• Sunday, 24 November 2024
logo

إنتصارات البيشمركة تُعيد الإعتبار للعسكرية العراقية المهزومة في عهد المالكي

إنتصارات البيشمركة تُعيد الإعتبار للعسكرية العراقية المهزومة في عهد المالكي
قبل سنتين كتبتُ في عمودي اليومي "شناشيل" في صحيفة "المدى" متسائلاً : "عماذا يقاتل جنودنا في طوزخرماتو؟".
مبعث ذلك السؤال الذي إنطوى على الإستنكار، كان الحشد العسكري الذي أقامه، من دون أي داعٍ أو مبرر، رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة السابق نوري المالكي على طول عشرات الكيلومترات بالقرب من حدود إقليم كردستان وفي المناطق المتنازع أو المختلف عليها، أو غير محددة المصير بسبب عدم تطبيق المادة 140 من الدستور التي كان يتعيّن الفراغ من إنجاز أحكامها بنهاية العام 2007.
ذلك الحشد بُثّت مشاهده على الرأي العام عبر الفضائيات، ووقفتُ عليه عيانياً أثناء رحلة لي على الطريق البري من بغداد الى أربيل في ذلك الوقت. كان من الواضح ان ذلك الحشد أريد به عرض للعضلات ولا علاقة له بالأمن الوطني المُهدد من تنظيم "القاعدة" الإرهابي وفلول نظام صدام، لكنه كان عرضاً بعيداً جداً عن ساحته الحقيقية، ففي محافظتي نينوى والأنبار كان تنظيم "القاعدة" وفلول البعث يبنون لهم قواعد وينشئون خلايا نائمة تحضيراً لما حصل بعد ذلك بسنة ونصف السنة.
في ذلك العمود سفهّتُ فكرة إرسال جنود الجيش العراقي للمواجهة مع عناصر البيشمركة، لأنه في حال ما نشبت معركة بين الطرفين بفعل فاعل جالس في المنطقة الخضراء ببغداد، فان النتيجة ستكون في غير صالح الجنود العراقيين العرب، لأنها معركة غير عادلة من جهة ومن جهة أخرى غير متكافئة في الجانب المعنوي ذلك انه ليست هناك قضية يُقاتل من أجلها الجندي العربي في مقابل القضية التي يُقاتل البيشمركة في سبيلها.
كتبتُ في ذلك العمود: " أن الكرد عندما ثاروا على الحكومات العراقية لم يكن لديهم أي شيء.. لا شيء غير الجبل وبيوت الحجر.. إخترعوا البيشمركة الذين استبسلوا من أجل الحصول على الإعتراف بقوميتهم. الآن لديهم أسباب أكثر قوة للإستبسال. هذا النعيم الذي تُفصح عنه الأبنية والمشاريع والشوارع النظيفة والمولات والأمن سيكون دافعاً قوياً لهم للتضحية".
وختمت بالسؤال الذي عنونتُ به العمود.. قلت: " ولكن السؤال: عمّاذا سيقاتل ويدافع الجنود الذين أرسلتهم حكومتنا الى تخوم كردستان ورأينا بعضهم مع دباباتهم في الطريق على مشارف طوزخورماتو؟ أعن بحيرات الطين المخلوط بالقمامة الطافية والمياه الآسنة التي تجتاح مدننا وقت المطر؟ أم عن الكهرباء المقطوعة؟ أم عن الفساد المالي والإداري؟ أم عن البطالة؟ أم عن الحصة التموينية البائسة التي إستكثرتها الحكومة علينا؟ أم عن سوء الخدمات العامة وبخاصة الصحة والتعليم؟".
في ما كتبته في ذلك الوقت عن الجيش العراقي جواب على السؤال الكبير الذي يتردد منذ ستة أشهر في كل أنحاء العراق وخارجه: كيف انهزم هذا الجيش على نحو صادم وغير مسبوق أمام إرهابيي "داعش" والبعث الذين كانت الدعاية الرسمية في بغداد تصرّ على وصفهم ب"الجرذان"؟
لم يكن الجيش العراقي الجديد الذي أُنشيء بعد 2003 جيشاً حقيقياً، لأنه تشكيله لم يجرِ على المباديء والقواعد المهنية والوطنية التي تتشكل على وفقها الجيوش والقوات المسلحة في العالم. لم تقتصر التعيينات في هذا الجيش على أسس المحاصصة الطائفية والقومية فحسب وإنما أيضاً على أسس حزبية وعشائرية وشخصية.. الطبقة السياسية التي تولّت السلطة بعد 2003 تصرّفت على أساس ان السلطة هي وسيلة للحصول على المغانم، فعملَ كل فرد وحزب في هذه الطبقة للإستحواذ على أكبر قدر من المغانم، والجيش كان واحداً من "كنوز" الغنائم والأسلاب لهذه الطبقة .. كل حزب من الأحزاب المتنفذة في السلطة وكل شخص متنفذ في هذه الأحزاب سعى لحشر عناصر من أهله وعشيرته في الجيش، وجرت تولية ضباط "الدمج" الذين لم يعرف الكثير منهم الحياة العسكرية يوماً ولم يدرس في كلية أو معهد عسكري أو يجتاز دورة تخصصية، مناصب خطيرة في الجيش، وسعى رئيس الوزراء والقائد العام السابق ووزير الدفاع السابق الى تقديم عناصر موالية لهما شخصياً في المناصب والمهمات. يضاف الى هذا عامل مهم آخر هو ان هذا الجيش لم تُحدد له عقيدة معينة يُدين بها ويعمل على وفق مبادئها.. كان الولاء الشخصي هو العامل الحاسم في إسناد المناصب القيادية.. وهذا كله أدى الى تفشّي مظاهر المحسوبية والمنسوبية والفساد الإداري والمالي في صفوف الجيش وسائر الأجهزة الأمنية. وكشف رئيس الوزراء الجديد حيدر العبادي عن وضع مريع للقوات المسلحة بوجود " الفضائيين"، وهم الجنود المتغيبون عن وحداتهم والذين كان ضباطهم يستحوذون على رواتبهم بالكامل أو جزئياً في مقابل عدم دوامهم، بل ان البعض منهم لم يكن وجود بالمرة.. مجرد أسماء وهمية على ورق الضباط الفاسدين.
بالتأكيد جيش من هذا النمط لا يمكن له أن يخوض أي معركة، ولهذا وجدنا القوات المرابطة في الموصل وسواها تُلقي أسلحتها وتفرّ من مواقعها من دون إطلاق أية رصاصة عندما حصل هجوم "داعش".
في المقابل كان البيشمركة الذين بدوأ بالتحوّل تدريجياً منذ العام 1991 من رجال "حرب عصابات"، أو فدائيين، الى جيش نظامي، يؤمنون بقضية تُصنف في العلوم السياسية ضمن قضايا التحرر الوطني أو القومي، وهذه القضية تشكل عامل وحدة وقوة لهم، فضلاً عن انه كانت لديهم عقيدة عسكرية يتدربون ويتولون واجباتهم على وفقها.
القضية الوطنية أو القومية والعقيدة العسكرية هما السر في تحقيق البيشمركة انتصارات ذات قيمة في الحرب الراهنة ضد "داعش"، ففي غضون أسابيع قليلة إستطاعوا تحرير مساحات واسعة برغم إفتقارهم الى الأسلحة والمعدات الثقيلة التي توفرت لدى "داعش" من معسكرات وقواعد الجيشين العراقي والسوري. وهذا الإفتقار كان بسبب سياسة حكومتي المالكي اللتين لم تتعاملا مع قوات البيشمركة بوصفها جزءاً من القوات المسلحة العراقية كما جاء في الدستور، بل ان الحكومة الأخيرة للمالكي تعمدت إيقاف صرف رواتب البيشمركة على مدى شهور عدة قبل إجتياح "داعش" وبعده.
الحرب المتواصلة الآن مع "داعش" هي أول إختبار من نوعه لقوات البيشمركة.. نعم كانت هناك جوانب سلبية تكشّفت في هذا الإختبار ( إنسحاب بعض القوات من دون مبرر)، لكن الجيد انه أمكن بسرعة معالجة الخلل، ما ساعد في تحقيق الإختراقات في الحرب ضد "داعش". وهذا ما ينقص الجيش العراقي، فهو في حاجة ماسة لمعالجة الخلل البنيوي الخطير الذي يعاني منه .. لابدّ من إعادة هيكلة وتنظيم هذا الجيش كيما ينجح في هزيمة "داعش" وفي الفاع عن سيادة البلاد واستقلالها.. إعادة الهيكلة والتنظيم تعني إعادة بناء الجيش على أسس مهنية ووطنية، ووضع عقيدة عسكرية لهذا الجيش، لتكون لديه قضية يقاتل من أجلها، وحتى لا يتعرض الى المزيد من الهزائم.
Top