• Wednesday, 05 February 2025
logo

الاستدلال التعسفي: الكورد والنوبة والهنود الحمر نموذجاً

الاستدلال التعسفي: الكورد والنوبة والهنود الحمر نموذجاً

د.محمد العرب

 

في عوالم السياسة لا تُبنى القرارات دائمًا على الحقائق الصلبة أو الأدلة المنطقية ، كثيراً ما تتحكم في صياغة السياسات والمواقف الرسمية استراتيجيات ذكية تتلاعب بالعقول وتعيد تشكيل الوعي الجمعي وأحد أخطر هذه الاستراتيجيات هو (الاستدلال التعسفي) وهو نمط من التفكير المنحرف الذي يؤدي إلى نتائج غير مبررة منطقياً، ويُستخدم لتبرير قرارات قمعية أو تشويه صورة جماعات معينة أو فرض رؤى سلطوية على الواقع.

السياسة بطبيعتها تتعامل مع تعقيدات الواقع: شعوب متعددة، ثقافات متداخلة، وصراعات مصالح لا تنتهي وهنا يأتي الاستدلال التعسفي كأداة لتبسيط هذا التعقيد بطريقة تخدم أهدافاً معينة ، يقوم هذا النوع من الاستدلال على ربط الأحداث أو الظواهر الاجتماعية ببعضها بطريقة غير علمية، ثم تقديم هذا الربط على أنه حقيقة لا تقبل الجدل…!

تاريخياً…كان الاستدلال التعسفي حجر الزاوية في بناء الكثير من السرديات الاستعمارية والعنصرية. فقد ربطت القوى الاستعمارية بين (تخلف) الشعوب الأصلية كقولبة مخادعة و (حاجتها) للحماية الغربية كاجندة استعمارية ، وكأن التخلف صفة جوهرية لا يمكن معالجتها إلا بالتبعية وهذا المنطق منح القوى الاستعمارية مبرراً لنهب ثروات الشعوب واستعبادها.

لنأخذ مثالاً معاصراً : الشعب الكوردي في تركيا وإيران والعراق وسوريا لعقود طويلة، عانى الكورد من سياسات تمييزية وقمعية تبررها أنظمة الحكم عبر استدلالات تعسفية. في تركيا، غالباً ما ارتبطت الهوية الكردية في الخطاب الرسمي بمفاهيم (الانفصال) و (التهديد للأمن القومي) وهذا الاستنتاج يتجاهل حقيقة أن الكورد مواطنون يسعون لحماية لغتهم وثقافتهم وحقوقهم السياسية، كما هو حال أي شعب آخر ، تاريخ الكورد عميق ومتجذر في المنطقة، فهم ينتمون إلى حضارات قديمة مثل الميديين الذين أسسوا إمبراطورية عظيمة في القرن السابع قبل الميلاد.

ورغم هذا الإرث، ظلوا يعانون من محاولات طمس هويتهم ،وفي العراق تعرّض الكورد لحملات إبادة جماعية مثل حملة الأنفال في الثمانينيات، حيث بُرّرت الجرائم الوحشية ضدهم من خلال ربطهم تعسفياً بـ (التمرد على الدولة) أو (العمالة للخارج) وهذا الاستدلال وفّر غطاءً سياسياً للاضطهاد، متجاهلاً المطالب الشرعية للشعب الكوردي في تقرير مصيره.

مثال آخر هو الشعب النوبي في مصر والسودان، الذي عانى من التهميش والطمس الثقافي لعقود. النوبة، التي كانت في يوم من الأيام مهد حضارات عظيمة مثل مملكة كوش، تركت آثاراً مذهلة في العمارة واللغة والثقافة. لكن مع بناء السد العالي في مصر خلال الستينيات، تم تهجير النوبيين من أراضيهم التاريخية على ضفاف النيل. برّرت الدولة هذا التهجير عبر استدلال تعسفي يقول إن (التنمية الوطنية أهم من الخصوصيات الثقافية) وهذا المنطق تجاهل تماماً أن التنمية يمكن أن تُحقّق دون تدمير هوية جماعة عريقة. في السودان، كان يُنظر إلى النوبيين باعتبارهم (شعباً هامشياً) في الرواية القومية، مما ساهم في إبقائهم خارج دوائر السلطة والتأثير.

هذا الاستدلال السطحي خلق صورة نمطية عن النوبيين وكأنهم أقل أهمية من المكونات الأخرى، وهو ما يُعد تحريفاً للواقع التاريخي والثقافي الذي يزخر به هذا الشعب.

أما المثال الثالث فيتمثل في مأساة الهنود الحمر، السكان الأصليين لأمريكا الشمالية. قبل وصول الأوروبيين إلى القارة، كان هؤلاء السكان يعيشون ضمن منظومات اجتماعية وسياسية وثقافية معقدة، تدير شؤونها عبر قبائل واتحادات مثل كونفدرالية الإيروكوا التي تُعتبر نموذجاً مبكراً للحكم الديمقراطي.

لكن مع بدء الاستعمار الأوروبي، وُصِف السكان الأصليون بأنهم (همج) أو (غير متحضرين) وهي صورة نمطية تأسست على استدلال تعسفي يفترض أن اختلافهم الثقافي دليل على دونيتهم. هذا المنطق مكّن القوى الاستعمارية من تبرير حملات الإبادة الجماعية، وتهجير القبائل قسرًا فيما عُرف بـ (مسار الدموع) والسيطرة على أراضيهم تحت ذريعة (قدر الأمة المتجلي) الذي سوّغ توسع الولايات المتحدة غرباً باعتباره (حقاً مقدساً).

الخطير في هذا الاستدلال أن السردية التي نشأت حول الهنود الحمر لا تزال تتردد في الوعي الجمعي الأمريكي حتى اليوم، حيث يُختزل تاريخهم في قصص (الكاوبوي والهنود) التي تصورهم كعقبة في طريق (التقدم والحضارة) وهذا التلاعب بالحقائق التاريخية لا يطمس الماضي فحسب، بل يساهم أيضاً في استمرار السياسات التي تُبقي السكان الأصليين على هامش المجتمع الأمريكي المعاصر، سواء عبر العزل في محميات فقيرة أو عبر تهميش أصواتهم في السياسة الوطنية.

تكمن خطورة الاستدلال التعسفي في أنه يمنح غطاءً شرعياً للظلم. فعندما يُقال إن جماعة ما (بطبيعتها) متمردة أو تشكل (خطراً ) على وحدة الدولة، يصبح من السهل تمرير السياسات القمعية ضدها دون إثارة الكثير من التساؤلات. بل قد يتحول هذا الاستدلال إلى قناعة راسخة في أذهان العامة، مما يجعل الضحايا أنفسهم موضع شك من قبل مواطنيهم. إذ يتحول الخطاب الرسمي إلى حقيقة اجتماعية يُعاد إنتاجها باستمرار عبر وسائل الإعلام، والمناهج الدراسية، والخطابات السياسية.

الاستدلال التعسفي لا يقتصر على الحكومات الاستبدادية فحسب، بل يمكن أن يتسلل أيضاً إلى الديمقراطيات الحديثة من خلال سياسات الهوية، والتلاعب بالمشاعر الجماهيرية، ونشر المعلومات المضللة. هذا الخطر يجعل من الضروري أن نمارس جميعاً قدراً من التفكير النقدي تجاه ما نسمعه ونراه. فالتاريخ مليء بالأمثلة على شعوب دفعت ثمن صمت الأغلبية عن مثل هذه الاستدلالات المضللة.

يبقى السؤال المفتوح: إلى أي مدى نسمح نحن كأفراد وجماعات بأن نكون أدوات لهذا النوع من الاستدلال التعسفي الرجعي الظالم؟ هل نتبنى سرديات السياسية دون تفكير، فقط لأننا اعتدنا سماعها؟ أم أننا نمتلك الشجاعة لطرح أسئلة صعبة، مثل: ما الأدلة الحقيقية خلف هذه المزاعم؟ هل هناك وجهة نظر أخرى تم إسكاتها عمداً؟ إن الاستدلال التعسفي ليس مجرد خطأ منطقي، بل هو سلاح سياسي خطير يُعيد تشكيل العقول قبل أن يُعيد تشكيل الواقع. ولذلك، تقع على عاتق كل منا مسؤولية تفكيك هذا السلاح، بدءاً من طرح سؤال بسيط: لماذا نصدق ما نصدق..؟!

 

 

 

كوردستان24

Top