات وكل تسعينيات القرن الماضي.. في ذلك الوقت كان عشرات الآلاف من العراقيين من مختلف القوميات يعيشون منفيين في دول عربية وأوروبية، وعندما قصف نظام صدام حسين بالسلاح الكيمياوي مدينة حلبجة ومناطق أخرى في كردستان العراق (باليسان والشيخ وسان) كان بعض القوميين العرب، ممن يناصرون النظام ويتعاطفون معه، يتبنون مزاعم ذلك النظام بانه بريء من "تهمة" إستعمال السلاح الكيمياوي ضد مواطنيه، وان من قصف حلبجة بالغاز القاتل هي إيران .. كنّا في بعض الأحيان نقول لهم : لنأتِ معكم، ولنفترض ان نظام صدام بريء فعلاً برغم توفّر الكثير من الأدلة والشواهد التي تدينه .. لنفترض هذا، ألا يثير حفيظتكم ويستفزّ مشاعركم ان هناك الآلاف من المدنيين، أطفالاً ونساءً وشيوخاً، الذين أبيدوا بهجمات السلاح الكيمياوي؟ لماذا لا تندّدون معنا بهذه الجريمة ضد الإنسانية؟ لماذا لا تصدرون بيانات تنددون فيها بالجريمة ولا تعلنون تضامنكم مع الضحايا من أبناء الشعب الكردي؟
هذا الكلام لم يكن ليجد صدى لدى أولئك القوميين العرب المنحازين لصدام حقاً وباطلاً، مثلما لا يجد صدى الآن أي كلام مع الإسلاميين بضرورة التنديد بكل إشكال الإرهاب وأنواعه مهما كانت الذرائع المقدمة لتبريره وتسويغه، فالإسلاميون المتطرفون، كما القوميون المتشددون، ينظرون الى الأشياء من خرم الإبرة. وكما ساعد أولئك القوميون صدام في إلحاق أفدح الأضرار بقضايا الأمة العربية، فان الإسلاميين المتطرفين يلحقون أضراراً مماثلة بالإسلام وقضاياه بوقوفهم الى جانب الإرهاب.
Top