• Monday, 25 November 2024
logo

ميثولوجيا الخلافة

ميثولوجيا الخلافة
في سنة 1922 صدرت رسالة باللغة التركية في اسطنبول بعنوان( الخلافة وسلطان الأمة) وقد ترجمها الى اللغة العربية عبد الغني سني بك سنة 1924، ويبدو أن المترجم نفسه له كتاب بعنوان(الفصل بين السلطنة والخلافة) وكان الهدف من نشر هذه الرسالة التمهيد لأمرين يحققهما مصطفى كمال أتاتورك: أحدهما عاجل والآخر آجل، فأما العاجل فهو تحويل الخلافة الى سلطنة حصل ذلك في السنة نفسها التي تم نشر الرسالة، وقد رأينا ذلك من خلال عنوان الرسالة التي أشرنا إليها، والهدف الثاني الاستراتيجي هو إلغاء الخلافة، وقد تحقق ذلك بعد سنتين، حيث تم إلغاء الخلافة سنة 1924، وإعلان تركيا دولة علمانية على أسس القانون السويسري، وقد نظر أتاتورك الى الخلافة نظرة تحقيرية في كونها سبب تخلف تركيا، وأراد أن يبعدها عن كل ما له صلة بالدين، ولهذا بدأ بمحاربة كل ما له صلة بالدين، حيث وصف الدين بالجثة المتعفنة، وكان يعتقد في قرارة نفسه أن هذه التجربة الفاشلة أي الخلافة الإسلامية العثمانية لا علاقة لها بالطورانيين الأتراك فهي تجربة منقولة من العرب، لأن العثمانيين نقلوها من مصر بعد أن قضوا على دولة المماليك في مصر والشام عام 1516، فأصبحت مصر جزءا من الخلافة العثمانية بعد سنة أي سنة 1517، وقد كان ذلك مخالفا لإجماع علماء المسلمين في حينه، حيث لا يمكن أن تكون الخلافة بيد الأتراك بل هي خاصة بعرب قريش لقول النبي(ص):" الأئمة من قريش"، لكنهم اغتصبوها وحققوا بها مطامعهم السياسية والتاريخية، ولهذا اعترض العالم الهندي الشاه ولي الله الدهلوي على إعلان العثمانيين الخلافة وتعيين الخلفية، وأول استعمال لهذا المصطلح (الخلافة) من قبل العثمانيين كان سنة 1774، ولكن في نهاية المطاف سكت العالِم الهندي لما رأى ضعف السلطة المغولية وقوة الهندوس وقسوة بريطانيا في الهند، فالعثمانيون على طول حكمهم الطويل لقرون عديدة لم يروا سلاما إلا في ثماني سنوات فقط بين عامي(1450-1700)، فهي خلافة الحروب والاحتلال للعالم، ناهيك عن الاستبداد الديني الذي عانى منه الشعوب المسلمة، ولهذا بعد أن استقر عبد الرحمن الكواكبي في مصر سنة 1899 ألف كتابه الشهير (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) لكي ينتقد سياسة العثمانيين المستبدة، وهي سبب تقهقر العالم الإسلامي، وما أكثر معاناة الكورد في هذه الخلافة، وخاصة معاناة الإمارات الكوردية، فلقد قام السلطان محمود الثاني سنة 1878 بتنحية أمراء الكورد وتعيين أمراء أتراك مكانهم، ولعل أفضل ما يعبر عن حقيقة معاناة الكورد إعدام الشيخ عبد السلام البارزاني سنة 1914 الذي طالب بحقوق شعبه المشروعة كبقية شعوب العالم.
بعد أن تم إلغاء الخلافة العثمانية وبعد سنة أي سنة 1925 نشر الشيخ الأزهري علي عبد الرازق رسالته المثيرة للجدل بعنوان( الإسلام وأصول الحكم) كان الهدف من نشرها الوقوف ضد إعادة الخلافة الى مصر، لأن بعض علماء المسلمين في مصر آنذاك كان يعتقد أن مصر أولى بالخلافة من تركيا، فهي خلافة عربية مصرية ويجب إعادتها فورا بعد إلغاءها من قبل أتاتورك، وكانت رسالة الشيخ علي عبد الرازق رسالة فكرية بحتة حيث كان يعتقد أن الخلافة ليست من أركان الدين، بل هي مسألة سياسية إدارية، فلا بد من تحرير الدين من هذ المصطلحات السياسية التي تحقق أهداف البعض، وهي تجربة فاشلة جلبت التخلف للعالم الإسلامي، لا يمكن أن ترتقي الى المستوي العالمي لحل مشاكل العالم الإسلامي، تقول كارولين فوريست وهي تتحدث عن غاية هؤلاء المعارضين للخلافة ومنهم الشيخ علي عبد الرازق:" وهم يتمنون قبل كل شي نظاما لا يكون فيه الإسلام ألعوبة في يد الساسة، بل يحتفظ بالجانب الوحيد الذي لا يشوهه، الجانب الروحي". وهنا واجه الشيخ الأزهري مواجهة عنيفة من أكثر شيوخ الأزهر، حتى تم فصله ومصادرة رسالته المذكورة، وقد تصور الملك فؤاد آنذاك أن هذه الرسالة ألفها الشيخ ضده لمنعه من أن يكون خليفة، فقد كان يتلهف الملك لنقل الخلافة من تركيا الى مصر حيث الموطن الأصلي لها، ليكون خليفة للمسلمين، وخاصة بعد أن فشل الشريف حسين من نيلها بعد أن تخلت بريطانيا عنه لكون الخلافة ألغيت بالكامل في تركيا، ومن الذين ساندوا دعوة الشيخ علي عبد الرازق في رفض نقل الخلافة لطفي السيد وطه حسين ومحمد حسن هيكل وكثير من المفكرين، ولكن في المقابل هناك من أيد إعادة الخلافة مثل مصطفى صبري ومحمد رشيد رضا وحسن البنا، إلا أن عبد الرزاق السنهوري عندما أصدر أطروحته حول الخلافة سنة 1927 أي قبل نشوء الإخوان بسنة، اقترح تطويرها الى منظمة تشبه المؤتمر الإسلامي، ولقد سبقهم جمال الدين الأفغاني الذي كان يدعو الى الجامعة الإسلامية، وبعد أطروحة السنهوري بسنة، أي سنة 1928 تأسست جماعة الإخوان المسلمين بقيادة حسن البنا، كان هدف هذه الجماعة الأساس إعادة الخلافة الإسلامية، ولهذا نجد في أبجديات هذه الجماعة التركيز على أمجاد الماضي، وأنه لا بد من إعادته، وكانت تنظر الى الخلافة العثمانية نظرة تبجيل وتعظيم، وما أكثر المؤلفات حول الخلافة وأهميتها، فقد طالبت هذه الجماعة الملك فاروق بإلغاء الأحزاب السياسية في مصر، لأن التعددية تفرق الأمة الإسلامية، ووصل الأمر الى درجة نشر هذه الجماعة صورة للملك فاروق وفي يده سبحة إشارة الى انتصار الإخوان على أحزاب الشيطان وفق منظومتهم الفكرية، ثم سار على دربه الباكستاني أبو الأعلى المودودي، ثم تبعه سيد قطب، وسلك المسلك نفسه الخميني مع كونه شيعيا، حيث أعلن الثورة سنة 1979، وتجد هذه الفكرة في كتابه الحكومة الإسلامية، لكنه استعمل ولاية الفقيه الشيعية بدل الخلافة السنية، يقول راشد الغنوشي:" إن أعمال الخميني وحسن البنا والمودودي هي شيء واحد في نهاية المطاف".
وليكن معلوما أن إعادة الخلافة أو إعلان الخلافة هي الغاية الأساسية لجيمع الإسلاميين، ولكن لكل حركة وجماعة طريقتها الخاصة الى تحقيق ذلك، والخلافة في حقيقتها هي عبارة عن دولة دينية، والدولة الدينية هي المبنية على الوحي المعصوم، بمعنى آخر الدولة الدينية هي التي تعتمد على نصوص الدين في كل صغيرة وكبيرة، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من قبل من ينزل عليه الوحي وهو الرسول(ص)، وحتى دولة الرسول(ص) لم تكن دينية بل كانت تعتمد على كثير من الاجتهادات البشرية، ثم هكذا الأمر فيما يخص دولة الخلفاء الراشدين فهي لم تكن دينية بل كانت دولة مدنية بالمصطلح المعاصر، وبالمصطلح القديم دولة عادلة شرعية، وهكذا فيما يخص بقية الدول التي تأسست بعدها كدولة الأمويين والعباسين والممالك والمغول والعثمانيين والموحدين، فالدعوة الى إعادة الخلافة الإسلامية دعوة الى القضاء على التعددية الدينية والمذهبية والفكرية، لأن من يدعو الى تأسيسها سيؤسسها على دين معين ومذهب معين وطائفة معينة، وهذا سيقضي على التعددية الدينية والمذهبية، ولهذا نجد دولة تركيا في عهد أردوغان مثلا لا يستطيع أن يسمي تجربته بالخلافة، مع أنه يتمنى أن يصبح خليفة المسلمين، وأحيانا يتصرف كذلك، بل سمى تجربته بالعلمانية الإسلامية جمعا بين الخلافة التي يؤمن بها والعلمانية التي لا يؤمن بها، ومع ذلك نجد الطائفة العلوية تعاني من التهميش والإقصاء في دوائر الدولة، ولهذا طالب العلويون سنة 2006 من البرلمان التركي تخصيص مكان للعبادة لهم، لكن طلبهم تم رفضه، مع كون طلبهم موافقا للمادة (10) من الدستور التركي، ونجد الشيء نفسه في تجربة إيران، فهي جمهورية إسلامية ولكن نجد الطائفة السنية تعيش في معاناة شديدة، ولهذا لن تجد في طهران أي مسجد أو جامع للسنة، بل أن الدستور الإيراني في الفصل الأول المادة (12) يمنع الكوردي والسني أن يصبح رئيسا للجمهورية، فلا بد أن يكون فارسيا وشيعيا مؤمنا بولاية الفقيه التي نظرها الخميني في كتبه، وهذا التعامل الطائفي كان موجودا حتى في أعماق تاريخ هاتين الدولتين، تقول كارين آرمستورنغ:" عدم التسامح الطائفي كان سمة سائدة في الامبراطورية العثمانية والصفوية". وهكذا بقية الدول التي تدعي الإسلام وتطبق الشريعة لا يمكن لها أن تصبح دولا ديمقراطية تعددية ومدنية، لأنها أسست على المذهبية الدينية، ومعلوم أن المذهب شيء والدين شيء آخر، وفيما يخص النصوص الواردة حول الخلافة فهي نصوص لا يمكن الاعتماد عليها لبناء نظرية فكرية سياسية كهذه، فهي أقرب الى نصوص تاريخية صيغت لمرحلة زمينة معينة لتحقيق غايات معينة.
وعندما سقط نظام صدام سنة 2003 امتلأ العراق بالجماعات التكفيرية، وأبرزها القاعدة بزعامة أسامة بن لادن، وقد اختارت القاعدة هذا البلد ليكون مركزا مهما لتثبيت دعائم دولتها، باسم تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، وتم تعيين أبو مصعب الزرقاوي قائدا للتنظيم سنة 2004، ثم آلت قيادة هذا التنظيم بعد مقتل الزرقاوي سنة 2006 الى أبي حمزة المهاجر، وكانت هناك مجاميع إرهابية كثيرة في العراق تجمعت باسم الدولة الإسلامية في العراق بقيادة أبو عمر البغدادي، ولكن الرجلين أي أبي حمزة المهاجر وأبي عمر البغدادي قتلا بقصف أمريكي سنة 2010، فاختارت القاعدة أبا بكر البغدادي زعيما للقاعدة، ثم اندلعت الثورة السورية سنة 2011، وبعد مضي سنة أي سنة 2012 ظهرت جبهة النصرة لأبي محمد الجولاني السوري، وبايعت القاعدة، وحاول أبو بكر البغدادي الجمع بين جماعته وجماعة الجولاني لكنه فشل، ولهذا أسس الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) سنة 2013، ثم بعد فترة أعلن في النهاية عن الخلافة الإسلامية، خوفا من أن يعلنها غيره وخاصة أبو محمد الجولاني، وذلك لكي تتم مبايعته، ويصبح خليفة المسلمين، وهي كانت خلافة دم وخراب وعبث وفساد وجهل ودمار، حتى سقطتت في النهاية، ستظل هذه الفكرة في أذهان كثير من الشباب لأن هناك علماء يفتون وأثرياء ينفقون ودول تساند، من السهل القضاء على الإرهابيين ولكن ليس من السهل القضاء على أفكارهم التي تنتشر بين الشباب.
نحن الآن نعيش في عهد التكنولوجيا والحداثة والعولمة والتطور المذهل لا بد أن نواكب هذا التطور، فليس من المنطقي أن نقاطع هذا التطور، فهو كالسيل الجارف الذي لا يمكن دفعه كما وصفه خير الدين التونسي، ولهذا تعامل مفكرو الإسلام بواقعية تامة مع مفهوم الدولة، لأن الغاية من تأسيس الدولة تحقيق العدل بين الناس وتحقيق مصالح الناس، ولهذا عندما تحدث الطهطاوي عن القانون الفرنسي الذي أسسه لويس الثامن عشر قال: وفيه أمور لا ينكر ذوو العقول أنها من باب العدل، وهكذا كان رأي محمد رشيد رضا وشيخه محمد عبده في كيفية التعامل مع التراث الغربي، فيمكن أن نستفيد من أي تراث إنساني إذا كان ذلك يحقق العدل، ولو لم يكن جزءا من تراثنا، فالدولة المدنية التي يساندها علماء الأزهر وكثير من المفكرين لا بد أن تكون البديل لتطوير بلادنا، والنجاة من الدول الطائفية التي جلبت لمجتمعتنا الكراهية والدمار والفساد، فالله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة، كما قال علماء الإسلام، يقول المفكر الإيراني ميرزا آغا خان الكرماني:" ما الغاية من البكاء على الحسين، إذا لم يكن هناك عدل حقيقي للفقراء"، ولقد تحدث الله تعالى عن هذه الحقيقة في كتابه الكريم عندما قال{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} أي أن الأرض سيرثها عبادي الصالحون ولم يقل عبادي المسلمون، فكل من حقق العدالة بين الناس فهو من عباده الصالحين، وهو أولى بأن يقود العالم، فالله يريد تحقيق العدالة في الأرض لعباده بغض الطرف عمن يحققها، فالكفر والعدل يدومان، والظلم والإسلام لن يدوما، هذه سنة الله في الأرض ولن تجد لسنة الله تحويلا ولا تبديلا، ولهذا قال ابن عقيل الحنبلي:" السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب الى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول ولا نزل به وحي".
Top