عندما يصبح التدين زائفا
ينبغي للمسلم أن يتقن فن التعامل مع جهتين في حياته، أولاها: فن التعامل مع الخالق، وثانيهما: فن التعامل مع الخلق، غالبية المسلمين لا يتقنون فن التعامل مع الخلق، ومن لم يحسن التعامل مع الخلق أساء التعامل مع الخالق، لأن الخالق فرض على عباده حسن التعامل مع الخلق، فالالتزام بجانب واحد دون الالتزام بالجانب الآخر خلل في فهم حقيقة الدين، ففلسفة الإسلام تؤكد على ضرورة حسن التعامل مع الجانبين، ويتصور البعض أن من أحسن التعامل مع ربه، فلا ضير لو أساء التعامل مع الخلق، وهذا ليس صحيحا، بل لا بد أن يكون التعامل مع الجانبين على درجة واحدة، مع الاختلاف قطعا بين التعاملين، فالأول تعامل تعبدي، والثاني تعامل سلوكي خلقي من مؤمن مع أخيه المؤمن على اختلاف المشارب والمذاهب والأديان، يقول علي بن أبي طالب:" الناس صنفان: أخ لك في الدين أو نظير لك في الخُلُق".
من المؤلم حقا أن تعاني مجتمعاتنا من هذه الظاهرة الخطيرة، ألا وهي التفرقة بين التعاملين، فقل من تجد وقد حقق الأمرين كليهما، أي جمع بين التدين الصحيح والخلق الحسن، ولقد كان النبي(ص) من أشد الناس تقى وخوفا ورهبة من ربه، وفي الوقت نفسه أفضل الناس خلقا وسلوكا وأدبا مع الناس، هذه هي حقيقة الإسلام، بينما مجتمعاتنا على العكس حيث تكتظ المساجد بالمصلين، وتزدحم الصفوف الأولى بالمتقين، وترتج المحاريب والمآذان بالقرّاء والمؤذنين، وتمتلأ القاعات بالملحنين والمحتفلين بالمناسبات الدينية، وتسيل الدماء سيلا بذبح القرابين، ناهيك عن الكعبة المليئة دوما بالحجاج والمعتمرين، فلو قلت لهم لم هذا كله؟ لكان جوابه، لله رب العالمين، وعندما يخرج من مسجده، أويعود من حجته أو عمرته، أو ينتهي من ذبيحته، نراه إنسانا آخر مختلفا تمام الاختلاف عن سابقه، فإذا هو شخص سيء الخلق، يشكو منه كل أحد يلتقي به، وما أكثر الأمثلة على ذلك، سأل رجل سفيان الثوري عن فضل الصف الأول، فقال:" أنظر كسرتك التي تأكلها، من أين تأكلها، وقم في الصف الأخير".
ولعل من أعظم الأمثلة على ما نحن بصدده، ظاهرة انتشار الكذب بين كثير من الناس، حتى وصل إلى درجة لا يمكن تصورها، والغريب أن هذه الظاهرة كانت موجودة في عهد العلماء السابقين، قال سعيد القطان سمعت أبي يقول:" ما رأيت الكذب في أحد أكثر منه فيمن ينتسب إلى الخير"، ويقول يحيى بن معين:" ما رأيت الكذب أنفق منه ببغداد". ولعل بعض الناس تطبع على هذه الأخلاقيات المذمومة، بحيث لا يستطيع التخلي عن ذلك، بل ربما يجد لذة في ذلك، قال الأصمعي: قلت لأعرابي: ما حملك على الكذب؟ قال: لو ذقت حلاوته ما نسيته".
يقول الشيخ عبد القادر الكيلاني:" كن مع الحق بلا خلق، ومع الخلق بلا نفس"، جمع الشيخ الكيلاني في آن واحد بين حسن الخلق مع الحق، وهو طاعته، أي فن التعامل الصحيح مع الله، وبين حسن الخلق مع الناس، وهو فن التعامل السليم مع الناس، وحسن التصرف والسلوك في حياته كلها مع الخلق، يقول ابن القيم:" الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين".
هنا يطرح سؤال نفسه، أي الصنفين أفضل، هل التقي العابد ذو الخلق السيء أم الفاجر ذو الخلق الحسن ؟. والجواب أن هذا التفاضل وهذه المقارنة يمكن قبولها حسب الجهة المقصودة، فعند التعامل مع الناس تتجلى أفضلية الفاجر ذي الخلق الحسن على العابد التقي ذي الخلق السيء، لأن الأول يتعامل مع الناس في كل أحواله، بينما الثاني يتعامل مع ربه، وقد أصلح ما بينه وبين ربه، من غير أن يصلح ما بينه وبين الناس، مع أن التدين الصحيح هو أن تصلح ما بينك وبين الناس لكي يكون تمهيدا للإصلاح ما بينك وبين ربك، ثم إن التدين أمر شخصاني سري لا يجوز أن يظهره للناس، لأن الله يحب الأعمال الخفية لتكون خالصة له، بينما الأخلاق الحسنة هي للناس، فلا بد أن تظهر وتتجلى للناس، بحيث تعبر عن حقيقة النفس الإنسانية الطيبة النقية، التي لا تحمل حقدا على أحد، وعليه، فإن التدين والخلق ككفتي الميزان، فلا يمكن للميزان أن يكون عادلا وسليما وصحيحا إلا إذا كانت الكفتان متساويتين، وإلا أصبح الميزان مختلا، وعندما نلاحظ متدينا سيء الخلق، فهذا يعني أن هذا الشخص يعاني من اختلال في الداخل، أو بعبارة أخرى من اضطراب في النفس، فكلما اشتد تدين الإنسان لا بد أن يرتفع مستوى حسن الخلق عنده، وإلا أخذ أحدهما من الآخر حصته، فعندما يشتد الجانب التديني دون ارتقاء الجانب الخلقي، تحول هذا الإنسان إلى شخص مشاكس عبوس فظ غليظ جاف قاس مشاغب غير مقبول في المجتمع من الناحية التعاملية، لأن ميزانه مضطرب، والغريب أن بعض المتدينين حصروا التدين في مظاهر محددة، وأشكال معينة، وصفات معينة، وهي كلها تنافي طبيعة التدين الصحيح، وعندما يكون الإنسان ذا خلق عظيم، ولا تدين له، أو نقول إنسان فاجر فاسق ذو خلق رفيع، فهذا الإنسان أيضا مشاغب مشاكس ومضطرب غير مقبول عند رب العالمين، وهذه مشكلته هو، بينه وبين ربه، يحاسبه الله يوم القيامة على طيشه وتمرده على ربه، ولسنا مسؤولين عنه لمحاسبته، ولا يحق لنا ذلك، وهو مقبول اجتماعيا من قبل الناس من الناحية المعاملاتية اليومية، فقد يكون فاجرا لكنه سخي بشوش لين هين سهل بسيط، فهذا لا يمنع الناس من محبتهم له، لأخلاقه الطيبة، يقول المتصوف الكبير يحيى بن معاذ الرازي:" ما في القلب للإسخياء إلا حب ولو كانوا فجارا، وللبخلاء إلا بغض ولو كانوا أبرارا". أما ما يخص فسقه وفجوره فله، وذاك بينه وبين ربه، وهذا لا يعني أن ننصحه بالحكمة، ولكننا نتحدث عن فلسفة المعاملة مع هذه الأصناف المتباينة.