كيف تجاوبت الأطراف الكوردية مع مبادرة بهجلي؟
بكر صدقي
تبنى حزب العمال الكوردستاني الهجوم الانتحاري الذي نفذه اثنان من عناصره على منشآت “توساش” للتصنيع الحربي في ضاحية العاصمة أنقرة، الأسبوع الماضي، في اليوم نفسه الذي دعا فيه الزعيم القومي المتشدد دولت بهجلي عبد الله أوجلان إلى إلقاء كلمة في البرلمان التركي ليعلن فيها نهاية العمل المسلح وتفكيك حزب العمال الكوردستاني المتمركز في جبل قنديل في شمال العراق. وكان الرد التركي على ذلك الهجوم هو تنفيذ سلسلة من الضربات الجوية على الأراضي الخاضعة للإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا وتسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية. قرأ المراقبون هجوم أنقرة على أنه رد عنيف على إشارات بهجلي الإيجابية بشأن المسألة الكوردية في تركيا. صحيح أنه لا يمكن التخطيط لعملية بهذه المواصفات في اليوم نفسه، وهذا ما زعمته قيادة قنديل للإشارة إلى أنها لا تعبر عن رفض عملية سياسية محتملة قد تكون إشارات بهجلي تمهيداً لإطلاقها، لكن تلك القيادة لا بد أنها كانت تعلم أن “الدولة” التركية قد منحت إذناً بزيارة أوجلان، قبل تصريحات بهجلي بيومين، لابن أخيه عمر أوجلان النائب في البرلمان عن حزب المساواة والديمقراطية، وتمت الزيارة فعلاً بعدها بيوم، وحمل زائره إلى الرأي العام رسالة من عمه قال فيها إنه يملك القدرة “نظرياً وعملياً” على إنهاء الكفاح المسلح ونقل المسألة الكوردية إلى المستوى السياسي والحقوقي. لذلك يمكن القول إن قيادة قنديل التي لا يمكنها رفض مبادرة سياسية من السلطة قد تؤدي إلى إطلاق سراح زعيمها التاريخي، قد أعطت جوابها بصورة دموية على أي طلب محتمل من أوجلان بشأن التخلي عن السلاح وتفكيك بنية المنظمة.
إذا كان هذا هو جواب حزب العمال الكوردستاني على إشارات دولت بهجلي، فقد كان جواب صلاح الدين دميرتاش على النقيض منه تماماً: ندد بعملية أنقرة بلا أي استدراك أو تردد، وأعلن تأييده الكامل لأي مسار سياسي محتمل لحل المسألة الكوردية في تركيا. أما حزب المساواة والديمقراطية الذي كان يقوده إلى حين اعتقاله في خريف العام 2014، فقد صدرت من أركانه، في البداية، تصريحات تعبر عن موقف مشابه في تفاؤل حذر بالنظر إلى غموض “المبادرة” الحكومية المحتملة بناءً على إشارات بهجلي. أما بعد هجوم أنقرة فقد أصدر الحزب الكوردي الممثل في البرلمان بياناً مطولاً بلغة غريبة توحي أن مضمونه “الثوري” قد تم فرضه على الحزب من قبل قيادة قنديل، يرفض فيه “المطالبة بالاستسلام”. وسرعان ما جاء رد بهجلي على هذا الموقف بالعودة إلى أسلوبه الحاد فقال إنه “ليس هناك مسألة كوردية في تركيا ولن تكون!”
الواقع أنه إذا حاولنا البحث عن اقتراح ملموس في إشارات بهجلي التي أطلقها في ثلاث مناسبات على مدى شهر تشرين الأول الجاري فلن نعثر سوى على وعد مبهم بإطلاق سراح محتمل لأوجلان مقابل أن يقوم باستخدام نفوذه لدى “الكوردستاني” للتخلي عن الكفاح المسلح. أما سائر عناصر المسألة الكوردية التي يرفض حتى الاعتراف بوجودها فهو يريد “حلها” بشعار “الأخوّة التي عمرها ألف عام” بين الأتراك والكورد بحسب وصفه. هذه الأخوّة سيبني عليها حليفه أردوغان أيضاً خطابه يوم الأربعاء في أول إعلان رسمي عن تأييده لإشارات بهجلي، بالتزامن مع هجوم عنيف على الإرهاب والتعبير عن الحزم في مواصلة مواجهته عسكرياً.
كذلك جاء تأييد قائد قوات سوريا الديمقراطية لأي عملية سياسية من شأنها أن تؤدي إلى حل عادل للمسألة الكوردية في تركيا، مع رفض استخدامها غطاء لمواصلة السعي إلى تقويض تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا. وأكد عبدي في حوار أجرته معه عنبرين زمان على منبر “مونيتور” أن الدولة التركية لم تفتح أي خط تواصل مع “قسد” بشأن تصورها للعملية السياسية المفترضة وموقع الشق السوري منها، بل تواصل هجماتها الجوية على مناطق الإدارة الذاتية منذ عملية أنقرة.
بالنظر إلى هذه المواقف المتباينة يمكن الحديث عن احتمال وجود شرخ داخل بيئة الحزب الكوردستاني بمختلف تنظيماته وميادين تواجده ونفوذه. فأوجلان الذي قالت تقارير إعلامية إن أجهزة الدولة التركية تتفاوض معه منذ أشهر، يريد “طرفاً ثالثاً ضامناً” و”ترتيبات تشريعية” شرطاً للعمل على إنهاء النشاط المسلح للكوردستاني، وفقاً لتسريبات نسبت إلى ابن أخيه عمر أوجلان. ويفهم من الطرف الثالث مشاركة دولة في المفاوضات كجهة ضامنة، أما الترتيبات التشريعية فمن المرجح أن تعني تأمين استفادة أوجلان من “حق الأمل” الذي أشار إليه بهجلي، ومن شأنه أن يؤدي إلى إطلاق سراحه حتى لو كان مشروطاً (مثلاً بإقامة جبرية بدلاً من السجن). أما دميرتاش فتأييده غير مشروط لأي عملية سياسية محتملة. وفي قيادة قنديل ثمة جناح يقوده جميل بايق معروف بقربه من إيران، من المحتمل أنه وراء إصدار الأمر بتنفيذ عملية أنقرة لعرقلة خروج أوجلان وما قد يترتب على ذلك من تداعيات لا يريدها بشأن مصير حزب العمال الكوردستاني.
بالمقابل فالدولة التركية ممثلة بأردوغان وبهجلي تريد فصل الداخل التركي عن جواره الإقليمي، بالحديث عن أخوّة تركية – كوردية من جهة، ومواصلة ضرب مواقع حزب العمال الكوردستاني إلى حين يستسلم ويفكك بنيته العسكرية، وبما يضمن تقويض تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، بالتفاهم مع نظام الأسد إذا نجح أردوغان في إقناعه بتطبيع العلاقات معه.
كما نرى من تعقيد المشهد الموصوف أعلاه، يحتاج تحقيق الدولة التركية لـ”وحدتها الوطنية” في مواجهة العواصف القادمة من جنوبها بفعل حرب إسرائيل الشاملة على فلسطين ولبنان وسوريا وصولاً إلى إيران، لأكثر من مجرد مصافحة الزعيم القومي المتشدد لقادة الحركة السياسية الكوردية أو إطلاق وعد مبهم بإطلاق سراح أوجلان أو التغني بفضائل الأخوّة التركية – الكوردية. فالمسألة الكوردية مسألة داخلية في تركيا بقدر ما هي أيضاً مسألة إقليمية ودولية.
باسنيوز