ظاهرة العنف الديني
لا ريب أن كل دين يواجه تحديات عصره، نتيجة تطورات الحياة ومتطلباتها الضرورية فتتكون ثلاثة اتجاهات تجاه تلك التحديات، وهذه القاعدة ثابتة في جميع الأديان، الاتجاه الأول: اتجاه يحاول المحافظة على نصوص الدين وعدم تأويلها وتفسيرها، والوقوف بحزم ضد أي تغيير لها، وهؤلاء هم الأصوليون المحافظون، والاتجاه الثاني عكس ذلك حيث يحاول فهم النصوص في ضوء تغييرات المرحلة وتطورها، فيفسرون نصوص الدين وفق إفرازات الحداثة الغربية، الى درجة تحريف النصوص وتشويهها، وهذا التيار يتهم دوما بالخروج عن الدين، أما التيار الوسط فهو يحاول التجديد بقدر الإمكان دون المساس بنصوص الدين بل تأويلها تأويلا منطقيا، مع مواكبة تطور الحياة، فينظرون الى الدين أنه مكمل للدنيا، وهذا الاتجاه له حضور في جميع الأديان، ولكن المشكل أن التيار الأصولي FUNDAMENTALISM هو الأقوى في الساحة، ولهذا يزداد العنف باستمرار، لأن هذا التيار يحاول المحافظة على تراث الدين، فيقف بعنف وحزم ضد التيارات الأخرى التي تحاول المساس بقدسية النصوص الدينية، وتفسيرها تفسيرا يخالف ما كان عليه الأوائل، فيبدأ أولا بتكفيرهم حتى يتم تصويرهم تصويرا مشوها، ليصبحوا مرفوضين من قبل المجتمع المتدين، وعندما تتحقق هذه الخطوة، تأتي مرحلة الحسم وهي تصفيتهم لأنهم خالفوا أصول الدين، وهذه المخالفة كافية للحكم بتكفيرهم وقتلهم لأنهم يهددون الدين ويشكلون خطرا عليه، وما أكثر الأمثلة على ذلك في جميع الاديان، وعندما يبدأ هذا التيار الاصولي بتطبيق هذه القاعدة ينتشر العنف، فيتصور الناس وخاصة الطبقة المثقفة والمفكرون أن الدين بطبيعته يولد العنف، ولهذا قال كلود ليفى شتراوس: ليس هناك أخطر على البشرية من الأديان التوحيدية Abrahamic Faith، وبسبب العنف الرهيب الذي مارسته الجماعات الأصولية كانت ردود الفعل من الفلاسفة والمفكرين عنيفا، حيث تخيل توماس هوبس أن الله انسحب من العالم، وأعلن نيتشه Nietzche موت الله God is dead ، وأعتقد ألبيرو كامو أن إنكار الله سوف يمكن الرجل والنساء أن يركزوا كل اهتمامهم وحبهم على الجنس البشري، ويقول فرويد:" الدين هو أشد الأخطار التي تهدد سلطان المعرفة العلمية وحدودها"، وجعله كارل ماركس أفيون الشعوب، وذكر نيتشه الفيسلوف قصة رجل مجنون كان يركض في السوق ذات يوم وهو يصيح: أبحث عن الله، وعندما سأله الواقفون المتكبرون عما إذا كان يتصور أن الله قد هاجر أو هرب بعيدا، توهج المجنون وسأل: أين ذهب الله، لقد قتلناه، أنت وأنا، نحن جميعا قتلة"، وهي قصة مؤلمة تبين مدى البؤس الاجتماعي الذي وصلت إليه البشرية بسبب هؤلاء الأصوليين الذين قدموا صورة بربرية وحشية للدين، ولا شك أن الدين بريء من هذه التهم الخطيرة، فالذين مثلوا الدين شوهوا صورته، وصوروه تصويرا عنيفا بأنه دين متعطش للدماء والدمار، مع أن فلسفة الدين قائمة على المحبة والحوار والتعايش والسلام.
أما الصوفية في جميع الأديان فقد دعوا الى الإيمان بالله من خلال وحدة الأديان للقضاء على مشروع الأصوليين الذين صنفوا المجتمع تصنيفا خطيرا يهدد السلم المجتمعي، وقد تحدثت عن ذلك بتفصيل في مقالي السابق الذي نشر في مجلة كولان بعنوان (الإنسان ذلك الكائن المقدس)، ولعل أفضل مثال على ذلك في مجتمعاتنا ما قامت به داعش من أعمال إجرامية بحق العلماء الرافضين لنهجها، وتصفية الأبرياء والأطفال والنساء الذين كانوا يرفضون هذا النوع من التفكير الأعوج للدين، ومسألة التصفيات الجسدية لمخالفيهم أمر طبيعي وضرورة شرعية في تصورهم، لأنهم يعدون عوائق في طريقهم الى نشر عقيدتهم، أو تكوين دولتهم المنشودة وهي التي تسمى بالخلافة، وقد قال أبو الأعلى المودودي الباكستاني عندما عرف الجهاد:" كفاح ثوري للإستيلاء على السلطة من أجل خير البشرية جمعاء"، وقد تأثر به سيد قطب ونشر مثل هذه الأفكار في مصر، ولعل كتابه معالم في الطريق أهم كتاب منهجي يسير عليه الأصوليون من بعده، حتى حكم جمال عبد الناصر عليه بالإعدام، ولو بقي سيد قطب في مجال تخصصه الأدبي ولم ينضم الى جماعة الإخوان المسلمين سنة 1953، لأصبح أفضل أديب في العالم العربي والإسلامي، ولهذا دائما أقول (لولا الإخوان المسلمون لكان المسلمون إخوانا) فهم مصدر جميع الجماعات الأصولية في العالم.
فالأصوليون في جميع الأديان يشكلون خطرا على المجتمعات، وعلى التعايش السلمي وحقوق الإنسان والمدنية والديمقراطية والتعددية، وذلك لأنهم كم يقول جيل كيبل:" يبدأون بالفتح من الأعلى وغيرهم من الدعاة يبدأ بالفتح من الأسفل"، والمقصود بالفتح من الأعلى فرض الرأي على الآخرين بمنطق القوة إن كانوا قادرين، وبمنطق التصفيات الجسدية كالإغتيالات إن كانوا غير قادرين، يقول الأصولي اليهودي بنخاس روزنبلوت Rosenbluth:" نحن نريد تنفيذ التوراة طوال الوقت وفي كل منطقة، كي نمنح التوراة السيادة في حياة الفرد وفي الشؤون العامة". وعندما اغتيل إسحاق رابين بيد شاب يهودي أصولي من جامعة تل أبيب الدينية يدعى(ايغال عمير) سنة 1995 قال الحاخام اليهودي الأصولي إيلون" كانت البلاد على حافة الحرب الأهلية فألغاها الاغتيال" لأن أسحاق رابين رضي بعملية السلام مع فلسطين، وتم اغتيال أنور السادات الرئيس المصري بيد متطرف إسلامي أبو خالد الإسلامبولي سنة 1981، لأنه اعتقد أن السلام مع اسرائيل جريمة، وبارك هذه الخطوة كثير من مشايخ التكفير في العالم الإسلامي، وأتذكر جيدا عندما كنت طالبا للدراسات العليا في ماليزيا ووقعت كارثة تفجير المركز التجاري العالمي في أمريكا 9/11 احتفل كثير من طلبة العالم الإسلامي بهذا الحادث، وعدوه نصرا إسلاميا عظيما على الكفار حسب تعبيرهم، تقول كارولين فوريست عن هذه العملية الإنتحارية والتي كان خمسمائة (500) من مجموع الضحايا مسلمين:" إنهم سودوا بشكل خاص صورة الإسلام على نحو دائم". فالأصولية كما عرفتها كارين أرمسترونغ:" هي الإنسحاب من العالم الذي لا رب له الى جماعة منغلقة على ذاتها حيث يحاول المؤمن إعادة تشكيل الوجود في تحد للتغيرات الحاصلة في الخارج، فالأصولية بالأساس هي حركة دفاعية... أو دين محارب ترى نفسها أنها تحارب من أجل البقاء في عالم معاد".، فهؤلاء يتصورون أن من لم يكن معهم فهم على باطل وضلالة وكفر، ولهذا يستخدمون العنف ضدهم، حيث يتصورون في قناعتهم أنهم يطهرون الأرض من أعداء الله، لأنهم لا إله ولا رب لهم، تقول كارولين فوريست:" تعني الأصولية في رأينا تجلي مشروع سياسي هادف الى إلزام مجتمع ما بدءا بالفرد وانتهاء بالدولة باعتماد قيم ناتجة لا عن توافق ديمقراطي بل عن رؤية للدين صارمة متشددة أخلاقية"، يعرف الفيلسوف الفرنسي فولتير Voltaire الأصوليين قائلا:" ناس مقتنعون بأن الروح القدس الذي يملؤهم هو فوق القوانين". وهذه العقيدة الأصولية الخطيرة أكبر تهديد للسلم العالمي، وبعض الدول أسست على هذه العقيدة، وتلزم مواطنيها بالإيمان بها، ولهذا تمتلأ السجون بالمعارضين والمخالفين، وتكتظ المقابر بجثث الذين يتم إعدامهم كل يوم، ولو كانت هذه الدولة قادرة لفرضت عقيدتها على بقية العالم، ولكنها عاجزة، ولهذا نجد بعض الدول التي وقعت تحت تأثيرها تعاني من خطورة هذه العقيدة الأصولية، حيث الدمار والخراب والفساد والقتل بشتى السبل، وليكن معلوما أن الدولة عندما تتخذ هذه العقيدة الأصولية منهجها فإنها حتى لو لم تكن مقتعنة بها فإنها ستظل مدافعة عنها لأنها تحقق مطالبها في القضاء على المخالفين والمعارضين، ويسهل تصفيتهم جسديا، وهذه خطوة جبارة في تصورها لحفظ هبية الدولة، فعندما وجد قسطنطين ملك الروم أن المسيحية مخالفة للعقيدة الرومانية الوثنية، لكنه اعتنقها لكونها كانت تحافظ على هيبة الدولة وتضمن له طاعة الرعية، فوحد بين الكنيسة والأمبراطورية الرومانية سنة(312م) ثم قال:"أنا معين من قبل الله كمشرف على الشؤون الخارجية للكنيسة". ونرى تاريخ الأصولية المسيحية رهيبا، فهذا مؤسس الحركة الأصولية المسيحية الأمريكية جيري فولويل يصدر تعليمات قاسية لأتباعه لمقاومة الحداثة الجديدة، ويقول غاري نورث، مدير معهد الاقتصاد المسيحي بمدينة تكساس:" إن أي نوع من التعددية الدينية أو الأخلاق الثقافية أو السياسية يوازي الإيمان بتعدد الآلهة، ويكون بالتالي ضربا من ضروب الوثنية".
إن العنف الديني نتيجة طبيعية لفهم الإصوليين الحرفي الجامد لنصوص الدين، فلو تركوا نصوص الدين كما هي لكان لها أعظم تأثير إيجابي في حياة الناس، لكنهم يعدون أنفسهم وكلاء الله في الأرض والموقعين عنه، فلا يسمحون لغيرهم بتفسير نصوص الدين، فمن فسرها مخالفا منهجهم تزندق، والزندقة هي الخروج من الدين، وهذه الظاهرة موجودة في جميع الأديان، وخاصة في الأديان السماوية لأن نصوصها أكثر، وكلما كثرت النصوص ازدادت حدة الخلافات بين المذاهب، والأخطر من ذلك كله عندما تعلن دولة ما مذهبا دينيا معينا عقيدتها الرسمية، كما فعلت الامبراطورية الرومانية عندما أعلن الملك قسطنطين مذهب أثناسيوس وهو مذهب من المذاهب المسيحية الديانة الرسمية لها، واليهود هم المؤسسون الحقيقيون للدولة الدينية عبر التاريخ، وقد وجدنا تمسكهم الشديد بتعاليم التوراة (والهالاخاه)الصارمة حفاظا على هويتهم الدينية ضد المخالفين، يقول أحد متطرفي اليهود: عندما يتعرض اليهودي للذل فإن الله يذل، وعندما يهاجم اليهودي فإن ذلك هجوم على اسم الله"، وفعلت داعش في خلافتها الكاذبة حيث اختارت المذهب الأصولي الذي يجمع الفتاوى المتشددة والكتب المتطرفة وخاصة تلك التي تحض على الجهاد والبراءة من الكفار والمنافقين، فالدولة ستكون مساندة لهذه العقيدة الأصولية المتطرفة، وإن لم تكن مقتنعة بها، خوفا على هيبتها وطاعة ولاتها وتحقيق أطماعها، وقد رأينا كيف قضت هذه الدول على معارضيها بأساليب وحشية.