• Thursday, 02 May 2024
logo

ديمقراطية المكعبات

ديمقراطية المكعبات

طارق كاريزي

 

من المجحف الطعن بعمل المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق بعد خبرة لأربع دورات انتخابية سابقة، انجزت مفوضية الانتخابات العراقية اجراءات الانتخابات النيابية المبكرة والاخيرة بحيادية واستقلالية، مقرونة بحرفية عالية لم تترك للطعن المبني على اسس للتزوير مجالا بالمرّة. آلية عمل المراكز والمحطات الانتخابية وقوائم الناخبين والاجراءات التسهيلية من اجل ادلاء الناخبين بأصواتهم كانت في منتهى الايجابية بالشكل الذي يفترض الاعتراف بها صراحة لصالح المفوضية، والاكثر حسما هو الالتزام التام لموظفي ومندوبي المفوضية بالتعليمات الصارمة لمجلس المفوضين ودقة الاجهزة المستخدمة في العملية، كل هذه الامور ضمنت اجراء انتخابات نزيهة من الحق والضمير القول انها خلت من اية شائبة او شك.

الديمقراطية العراقية التي تمتد بجذورها الى العهد الملكي (1921- 1958) تم نسفها خلال فترة الحكم الفردي (1968- 2003)، لذلك بدأ التأسيس للحكم الديمقراطي كرّة اخرى بعد ازاحة النظام الدكتاتوري عام 2003 بدعم حاسم من المنظومة الدولية وذلك على هدي الدستور الذي اقرّ عام 2005، وهي ديمقراطية فتية يمكن ان نطلق على النظام السياسي الذي يجري تأسيسه وفق هذا الدستور بالجمهورية الثانية والعهد الديمقراطي الثاني في العراق.

لا جدل في ان العراقيين غير متمرّسين من حيث تطبيق الديمقراطية، فالفرصة لم تكن آتية، مع هذا فقد اثبتوا لأكثر من مرّة انهم شعب حيوي يستجيب للمستجدات وهو على استعداد للتطور والنموّ والتأقلم مع اجواء واطر وأسس المجتمع المدني المعاصر. لذلك فقد استجاب الشعب بشكل عريض للطروحات المبنية على اساس الحرية والديمقراطية المقرونة بعهد يمكن ان يسوده السلم والأمن والاستقرار والرفاهية والانفتاح والتقدم. النخب السياسية والقوى الداعمة لها لم تحقق النجاح المنشود في قيادة منظومة الدولة العراقية التي انهارت بسبب الحصار الاممي والسياسات القاتلة للنظام السابق، وبذلك تراجع دعم الجماهير لها، والانتخابات الاخيرة قدمت مؤشرات حاسمة في هذا المجال.

فوّض الناخبون العراقيون في الانتخابات الاخيرة بدرجة اساسية عددا من القوى السياسية (الشيعية والسنيّة والكوردية) قيادة الركب السياسي للبلد من موقع الثقة بهذه القوى. هذا التفويض تقبلته القوى الكوردية والسنيّة بطيب خاطر لجهة ايمانهم بالعميلة الديمقراطية ومخرجاتها المنتظرة وايضا ثقتهم بعمل المفوضية الذي شهد له المراقبون الاجانب والدوليون. القوى الشيعية التي أمسكت بتلابيب السلطة خلال الدورات الانتخابية السابقة وما تمخض عنها من حكومات، بادرت الى التشكيك في عمل المفوضية وتحركت وهي تحس بمرارة الخسارة ضمن (الاطار التنسيقي) في مسعى منها لتبرير تراجع شعبيتها في الانتخابات.

الساحة الشيعية على المستوى السياسي تؤشر لحالة من الاستقطاب الثنائي، فمن جهة هناك الجبهة الولائية التي تتحدد داخل اطر تنظيمات سياسية وتشكيلات عسكرية  (ضمن الحشد) ذات ميول شديدة للجارة ايران، هذه الجبهة تلقت لكمة انتخابية قاضية دفعت مكوناتها من النواة الهامش، وبالمقابل هناك الجبهة الوطنية (والتسمية يطلقها كاتب المقال) التي يتزعمها سماحة مقتدى الصدر التي ترفع لواء الانتماء الوطني فوق الميول الاخرى وهي تعلن الاستجابة لتوجهات المرجعية الدينية في النجف الاشرف. الناخبون في الساحة الشيعية دعموا وبكل قوّة الكتلة الصدرية وتوجهاتها الوطنية واستعدادها لاكتساح الفساد والضالعين في مفاصله.

من الحق الوقوف بكل احترام لموقف الناخب العراقي، المقاطع والمشارك في الانتخابات سويّة، فقد غيّر اطار اللعبة الديمقراطية بالشكل الذي يدفع الامور باتجاه ايجابي على اقل تقدير. ومن المفيد ان يدرك الخاسرون للجولة الانتخابية هذه بان الديمقراطية ليست لعبة نرد تنحصر مجرياتها ونتائجها بين نقوش مكعبين اوجههما محصورة بين البياض والشيش، بل ان الديمقراطية افق مفتوح يمكن ان تتحول اكبر القوى الى اكبر الخاسرين فيه. فالقرار للشعب وللناخبين الذي لا يخشون لومة لائم ولا يهابون الادلاء بأصواتهم حيثما تملي عليهم ضمائرهم وعقولهم، وايضا وفق المنطق والميزان العدل في تقويم الامور.

الديمقراطية ليست لعبة مكعبات محصورة النتائج، بل (نكرر القول) انه افق مفتوح وسجل تقاضي بين المواطن والسلطة، يحاسب المواطن او يجازي رموز السلطة وفق الذي يرتئيه من مصلحة البلد ومواطنيه. وافضل طريق يقصده الخاسرون في الانتخابات النيابية الاخيرة قبول نتائجها التي لا تقبل التشكيك بطيب خاطر. وبعكسه فقد عرضت صناديق الاقتراع نبض الشارع ولا جدوى في التشكيك في مصداقيتها.

 

 

 

باسنيوز

Top