من فيض ذاكرة أدوارد سعيد...
تصدّر الكتابان وما بينهما كتاب "عن الأسلوب المتأخر- موسيقى وأدب عكس التيار" ترجمة فواز طرابلسي وقد صدر في العام 2003 ودوّن فيه السنوات الأولى من سيرته حتى بلغ الثامنة عشر من عمره، وكتاب "خارج المكان " الذي صدر في العام 1999 وتمّ تعريبه في العام 2000 ، قائمة الأعمال الإبداعية لإدوار سعيد الذي أصبح الشخصية العربية العالمية الأكثر إثارة للجدل والنقاش من جانب تيارات فكرية وثقافية مختلفة وأوساط أكاديمية وسياسية متعدّدة ، خصوصاً توزّع أعماله بين " النقد الأدبي" و"الهويّة الثقافية" و" القضية الفلسطينية" و" الموسيقى" وغيرها.
وتعكس شخصية أدوارد سعيد مفارقات عديدة ، فبقدر ما هو فرد فإنه مثّل مجموعاً لأنه عبّر عن ضمير، وإذا كان فقد ولد في القدس العام 1935، فإنه ترعرع في القاهرة ودرس في الإعدادية البريطانية وقضى أوقاتاً في لبنان وغادر إلى الولايات المتحدة ، حين بلغ السادسة عشر من عمره، التي حمل جواز سفرها لاحقاً، ليدرس في جامعة برينستون وهارفرد ومن ثم يشرع بالتدريس في العام 1963 في واحدة من أعرق الجامعات العالمية وهي جامعة كولومبيا في نيويورك وظل فيها حتى وافاه الأجل.
وكانت صدمة هزيمة 5 يونيو (حزيران) العام 1967 قد تركت جرحاً عميقاً في حياته وهو ما عبّر عنه حين استحضر انتماءه وهويته الفلسطينية العربية، حيث عاد بالذاكرة إلى عمليات الإجلاء والترانسفير الفلسطينية التي مارستها "إسرائيل" منذ قيامها وما تعرّض له الشعب العربي الفلسطيني من استلاب دولي وتواطؤات ألحقت الضرر البالغ بقضيته العادلة، وكان قد انصرف في تلك الفترة لكتابة مؤلفه المثير " الاستشراق" الذي لاقى نجاحاً منقطع النظير وتمت ترجمته إلى ستة وثلاثين لغة، وهو قراءة للخطاب الغربي عن "الشرق".
تعلّم سعيد من تناقضاته والواقع الذي عاش فيه كيف يفكّر إزاء المشروع الحضاري الفلسطيني والعربي المناهض للامبريالية والصهيونية وأدرك دور المثقف والأكاديمي، ولاسيّما الذي يعيش في الغرب، فهو فلسطيني يعيش في الشتات وفي مدينة "نيويورك" الكوزموبوليتية المتعددة الأعراق ، وهو في الوقت نفسه متعدد الأصوات وينطلق من تعددية داخلية وتنوّع ذاتي، مثلما هو جزء من الهويّات الإنسانية المعاصرة المنفتحة وغير المنغلقة.
وإذا كانت جروح المنفى كثيرة ومعتّقة فإن إيجابياته غير قليلة، وهذا يعتمد على قدرة المنفي في التفاعل مع محيطه والتأثير فيه بما يساعد على الانفتاح والتلاقح ما بين الثقافات والحضارات، حيث تتجاور الخصوصيات في إطار من التنوّع والتواصل والتداخل، وهو ما حاول إدوارد سعيد توظيفه إيجابياً بعد التوقف عنده وفحصه واستخدام شحناته الحيوية لصالحه، وقد عكسه في كتبه ومحاضراته وأنشطته المختلفة، فالمنفي والمهاجر أو المهجّر يجد نفسه في " اللّامكان" لدرجة يشعر أحياناً أنه "عكس التيار" ويعيش التهميش أحياناً، لكنه يعتبره امتيازاً وليس فداحة ، لاسيّما حين يستمر في بحثه عن الحقيقة والعدالة.
يُعتبر إدوارد سعيد الأخطر بالنسبة للحركة الصهيونية فيما كتبه وفيما استطاع أن يلفت النظر إليه في أحد معاقلها الأساسية ونعني بها الولايات المتحدة، حيث اللوبي الصهيوني المتنفّذ، الذي عرف دوره منذ صدور كتابه الأول " الاستشراق" الذي ما زال راهنياً حتى الآن رغم مضي ما يزيد عن أربعة عقود من الزمان، خصوصاً وجاءت متناغمة مع القيم الإنسانية في الوقوف ضد الحرب والتطهير العرقي والعنصرية والهجرة القسرية وتمزيق البلدان، وبسبب مواقفه هذه تعرّض للتهديد، بل إن مكتبه أحرق، فضلاً عن اتهاماته بأنه " عدو للسامية".
ولعلّ من يقرأ كتابه " خارج المكان" سيدرك أنه أمام إحدى أهم شهادات العصر، والأمر لا يتعلق بأهميته أو بأسلوبه المشوّق والممتع أو من السرد الدرامي، أو حتى بسبب مضمونه، إنما لما سلط فيه الضوء على خمول الضمير الإنساني في لحظة مفارقة من لحظات التاريخ الأشد مأساوية، خصوصاً وأنه استطاع أن يخاطب العقل (الآخر) ويتحدّث عن تجربة اقتلاع شعب من أرضه ورميه خارج المكان في محاولة لمحو ذاكرته وهوّيته ومصادرة تاريخه ومستقبله.
و" خارج المكان" يمثّل جسراّ بين ماضٍ لا يمكن أن يُنسى وبين حاضر لا يمكن أن يدوم، أما داخله فهو تمسك بالهوّية والرمز، وبين الخارج والداخل صور وانعكاسات وأحداث ووقائع ومؤامرات وآمال وحروب، ولكن الذاكرة تظلّ قائمة وكأنها تعيش واقعاً هو استمرار بحثها عن هوّية ومكان وأرض ووطن مسلوب. وتتوحّد الهوّية أحياناً مع رمزية المكان في إطار هارموني متناسق، يحاول المغتصب اغتياله وهو اغتيال داخل المكان، مثلما يمثّل الترحيل والإجلاء الاغتيال خارج المكان، بالتجريف والإبعاد وقطع الجذور الأولى ومصادرة الحقوق بالاستيطان والإلغاء.