في تجليات الفكر القومي لدى مصطفى بارزاني
صلاح بدرالدين
تناول الكثيرون في العقود الأخيرة السيرة الذاتية للزعيم الراحل ملا مصطفى بارزاني ، وجوانب نهجه الثوري خلال انتفاضات بارزان ، وثورة أيلول القومية الديموقراطية ، ومواقفه السياسية من كفاح الحركة التحررية الكردية بالجوار ، وقضايا شعب كردستان العراق ، والنظام السياسي في العراق ، ومسألة الحرب ، والسلام ، والعلاقات الكردية العربية ، والأوضاع الإقليمية ، والدولية العامة ، ولكن القلائل اسهبوا في سبر اغوار تطور فكره القومي ، والتحولات التي طرأت عليه في مختلف مراحل حياته .
من مساندة جمهورية مهاباد الى توجهات مؤتمر باكو
قبل انهيار الإمبراطورية العثمانية التي بسطت سيطرتها على مختلف أراضي كردستان التاريخية باستثناء الجزء الملحق بالدولة الصفوية – الإيرانية ، كان الهدف العام للدعوات ، والحركات الثقافية ، والسياسية الكردية هو تحرير الكرد ووطنهم بكل مكان ، اما بعد مرحلة التقسيم فقد كانت حركة كل جزء محكومة بالشروط والوقائع الحدودية – الجيوسياسية الجديدة ، والقوانين المستجدة لدىى الدول المستقلة وبينها سوريا ، وتركيا ، والعراق ، بالإضافة الى ايران ، وبعض الامتدادات في الاتحاد السوفييتي السابق ، بحيث اقتصرت برامج الحركات النضالية الكردية على قضايا كل جزء على حدة ، في اطار مجال الكيانات الجديدة ، وفقدت الحركة الكردية طابعها القومي التاريخي الشامل الذي ازدهر في عهد الإمبراطورية العثمانية ، وانتقلت الى مرحلة التعامل مع خصوصيات كل جزء ، من دون انتفاء المشاعر القومية تجاه البعض الاخر ، بحكم الثقافة الواحدة ، والإرادة المشتركة ، والتاريخ الجامع بين الكرد بكل مكان .
ولم يخرج الفكر القومي لدى الزعيم الراحل عن هذا الاطار ، فقد نشأ في بيئة غلبت عليها المشاعر القومية الشاملة ، والتي لم تكن بمنأى عن التواصل ، والتفاعل مع حركة – خويبون – الكردستانية التي انطلقت من كردستان سوريا ، وانتفاضتي – عبيد الله النهري - والشيخ سعيد بيران بكردستان تركيا ، ومن تجلياتها أيضا المشاركة الفعلية في مشروع إقامة جمهورية مهاباد بكردستان ايران ، هكذا كانت البدايات التي انطلق منها الفكر القومي لدى بارزاني ، وزادته تجاربا ، واطلاعا على خصوصيات التنوع وجوانب المشتركات في النضال الكردي ، ومعرفة باحوال الشعب الكردي في كل مكان .
في كلمته التاريخية بمؤتمر – باكو- وهو في المنفى - في 19-1- 1948, حضره اكراد من ايران والعراق وسوريا. في هذا المؤتمر تحدث- البارزاني- للمرة الاولى عن المسائل السياسية والفكرية ، ومبدأ حق تقرير المصير بشكل علني , ونص كلمته منشور في كتاب السيد- مسعود البارزاني- وفيها طرح استراتيجية الحركة التحررية الكردية, وميز بين اعداء واصدقاء الكرد في تلك المرحلة. المحتوى الاستراتيجي الفكري الاساسي لفكر- البارزاني- القومي الشامل ظهر بوضوح في كونفرانس باكو, ويؤكد اغلبية المؤرخين انها كانت المرة الاولى التي يتطرق فيها- البارزاني- الى المجال الفكري, ويتحدث عن الشرق الاوسط ، والتحركات والصراعات الدائرة في المنطقة. وكانت برأيي محاولة لايجاد موقع للكرد في المنطقة, حيث لم يكن للكرد قبلها موقع ودور يذكر. كان- البارزاني- يحاول إفهام الاتحاد السوفياتي السابق, انه يوجد حوالي 20 مليون كردي- حينها- في الشرق الاوسط, ويمكنهم لعب دور هام في المنطقة, وانهم مرتبطون بالثورة العالمية ضد الاحتلال الاستعماري ، ومع السلام ، هذه الكلمة التي اصبحت ضمن وثائق أرشيف الاتحاد السوفياتي – السابق - وخضعت للبحث والمناقشة.
اما كلمته الجامعة في – كونفرانس كاني سماق العسكري السياسي " 15/4/1967 " ، ( وبالمصدفة كنت هناك في أول زيارة لي الى- البارزاني- والمناطق المحررة, وتابعت المؤتمر السياسي- العسكري لقادة قوات البيشمركة, واعضاء اللجنة المركزية والمكتب السياسي,). فقد ركزت على شؤون ، ومستقبل الإقليم ، وجسدت الانتقال من العام القومي الى الخاص الكردي العراقي ، فهو رئيس حزب يقود الثورة في جغرافية كردستان العراق ، والثورة ترفع شعار ( الديموقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان ) ، وعندما اندلعت الثورة كانت بقرار من قيادة البارتي في العراق ، وقادها كرد العراق ، اما الشأن القومي الكردستاني العام فقد انتظم في اطار علاقات التنسيق والتعاون باشراف الراحل ادريس بارزاني ، هذا من دون ان ننفي التعاطف الكردي القومي مع ثورة وكفاح شعب كردستان العراق في كل مكان ، وذلك إدراكا من كرد المنطقة والعالم بأهمية هذه التجربة الكفاحية الطويلة الغنية بالدروس ، والتي حققت النجاح ، وانتزعت حقوقا في اطار مبدأ حق تقرير المصير ، حسب إرادة شعب كردستان العراق .
لقد انتهجت الحركة الكردية بكردستان العراق وبقيادة الزعيم الخالد وفي سنوات عهده ، سياسة صائبة علىى ضوء الالتزام بجوهر الفكر القومي الديموقراطي الذي ترجم على ارض الواقع بالاشكال التالية :
أولا – عدم اللجوء الى رفع الشعارات القومية المتطرفة ، والابتعاد عن المزاعم الإعلامية ، وادعاء تمثيل الكرد بكل مكان ، بل الانطلاق الموضوعي من شؤون شعب كردستان العراق ، وقبول خصوصية الحركات الكردية في الأجزاء الأخرى ، والتعامل معها على هذا الأساس .
ثانيا – الاعتراف بالنسيج القومي ، الثقافي التعددي بمجتمع كردستان العراق ، وقبول الاخر المختلف اثنيا ، ودينيا ، ومذهبيا وجودا ، وحقوقا .
ثالثا – الحفاظ على العلاقة المتبادلة المتكاملة بين القومي والوطني على صعيد العراق ، واعتبار علاقات الصداقة ، والعيش المشترك بين شعوب العراق منطلقا للبناء عليه حاضرا ، ومستقبلا .
رابعا – التمسك دائما وابدا بالمبدأ السامي المتعارف والمتوافق عليه من جانب شعوب العالم ، والمجتمع الدولي ، وشرعة الأمم المتحدة ، وحقوق الانسان ، حق تقرير المصير ، الذي مازال يشكل الركيزة الأساسية في إيجاد الحلول لقضايا الشعوب ، والقوميات ، في الحرية ، والاستقلال ، وبناء الدول .
وبفضل هذا النهج القومي الديموقراطي للزعيم الراحل ، نال احترام وحب ، وتقدير شعب كردستان العراق ، وكذلك الكرد في أجزاء كردستان الاخرىى ، والاحرار في المنطقة ، والعالم .
للأسف الشديد نجد في الظروف الراهنة نمو تيارات ، ومجاميع مغامرة فيي بعض أجزاء كردستان خصوصا في الساحة الكردية السورية ، تلحق الإساءة والاذى بقضايا الكرد ، وتنفي الحل السلمي الديموقراطي للقضية القومية الكردية حسب مبدأ حق تقرير المصير ، وتخترق تقاليد الاحترام لخصوصيات الحركة في كل جزء ، بل تتدخل قسرا بشؤونها الخاصة لمصلحة اجندة أنظمة الإقليم الشوفينية ، وفي حين تعجز عن تقدييم الخدمات للحركة في بلدانها الاصلية ، فانها تعرض مصائر حركات كردية فيي بلدانها الى المزاد لمصالح حزبية ، آيديولوجية ، كما تنشر نزعة – العسكرة – وتجنيد القصر من النساء والرجال لأغراض قتالية في خدمة الاخرين ، وتثير الفتن ، والنزاعات في الأوساط الكردية بمختلف أجزاء كردستان .
ماأحوج الحركة الكردية السياسية في الظروف الراهنة الى الاستفادة من المسار النضالي الذي انتهجته الحركة الكردية في العراق بقيادة البارزاني الخالد ، والالتزام بشكل اخص في اسلوب ادارته الحكيمة للعلاقات القومية على قاعدة التعاون والتنسيق ، واحترام خصوصيات الاخرين من سياسات ، وأفكار ، ومصالح .