الإسلام السياسي في تركيا
1) حقبة النشأة (1300-1453).
2) حقبة القوة(1453-1579).
3) حقبة الضعف(1579-1683).
4) حقبة الانهيار والسقوط(1683-1920).
من الصعب جدا القضاء على إرث ديني عمره ستمائة سنة، يمكن لهذا الإرث أن يختفي لكنه لن يزول ولن يفنى، ولهذا نجد في جميع فترات الدولة التركية ظهور أحزاب إسلامية بأسماء مختلفة حتى تخفي حقيقة إسلاميتها، بعضها متطرفة والبعض الآخر معتدلة، وهي كلها لها حنين الى الماضي العريق أي الخلافة العثمانية، لن أتحدث عن تاريخ الدولة العثمانية فهذا مجال رحب، بل سأركز على مراحل تطور الإسلام السياسي بعد سقوط الخلافة، ولكن كان من الضروري الحديث عن هذه البداية لكي يفهم القاريء العلاقة بين الماضي والحاضر، ويربط بينهما لفهم هذا التاريخ الطويل المترابط.
عندما انتصر أتاتورك على إبقاء الأوربيين خارج تركيا في حرب الإستقلال بين (1919-1922)، في سنة 1922 قدم أتاتورك مشروعا للبرلمان بإلغاء السلطة، وفي سنة 1924 ألغى الخلافة، وحول وزارة الأوقاف الى دائرة باسم إدارة الشؤون الدينية مرتبطة برئاسة الوزراء، ثم منع الحجاب وفرض القبعة بدل الطربوش ومنع الأذان باللغة العربية، وفي سنة 1928 ألغى المادة الدستورية التي تقول(الدين في الدولة التركية هو الإسلام) وقد حول تركيا العثمانية الإسلامية الى دولة علمانية وفق القانون السويسري، ولكي يقطع كل ما له صلة بالخلافة العثمانية نقل العاصمة من أسطنبول الى أنقرة سنة 1923، وصل الأمر الى درجة أن أصدر آخر شيوخ الإسلام- وهو مصطلح يطلق على المفتي الأكبر للخلافة كمصطلح الصدر الأعظم لرئيس الوزراء- محمد نوري أفندي المدني - في عهد آخر سلاطين الدولة العثمانية السلطان محمد وحيد الدين السادس في اسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية - فتوى تصف أتاتورك وأتباعه بالخونة والخارجين عن السلطة الشرعية، لكن في المقابل أصدر مفتي أنقرة فتوى بتأييد (152) مفتيا ببطلان فتوى شيخ الإسلام، ولهذا انتصر أتاتورك على خصومه، ليفر السلطان الى ايطاليا وليموت في مدينة سان ريمو سنة 1926، وقد حاول شيوخ الإسلام في الخلافة العثمانية الصمود أمام الكماليين، لكنهم لم يصمدوا أمام شيوخ أنقرة، ومن هؤلاء شيخ الإسلام مصطفى صبري التوقادي الذي ترك تركيا ليستقر في مصر حتى وفاته سنة 1954، وقد ألف كتابا حول ما وصل إليه الأمر بعد سقوط الخلافة بعنوان(النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة)، وفي كردستان تركيا ظهرت ثورة الشيخ سعيد بيران سنة 1925 ضد الكمالية، لكنها أخمدت وأعدم الشيخ سعيد بيران في السنة نفسها، أما الشيخ سعيد النورسي فلم يكن راضيا بالمواجهة ضد قوة أتاتورك العسكرية، حفاظا على أرواح الناس، واختار طريق السلم والتعليم والتربية والتصوف.
بعد أن سيطر أتاتورك على مفاصل الدولة كاملة سمح بالتعددية السياسية، ففي سنة 1924 ظهر الحزب التقدمي الجمهوري، لكنه تم حله لتبقى الساحة له ولحزبه حزب الشعب الجمهوري حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، توفي أتاتورك سنة 1938، وبعد خمسة أعوام على وفاته منحه البرلمان التركي لقب أتاتورك أي أبو الأتراك، خلفه عصمت أينونو، وفي سنة 1945 سمح عصمت أينونو بتشكيل الأحزاب، فأسس جلال بايار الحزب الديمقراطي سنة1946، وفي سنة 1950 فاز الحزب الديمقراطي فوزا ساحقا، فأصبح جلال بايار رئيسا للجمهورية، وعدنان مندريس رئيسا للوزراء، وتم تشكيل الحكومة، في عهد مندريس سمحت الحكومة لأول مرة بالأذان باللغة العربية، وفتحوا المعاهد الدينية، وأصبح هناك انفتاح واهتمام بالعودة الى الحياة الدينية التي كانت محظورة منذ مجيء أتاتورك، ونتيجة لهذا الانفتاح وأسباب أخرى لا مجال لذكرها ههنا، فاز حزبه مرة أخرى فوزا كاسحا في انتخابات سنة 1954، ومني حزب الشعب الجمهوري بخسارة مؤلمة، فشكل الحزب الديمقراطي الحكومة وحده، وكان العلمانيون يعتقدون أن الشيخ سعيد النورسي الكوردي ورسائله المنتشرة (رسائل النور) وراء فوز مندريس، لقد ضاقوا ذرعا بقرارت حكومة مندريس، لأنها كانت انقلابا على مباديء الدولة العلمانية التي أسسها أتاتورك، في سنة 1960 قام الجيش بانقلاب عسكري، فحلوا البرلمان والحكومة، وأعدموا رئيس الوزراء عدنان مندريس مع وزير الشؤون الخارجية فطين رشدي زورلو ووزير المالية حسن بولاتكان سنة 1961، لم يكن إعدامهم ولا وفاة الشيخ سعيد النورسي في السنة نفسها - ودفنه في مكان مجهول لا أحد يعرف قبره - نهاية لدورهم، فقد بقيت رسائل النور للشيخ النورسي الممنوعة منتشرة في جميع أنحاء تركيا بعد وفاته، بعد نجاح الانقلاب صيغ دستور جديد صادق عليه الشعب في السنة نفسها، ثم جرت انتخابات في السنة نفسها، فأصبح الجنرال جمال غورسيل الذي قام بالانقلاب رئيسا للجمهورية، وعصمت أنينو رئيسا للوزارة الائتلافية مع حزب العدالة لسليمان ديمريل – الذي كان امتداد للحزب الديمقراطي-، لكن وزارته فشلت، فشكلها هذه المرة مع حزب الفلاحين الجمهوري، وفي انتخابات سنة 1969 فاز حزب العدالة لسليمان ديمريل فوزا ساحقا ليشكل الحكومة بمفرده، في عهده دخلت تركيا في فوضى كبيرة وانفلات أمني، مما دفع الجيش الى التدخل، فسلموا سليمان ديمريل مذكرة بتشكيل حكومة قوية للحفاظ على سلامة تركيا وأمنها، لكن سليمان أعلن استقالته، فاستلم الجيش مقاليد السلطة سنة 1971، وهو ما يعرف بانقلاب المذكرة، في سنة 1973 جرت انتخابات لتسليم السلطة للمدنيين، كان نجم الدين أربكان أبو الإسلام السياسي في تركيا طلب من حزب العدالة أن يرشح نفسه في صفوفه، لكن تم رفض طلبه، فرشح نفسه عن مدينته قونيا ليكون نائبا مستقلا، ففي سنة 1970 أسس نجم الدين أربكان حزب النظام الوطني لكن تم حله من قبل المحكمة الدستورية سنة 1971، لكونه خالف أسس العلمانية، في سنة 1972 أسس حزب السلامة الوطني، وتزعمه سليمان ايمري، وبقي أربكان يعمل في الخفاء، ففي انتخابات 1973 فاز حزب نجم الدين أربكان ب(48) مقعدا، وشكل بولنت أجاويد رئيس حزب الشعب مع حزب السلامة الوطني لأربكان حكومة ائتلافية، لكنها انهارت، فقدم أجاويد استقالته، وقام سليمان ديمريل رئيس حزب العدالة بتشكيل الحكومة مع حزب أربكان حتى انتخابات 1977، حيث فاز حزب الشعب رئاسة أجاويد فقام بتكشيل الحكومة سنة 1978 مع الأحزاب الأخرى، لكنها كانت حكومة ضعيفة هشة استقال عشرة وزراء في حكومته، وفي سنة 1980 قام الجيش بانقلاب عسكري بقيادة كنعان إيفرين، وأزاحوا أجاويد عن رئاسة حزب الشعب الجمهوري، أصبح كنعان أيفين في سنة 1982 رئيسا للجمهورية، وبقي في منصبه حتى سنة 1989، ثم قام الإنقلابيون بتشكيل الحكومة برئاسة الأدميرال المتقاعد بولند أولصو، واختير توركت أوزال نائبا واستمرت حتى سنة 1983 لإجراء الانتخابات، أسس توركت أوزال حزب الوطن للمشاركة في الانتخابات، وقد انضم كوادر من حزب السلامة الوطني لأربكان لصفوفه، لأنه كان في السجن، حيث فاز توركت أوزال فوزا ساحقا، وأصبح رئيسا للوزراء، وكان أول رئيس يحج بيت الله الحرام، ويؤدي صلاة الجمعة، حاول أوزال الجمع بين الكمالية والإسلام، ثم دعا أوزال الى انتخابات مبكرة، فأجريت سنة 1987 ففاز مرة أخرى ليصبح رئيسا للجمهورية سنة 1989 واختار يلديريم أق بولوط رئيسا للحزب ورئيسا للوزراء، وبقي أوزال رئيسا للجمهورية وفاته سنة 1993، انشق حزب الوطن الى شقين أحدهما الطريق القويم ذي توجه إسلامي يقوده سليمان ديميرل، والثاني الوطن الأم ليبرالي يتزعمه مسعود يلماز، وفي سنة 1991 خرج نجم الدين أربكان من السجن، ليؤسس حزب الرفاه، وقد انضم اليه كوادر من حزب الوطن، في انتخابات سنة 1991 فاز حزب الطريق القويم بالمرتبة الأولى ليشكل حكومة ائتلافية برئاسة سليمان ديميرل الى غاية سنة 1993، حيث تم انتخابه رئيسا بعد وفاة توركت أوزال، ليترك زعامة الحزب لتانسو تشلير، وفي انتخابات 1995 فاز حزب الرفاه بزعامة أربكان، لكن مسعود يلماز رفض المشاركة معه في حكومة ائتلافية، فنسق موقفه مع تانسو تشلير لإبعاد أربكان، لكن التحالف بينهما انهار، فتم تكليف أربكان بتشكيل الحكومة سنة 1996، لكن أربكان لم يتعامل مع البيئة التركية بحكمة، ووقف ضد مباديء الدولة العلمانية حتى قررت المحكمة الدستورية حل حزبه، فقدم استقالته، ليكلف رئيس الجمهورية سليمان ديميرل رئيس حزب الوطن الأم مسعود يلماز بتشكيل الحكومة، فيما يخص أربكان فقد أسس حزب الفضيلة سنة 1997 ثم تم حله مرة أخرى سنة 2001 من قبل المحكمة الدستورية بسبب توجهاته الإسلامية المتشددة والمخالفة لأسس العلمانية الكمالية، وفي سنة 2003 شكل حزب السعادة، وقاده رجائي كوتان، ويبدو أن عبد الله غل وأردوغان توصلوا الى قناعة أن منهج أربكان لا يصلح لقيادة تركيا العلمانية، لأنه متى أسس حزبا تم حله وحظره، فقام أردوغان مع صديقه عبد الله غل بتأسيس حزب العدالة والتنمية سنة 2002، وقد انضم الى حزب العدالة والتنمية(51) من حزب الفضيلة المنحل، و(48) من حزب السعادة الذي هو امتداد لحزب الفضيلة لأربكان، وقد عد أربكان هذه الخطوة من غل وأردوغان تمردا على المعلم الرئيس أبو الإسلام السياسي في تركيا، مع أن عبد الله غل عندما كان رئيسا للجمهورية أصدر عفوا رئاسيا فأطلق سراحه سنة 2008 لتدهور حالته الصحية، وفي سنة 2001 اختير رجب طيب أردوغان أمينا عاما للحزب، وفي انتخابات 2002 فاز حزب العدالة والتنمية، بينما حزب السعادة لم يدخل البرلمان لأنه لم يتخط نسبة 10%، فشكلوا الحكومة برئاسة عبد الله غل. كان أردوغان عضوا في حزب السلامة الوطني بزعامة أربكان سنة 1972، ثم في حزب الرفاه، فالفضيلة، حتى أصبح رئيسا لفرع الرفاه في اسطنبول سنة 1985، ثم أصبح عمدة أسطنبول (1994 -1998)، ثم رئيسا للوزراء لثلاث مرات وهي سنة (2003-2007) ثم سنة (2007-2011) ,وأخيرا سنة(2011-2014) ثم انتخب سنة 2014 رئيسا للجمهورية، واستطاع الحزب السيطرة على الانقلاب الفاشل الذي حدث سنة 2016، والذي كان أعظم تحد يواجهه الحزب في تاريخه، في سنة 2017 قدم حزب العدالة والتنمية مشروعا للبرلمان لتغيير النظام البرلماني الى نظام رئاسي بحيث يكون اختيار الرئيس مباشرة من قبل الشعب لا البرلمان، ثم تم إقراره في استفتاء شعبي، وقد حاول كل من توركت أوزال وسليمان ديميرل وأربكان تقديم مشروع كهذا، لكن الظروف لم تكن مواتية آنذلك، وهذا النظام سيعطي الشرعية أكثر للرئيس لكي يقوم بإصلاحيات واسعة، وهنا تم إلغاء منصب رئاسة الوزراء، وهذا ما اعترض عليه المعارضون وكذلك الرئيس السابق عبد الله غل، وفي انتخابات 2018 فاز أردوغان برئاسة الجمهورية بعد انسحاب عبد الله غل من المنافسة، وقد سلك حزب العدالة والتنمية مسلك توركت أوزال بالجمع بين العلمانية والإسلام، ولأنه أخذ دروسا كثيرة وتجارب مصقولة في تاريخ تركيا، وما حصل للإسلاميين وخاصة رئيس الحزب الديمقراطي عدنان مندريس وما جرى للأحزاب التي شكلها أبو الإسلام السياسي نجم الدين أربكان من حظر وحل، فيمكن أن نسمي نموذج حزب العدالة والتنمية بالعلمانية الإسلامية، ويمر الحزب بحالات انشقاقية خفية ويواجه تحديات كبيرة وصعوبات سياسية واقتصادية واجتماعية ودبلوماسية، قد يؤثر ذلك كثيرا في مستقبل الحزب وكذلك في مواقعهم في الدولة، وقد تأكد أن عبد الله غل سيؤسس حزبا سياسيا جديدا يرأسه علي بابا جان، ليضم الحزب أعضاء ووزراء ونوابا في حزب العدالة والتنمية كانوا أصدقاء لأردوغان، وسيحاول الحزب تغيير النظام الرئاسي الى نظام برلماني في الانتخابات القادمة سنة 2023.
إذا كان نجم الدين أربكان أبا الإسلام السياسي فإن فتح الله كولن هو أبو الإسلام الاجتماعي، كان كولن متأثرا بالتصوف وخاصة رسائل سعيد النورسي المعروفة ب(كليات رسائل النور)، أسس حركته الإسلامية الاجتماعية سنة 1970، وكان يركز على الإصلاح الاجتماعي والتعايش السلمي وحوار الأديان، وقد سببت له محاضرة صوتية مشكلة مع السلطات، حيث قال فيها:" إنه سيتحرك ببطء من أجل تغيير طبيعة النظام التركي من نظام علماني الى نظام إسلامي" ففي سنة 1999 فتح القضاء التركي تحقيقا معه بخصوص تطلعاته السياسية من خلال محاضراته، لكن رئيس الوزراء آنذاك بولنت أجاويد تدخل فعالج المشكلة بهدوء، وذلك لتأثيره البالغ في الداخل والخارج، وانجازاته الكبيرة في العالم، وكذلك لتعصبه القومي التركي، فالرجل مع علو مكانته الدينية لم يتخل عن تعصبه القومي التركي، ثم في عهد الرئيس التركي سليمان ديميرل أرسل له الرئيس تحذيرا قاسيا له جاء فيه:" إن رجل الدين لا ينبغي أن تكون له أطماع سياسية"، وبقيت مشاكله مستمرة مع السلطات، ففي سنة 2000 اتهم بتغيير النظام العلماني، وبقي في المحاكم حتى تمت تبرئته سنة 2006، في سنة 1999 سافر الى امركيا للعلاج كما ادعى، وبعد جهد جهيد حصل على الإقامة الدائمة سنة 2008 في ولاية بنسلفانيا، كان فتح الله كولن يدعم أردوغان سنة 2003، وفي سنة 2013 سحب تأييده له بسبب خلافات بينهما، وفي انقلاب سنة 2016 اتهم أردوغان فتح الله كولن بأنه وراء ذلك، لكن كولن ينفي وقوفه وراء ذلك، لذلك يطالب أردوغان الولايات المتحدة بتسليمه لهم، لكن أمريكا ترفض ذلك.