• Thursday, 21 November 2024
logo

روح الدستور: إشكالية التشويه!!!

روح الدستور: إشكالية التشويه!!!

أ.د. شيرزاد النجار

حصرياً لـ گولان العربي

"الدستور هو روح، ومؤسسات، وممارسة" 

الجنرال شارل ديغول، 1964

الرئيس الفرنسي في الفترة (1959-1969) الجنرال شارل ديغول (1890 – 1970) أكد عدة مرات أن "الدستور هو روح، ومؤسسات، وممارسة"، لذا نتساءل: من أين إستقى الجنرال ديغول مصطلح "الروح"؟ المصطلح إستقاه الجنرال من الفكر الكلاسيكي، الذي إستخدم مصطلح روح القوانين لـ (مونتسكيو). إن مصطلح "الروح" له معنى محدد: فهو الذي نتحرك به؛ مما يجعله مرادفاً لـ«المبدأ»: إنه يعني ما يشكل حياة الدولة.  وهو المعنى الذي استخدمه الجنرال ديغول.

ونتسائل: هل للدستور روح كأي كائن حي؟ وهل يمكن القول بأن طبيعة الدستور هي ليست جامدة وثابتة، بل تتصف بصفة داينميكية؟ وبالتالي فأن للدستور "روح حية " بفعل المبادىء ألأساسية لأجل تنظيم نشاطات السلطات في الدولة. بهذه الصفة فإن الدستور كـ(كائن حيّ) يتصرف كـ " قائد دستوري" في الدولة، أي أنه عبارة عن "فعل قيادة" عبر تلك المبادىء الجوهرية ( القواعد الأساسية) التي يحتويها الدستور.

إن الدستوريستهدف إقامة هيئات الدولة و صلاحياتها، وبالتالي يمكن تصنيف الدول وفقاً لشكل الحكومة، هل هي شمولية، إستبدادية أو ديمقراطية أي دولة القانون التي هي دولة مؤسسات دستورية حاكمة، وعليه فإن سيادة القانون تنطلق من الدستور وتنتهي عنده، وهذا الدستور يجب أن يكون دستوراً مؤسساً لدولة معقلنة ولممارسة سياسية ديمقراطية تقوم على التوازن بين السلطة والحرية وأن جميع السلطات في الدولة تلتزم بإحترام علوية الدستور. بهذا الشكل فإن مفهوم الدستور يبقى ضمن إطار سياسي . بهذا المعنى يعتبر الدستور النص الأساسي لتنظيم مجتمع سياسي يحدد القواعد العليا التي يجب التقيد بها، وبهذه الطبيعة يتمتع الدستور بصفة العلوية وينظم الضمانة بالمراجعات القضائية.

ان الدستور يقام، قبل كل شيء، من اجل بناء هياكل الدولة، وتحدد مسؤوليات وإختصاصات سلطات الدولة وبالتالي خلق توازن سياسي مابين القوى السياسية القابضة على السلطة في الدولة. الدستور هو المنظم للعلاقة بين تلك القوى السياسية وتبين حدودها في مسألة ممارسة السلطة. وعلى أساس هذا الدور المهم للدستور في الحياة السياسية، فإن طبيعة الدستور هي طبيعة سياسية، وتظهر هذه الصفة بوضوح في نظام سياسي يتميز بـ " تركيز السلطة " لدى فرد أوفئة إجتماعية أوحزب سياسي واحد.  وفي هذه الحالة يصبح الدستور برأي الفقيه الدستوري الفرنسي ( موريس دوفرجيه Duverger1917-2014) منهاج عمل مستقبلي لآيتطابق مع الواقع السياسي.وفي هكذا نظام يفقد الدستورأهميته.

في دساتيرغالبية الدول غير المتطورة، نرى نصوصاً دستورياً تبحث في تكوين مجتمع مثالي مستقبلي وتصبح بمثابة منهاج مستقبلي. الحكام السياسيون لديهم في إيراد تلك النصوص غرض معين وهو إكتساب الشرعية، ولكن في نفس الوقت هم لايؤمنون بتلك النصوص والمبادىء الواردة في الدستور وهذا يعني عدم الإيمان بـ "روح الدستور" وبالتالي "تشويه هذه الروحية".

ويتيح لنا هذا الموضوع فرصة عظيمة لدراسة الكيفية التي أوصلت بها القيم الدستورية بلداننا إلى ما هي عليه اليوم؛ وكيف يمكن لهذه القيم أن تأخذنا إلى حيث نريد أن نذهب. وهذا موضوع ميتافيزيقي في جزء كبير منه، إذ أن صياغة الدستور تتعلق بالمبادئ الأولى المتعلقة بطبيعة الإنسان ووجوده في المجتمع.

روح الدستور، أو جوهر الدستورحسب الفقيه الألماني (كارل شميت Schmitt 1888-1985)، تتعلق بتلك المبادىء الجوهرية المرتبطة بتنظيم الدولة وسلطاتها، وأن هذه المبادىء عبارة عن قرارات سياسية تحدد الوجود السياسي لشعب الدولة وبالتالي  تقيد كل المعايير والقواعد التي تأتي لاحقاً والتي تٌقنن بقوانين دستورية، وهنا يمكن الإشارة الى مواد ضمن الباب الأول المعنون (المبادىء الأساسية) في دستور جمهورية العراق 2005  التي تعتبر بمثابة "قرارات سياسية" في مفهوم (شميت).

 ومن هذه النقطة يمكن التمييز ما بين جوهرالدستور والقوانين الدستورية، فجوهر الدستور لايمكن تعديله بنفس الإجراءات المتخذة لتعديل قانون دستوري، حيث يحتاج جوهرالدستور لتعديله إرادة القابضين على السلطة، أي الحكام الذين يُسيّرون شؤون الحكم وهم مجتمعون في السلطة التأسيسية التي تضع الدستور وتحدد جوهره، وهذه السلطة لها علوية وسلطات مطلقة في إختيار ما يمكن تعديله، الذي لايُطال تلك المواد في الدستور التي عليها حظر دائمي أو حظر زمني مؤقت. هذه السلطة التأسيسية تمثل القوى السياسية المساهمة في الحكم ولهامنظور خاص بها حول القواعد والنصوص الدستورية، حيث أنها لديها أفكار بصدد تلك النصوص وأنها في حالة الضرورة مقابل نص دستوري معين، لديها نص أخر خفي يمثل روح الدستور وتلعب السلطة القضائية ممثلة بالمحكمة العليا الدستورية الدور المهم في التعبير عن تلك الروح في قراراتها وتفسيراتها.

 

إذن، كيف يمكن الربط ما بين روح الدستور والمحكمة العليا؟

 

إبتدأً المحكمة العليا غير مسموح لها أن تتدخل في ذلك الميدان الذي يحتوي على تلك المبادىء الأساسية التي تمثل جوهر الدستور وبالتالي روح الدستور، أي المحكمة غير مسمح لها أن تقوم بتعديل أو تفسير لقضايا ترتقي إلى مستوى تغير لنظام دستوري بنظام دستوري آخر. أذن، متى يجوز لتلك المحكمة أن تتدخل في قضايا دستورية؟

إن التطور الراهن للقضاء الدستوري يترافق مع ضبط حركة ديمقراطية في العالم المعاصرويتضمن إحترام القضاء الدستوري للمبادىء الجوهرية للدولة الواردة في متن الدستور، إذ يتعين التحقق من أن السلطات العامة في الدولة تتصرف وفق تلك المبادىْ.

في مناقشة تجربة الولايات المتحدة الأمريكية، الفقيه الفرنسي (إدورد لامبير 1866-1947 Lambert) في كتابه الصادر عام 1921( حكومة القضاة ومحاربتها Le gouvernement des juges et la lutte)  ينتقد مسألة إعطاء قضاة المحكمة العليا في الولايات المتحدة سلطة لطرح التشريع جانباً هو أمر لا يتسم بالحكمة. الفقيه النمساوي الشهير (هانس كيلسنKelsen 1881-1973) تناول وضع القضاة في الولايات المتحدة وإستنتج أنه من الواجب والضروري أن يتضمن الدستور في أي دولة نصوصاً للمراجعة القضائية، إلا أن هذه السلطة يجب أن لا تُعطى للمحاكم الإعتيادية، والسبب في ذلك يرجع إلى أهمية السياسة العامة، وللمحتويات السياسية المتضمنة في التقاضي الدستوري.

ولكن في الواقع القضاء الدستوري يواجه جملة من المشاكل الناجمة عن تنفيذ نصوص الدستور أو عدم تنفيذها.

الدستور لايعالج ولاينظم الرقابة الدستورية على المبادىء الجوهرية للدستور والتي تمثل روح الدستور، وأن سكوت الدستورتجاه هذا الإختصاص الخطير يدل على عدم إعطاء القضاء الدستوري هذه المهمة ،التي ولخطورة وأهمية الإختصاص لايمكن أن يُفترض، بل يجب أن يكون في الدستور وضوح تجاههه. إذن أن غياب أو عدم تحديد الدستور للرقابة الدستورية على نصوص الدستورالجوهرية، يُعد بمثابة حظر دستوري لقضية رقابة المحكمة الدستورية في مسألة التعديل الدستوري للمبادىء الجوهرية للدستور. وعليه فإن عملية تعديل المواد الدستورية لايجوز أن يكون موضوعاً للإختصاص الرقابي للمحكمة الدستورية العليا، بل أن هذا الموضوع له سلطة آخرى خاصة بالتعديل وتسمى بـ (السلطة التأسيسية المشتقة)  أو ببساطة (سلطة التعديل) .

وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى المادة 93 من دستور العراق 2005حيث تحدد إختصاصات المحكمة الإتحادية العليا بـ 8 قضايا ولكن ليس من ضمنها مسائل تتعلق بتعديل الدستور، لكن أخطر تلك الإختصاصات مسألة تفسير نصوص الدستور حيث يمكن من خلال التفسير أن تحاول المحكمة إعطاء تفسير وتوضيح لنص معين طُلِب من المحكمة أن تفسره وبطريقة ومنهج تؤدي إلى "إنحراف" في معنى النص. لذلك يجب على المحكمة الإتحادية أن تتجنب الدخول في إشكاليات تعمل على إخراج النص المعني من مضمونه الحقيقي، وأيضاً تتجنب إنتقادات حول "خروجها" عن إختصاصاتها و" القفز" إلى إختصاصات السلطة التأسيسية المشتقة حول تعديل الدستور. ( وهنا من المفيد الإشارة إلى المادة 61 الفقرة الأولى من الدستور الفرنسي لعام 1958، وكذلك المادة 192 من الدستور المصري 2014 المعدل بصورة شاملة 2019والنافذ حالياً، حيث في  الحالتين أن رقابة المجلس الدستوري الفرنسي ورقابة المحكمة الدستورية العليا المصرية لاتشمل الرقابة على المواد الدستورية الخاصة بتعديل المواد الدستورية).

وهذا التوجه هو نتيجة لمشاكل جدية واجهت الدستورالعراقي 2005، وترجع إلى سبب تتعلق بطبيعة الدستور العراقي من حيث أنه دستورجامد وضع ألية معقدة لتعديله في إطارالمادة 126 التي وضعت في مكان في الدستور هو ليس مكانه الطبيعي حيث وضعت المادة ضمن الأحكام الختامية والإنتقالية، وكذلك وضعت مادة خاصة هي المادة 142 لمعالجة حالة إستثنائية ومستعجلة للتعديل ولكن ولحد الآن لم تنفذ تلك المادة التي وضعت لها فترة زمنية هي 4 أشهر لإنجاز عمل لجنة خاصة من مجلس النواب مشكلة لهذا الغرض.إذن هذه آلية لتعديل الدستور "ممنوع" على المحكمة الإتحادية أن تمد يدها إليها لإنها لا تملك الصلاحية الدستورية بهذا الشأن. بدلاً من هذه الإشكالية كان بإمكان المحكمة الاتحادية أنْ تصدر قرارات بشأن أي نص دستوري يحتاج إلى تأويل دقيق وفقاً للمصلحة العليا للشعب .

 في كل هذه الإشكاليات، يُلاحظ في السلوكية السياسية والقضائية في العراق " نسيان" أن هناك للدستور "روح " يجب اللجوء إليها لغرض تنظيم شؤون الدولة والمجتمع، حيث أنها أي  "روح الدستور" تعمل إرساء وترسيخ المبادىء الجوهرية المتعلقة بإقامة كيان سياسي وإجتماعي متطور.

Top