• Saturday, 23 November 2024
logo

من الخاسر من عودة العلاقات العربية التركية؟

من الخاسر من عودة العلاقات العربية التركية؟

علي تمي

 

بعد 11 عاماً من انطلاقة ثورة الشعب السوري، التي فتحت الأبواب على مصراعيها أمام اللاعبين الكبّار لاستدراج المنظمات الإرهابية إلى الملعب السوري والدخول في معركة تصفية حسابات فيما بينهم. هذه المعطيات على الأرض دفعت  الدول نحو اصطفافات جديدة، فمنهم من وقف في الخندق الروسي، ومنهم من وقف مع المحور الأميركي، يعرّفون عن أنفسهم اليوم بدول "أصدقاء الشعب السوري"، تعقد اجتماعاتها بشكل دوري دون جدوى من إيجاد حلول جذرية للوضع القائم في سوريا، بينما الطرف الآخر المتمثل بـ (طهران، دمشق، موسكو، بيروت، بغداد) تقودهم موسكو بشكل أو بآخر، كل ذلك أفرز العديد من القضايا الشائكة، دفع المشهد السياسي في المنطقة نحو مزيد من التعقيد، موسكو تلعب على حبل تفريق دول أصدقاء الشعب السوري"، تارةً على حبل الفتنة مابين الرياض والدوحة، وتارةً أخرى ما بين أنقرة والرياض، وأيضاً في بعض الأحيان ما بين أربيل وبغداد.

 

استمرار هذه الخلافات في المنطقة خلق تصوراً لدى الجميع بإن موسكو وطهران مستفيدتان من إثارة بؤر التوتر في الشرق الأوسط، وصولاً إلى معركة كسر العظم  في أوكرانيا وانزلاق موسكو إلى فخ الناتو، منشغلةً بقضاياها وأزماتها المصيرية، منح ذلك فرصة أخرى لحلفاء واشنطن في الشرق الأوسط (تركيا، قطر، الإمارات، السعودية، مصر، إسرائيل) لاستغلال الفرصة وإعادة ترتيب أوراقها من جديد والعمل على طي صفحات الماضي وإعادة المياه إلى مجاريها في العلاقات لأن الغزو الروسي لأوكرانيا أفرز مخاطر جديدة وباتت كل دولة تخشى على نفسها، وتتعامل مع هذا الوضع بحذر وقلق وخوف شديدين من الانزلاق إلى هذا المستنقع  رغماً عنهم كما حدث أثناء أزمة صواريخ كوبا (1962) وانقسام العالم تلقائياً إلى معسكرين (الغربي) بقيادة الولايات المتحدة الأمريكيه، والشرقي بقيادة "الاتحاد السوفياتي"، كادت أن تحدث كارثة عالمية لولا تدخل العقلاء من الجانبين في اللحظات الأخيرة وإنقاذ البشرية من حرب مدمرة وبالتالي نشر الرعب في كوكب الأرض، لأننا نتحدث هنا عن دولتين نوويتين، فموسكو تمتلك اليوم (6,500 رأس حربي نووي)، وواشنطن بدورها تمتلك اليوم 6,185 من الرؤوس الحربية النووية، وأي تصادم

مباشر بين هاتين القوتين داخل أوكرانيا سيثير الذعر والرعب في العالم، ومن أهم أثاره الاقتصادية هو دفع بأسعار المواد الأساسية والأسواق العالمية نحو الهاوية، وخاصة في الشرق الأوسط و أوروبا الغربية، هذه الدول دقت ناقوس الخطر بعد ان شعرت بالخطر المحدق بها من جميع الجوانب وتخشى على نفسها من أي وقت مضى، وسرعان ما ودعت خلافاتها الثانوية واحتوت كل ما هو ممكن والتحضير لأسوأ الاحتمالات.

 

ماذا تريد تركيا من العرب؟

 

لا شك أن البنية القوية للعلاقات الاستراتيجية ما بين (أربيل، أنقرة، الدوحة) ساهمت إلى حد كبير في إحتواء الخلافات مع الخط الثاني (القاهرة، الرياض، أبو ظبي)، فعودة العلاقات مابين أنقرة والرياض وقبلها ما بين أنقرة وأبو ظبي أغلقت الطريق أمام محور الشر الذي تقوده اليوم طهران في المنطقة، فالرياض وصلت إلى قناعة بأن واشنطن خذلتها في حماية منشآتها النفطية، وتتلاعب بها كيفما تشاء وتبتزها كلما دعت الحاجة مستخدمةً سلاح (الحوثيين)، هذه المنظمة التي تهدد أمن واستقرار الخليج العربي برمته كل ذلك أمام أنظار واشنطن، وجاءت الأزمة الأوكرانية لتكتمل اللوحة السياسية القاتمة، والتي دفعت بالجميع نحو واقع مرّ ومعركة لا مفر منها، والسيول القادمة من أوكرانيا لا بدّ ان تجرف كل شيء من على طريقها ولن تفرق بين هذا وذاك، وتجاوز الخلافات بات ضرورة ومصلحة استراتيجية لدى الجميع، والإعلان عن حقبة جديدة وطي صفحة الخلافات وتعزيز التضامن فيما بينهم هو الحكمة والعقلانية والمنطق بحد ذاته، وسيساهم في إنقاذ المنطقة من فوضى جديدة.

 

أنقرة لا شك أنها شعرت قبل الجميع بالخطر القادم من أوكرانيا، والخوف الأكبر من توريطها في هذا المستنقع ولأنها المستهدفة وعلى المدى البعيد من خلف هذه الأزمات  كما حصلت داخل سوريا ما بعد 2011، وخاصة وقوع المضائق الدولية (الدردنيل والبوسفور) ضمن أراضيها تشكلان حلقة الضعف لديها وصلة الوصل ما بين البحر الأسود ودول البلطيق وروسيا، وما بين البحر المتوسط ودول الشرق الأوسط حيث انتشار القواعد العسكرية الأمريكية في هذه الدول، وهنا لا بد من التذكير بأن شرارة الحرب العالمية الأولى انطلقت من هذه  المنطقة الواقعة بالقرب من اسطنبول لأنها تشكل ممراً عسكرياً (ستراتيجياً) وحمايتها يحتاج إلى قوة جبّارة وسند اقتصادي قوي، وهذا ما تحاول أنقرة تحقيقه والوصول إليه في أقرب وقت من خلال إعادة ترتيب العلاقات مع الدول الرئيسية في المنطقة.

 

الخلاصة: الزيارات المكوكية ما بين أربيل وأنقرة من جهة، ومابين انقرة والرياض والدوحة وحتى ابو ظبي من جهة أخرى، يضيق الخناق على محور الشر الذي تقوده طهران في المنطقة، فواشنطن لم تعد مهتمة بحماية حلفائها لأنها على ما يبدو مستفيدة من إثارة الخلافات وبالتالي للاصطياد في المياه العكرة، فعودة العلاقات ما بين دول "أصدقاء الشعب السوري" إلى طبيعتها لا شك أنها ستنهي حقبة استفراد طهران واللعب بقواعد الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط.

 

بالمحصلة، أوروبا العجوزة أصبحت اليوم في المرمى الروسي ورهينة الأجندات الأميركية، الأزمة الاوكرانية أفرزت قضايا مصيرية، فتحت أبواب جهنم على أوروبا، لهذا السبب تحاول برلين وباريس النأي بنفسيهما عن هذه المعركة بشتى الوسائل لأنهما تدركان جيداً حجم الفاتورة المطلوب منهما دفعها، أما دول الشرق الأوسط، أيضاً تعلم جيداً بأنها إذا لم تنخرط في الحرب على أوكرانيا اليوم فستكون غداً بكل تأكيد جزءا منها، وبالتالي تحاول تجاوز خلافاتها قبل فوات الأوان، بينما تحالف الضرورة ما بين أربيل وأنقرة يتطور نحو الانفتاح الاقتصادي يوماً بعد يوم،  ويخططان لمدّ أنابيب الغاز من العراق إلى تركيا ومنها إلى أوروبا لتطويق الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعصف بها، المشروع يبدو أنه مربح جداً رغم تكاليفه الباهظة، لكن لا شك له عواقب وخيمة على الجانبين، فطهران وموسكو تقودان  معركة الوجود منذ أحد عشر عاماً في سوريا لمنع وإغلاق الطريق أمام مد أنابيب الغاز القطري عبر سوريا وتركيا إلى أوروبا ونجحت في ذلك إلى حد بعيد، وبالتالي لا يمكن أن تسمحا لأنقرة وأربيل بتكرار المشهد ذاته وتغيير قواعد اللعبة الاقتصادية في المنطقة، وخاصة ان طهران تمتلك أدوات فتّاكة لتحريكها كلما دعت الضرورة، سواء كانت في بغداد أو على الحدود العراقية التركية بالتالي فرص عرقلة هذا المشروع والوقوف في وجهه ممكن جداً، من هنا يمكن القول بأن جميع دول المنطقة تشد الأحزمة وتحضر نفسها لأسوأ الاحتمالات، وأربيل هي الحلقة الأضعف في هذه الحلبة لأنها رهينة للصواريخ الإيرانية وتحت أنظار قاعدة (عين الأسد)، ومد أنابيب الغاز عبر تركيا هو خط أحمر إيراني، ويبدو تم توكيل مهمة إزعاج  إربيل في هذه المرحلة لحزب العمال الكردستاني، وتكليف الحوثيين بإزعاج الرياض، ومهمة إزعاج تل ابيب الى "حزب الله" اللبناني، ومن هذا المنطلق يمكن أن تلعب أنقرة دوراً محورياً في حماية هذه الدول عسكرياً وحماية مصالحهم الجيوسياسية، ووضع حدّ لمحور الشر بقيادة طهران في الشرق الأوسط ومنعها من اللعب بقواعد التوازنات السياسية في المنطقة، وبناءاً على ما ذكر، فتركيا والمملكة العربية السعودية تودّعان اليوم خلافاتهما وإعادتها إلى طبيعتها، ولا حديث بعد اليوم عن ملف "خاشقجي"، وربما بمثابة تحدّي واضح لطهران، ولا شك هي الخاسر الأكبر من هذه المعركة، وفي حال تمكن الثلاثي (أنقرة، تل أبيب، الرياض) من بناء جبهة قوية (تحالف الضرورة) واستخدام البرغماتية في رسم خارطة جديدة للعلاقات فيما بينها، عندها يمكن وضع حدّ للتغلغل الإيراني العسكري في المنطقة وقصقصة أجنحة "الحرس الثوري" في سوريا والعراق واليمن ولبنان، لإن أساس العلاقات السياسية، هي المصالح وليست المبادئ، وفي الختام يقول الرئيس الاميركي الأسبق جون كيندي (سامح أعداءك، لكن لاتنسى أبداً اسماءهم).

 

 

 

Top