هل تخلى البارزاني عن الإستفتاء؟
أما الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس مسعود البارزاني الى بغداد فهي القاصمة لظهور الساسة الكورد الذين كانوا يعملون ليل نهار على تشويه صورته، وإضعاف مكانته، فأكثر من أربع سنوات كانت الأحزاب الكوردية المعارضة وتحديدا نواب الكتل الكوردستانية باستثناء بعضهم، يقدمون أنفسهم أنهم الممثلون الحقيقيون والصادقون لشعب كوردستان، وأن البارزاني يكره بغداد ولا يريد حوارا معها، بل يريد تمزيق اللحمة الوطنية، ولهذا عارضوا الإستفتاء الشعبي، ودعوا الى وحدة العراق أكثر من غيرهم، كل لك حتى يقنعوا بغداد أن البارزاني خارج اللعبة السياسية، ولا مكان له في العراق الموحد، فهم أرادوا تحقيق هدفين، أولهما مكاسب سياسية حزبية وشخصية، وثانيهما، إقصاء البارزاني وتهميش دوره السياسي، حتى قال بعضهم: لم يعد للبارزاني ذلك الثقل السياسي الذي كان يملكه قبل الإستفتاء، ولهذا لأول مرة تحولت بغداد الى حج سياسي لأحزاب المعارضة بل حتى لبعض من كان في الحكومة، واستقبلوا بعض قادة بغداد لاستفزاز أربيل، ومحاولة تحويل السليمانية الى قبلة سياسية تحل محل أربيل، وبدأوا في الإعلام العربي حملة شعواء لاستهداف أربيل واتهامها بشتى التهم، آخرها أنها منبع الإرهاب، ومن خلال تجربتي في الإعلام العربي، فما عانيته من بعض نواب كوردستان المعارضين كان أشد مما كنت أعانيه من النواب الآخرين، حيث كانوا شغلهم الشاغل تشويه أربيل والحزب الديمقراطي الكوردستاني وشخصية البارزاني، وكنت دائما أقول لهم، دعنا لا نتحدث عن مشاكل كوردستان على الإعلام العربي، ولا ننقل مشاكلها الى بغداد، قولوا ما شئتم، وانتقدوا ما شئتم، ولكن ليس على الإعلام العربي، ولكن لا جدوى، فهدفهم كان واضحا، وهو تشويه الحزب الديمقراطي الكوردستاني بقيادته، وتقديم أنفسهم أنهم البديل القادم، كل ذلك لكي تعيد بغداد قراءتها في كيفية التعامل مع أربيل، ودعني أقول حقيقة لله وللتاريخ: لم يكن قادة بغداد يثقون بهم، بل كانوا ينتظرون عودة العلاقات بين البارزاني وبعض قادة بغداد، وخاصة بين المالكي والبارزاني، ولي الشرف العظيم أنني كنت من الذين بذلوا جهودا جهيدة لتحسين هذه العلاقة لقناعتي المطلقة ومن خلال تجربتي في بغداد، أن الحل الوحيد لتحسين العلاقة بين بغداد وأربيل هو تحسين العلاقة بين القادة الكبار الذين لهم ثقل سياسي وتاريخي واجتماعي، وعندما تتحسن العلاقة بين القادة الكبار أصحاب القرار فلا تأثير للقادة الصغار أو الذين هم أدنى منهم سياسيا في تغيير المسار.
ولقد كثر اللغط حول زيارة البارزاني الأخيرة الى بغداد، حيث نجد تحليلات عديدة، ولعل أقواها وقعا في الساحة السياسية العراقية والكوردستانية أن البارزاني زار بغداد لأنه تخلى عن الإستفتاء، والحقيقية ليس الأمر كذلك، وذلك لجملة أسباب منها: البارزاني لم يجر الإستفتاء لكي يعلن دولة كوردستان مستقلة مباشرة بعد الإجراء، بل أجراه لكي يكون الشعب حرا في التعبير عن رأيه وإرادته ورغبته كبقية شعوب العالم وفق القوانين الدولية، هذا أولا، ثانيا: إن الاستفتاء دستوري لأنه جزء من حرية التعبير الواردة في الدستور العراقي، ثالثا: هذا الإستفتاء ليس من صلاحية البارزاني أن يلغيه، فهو حق الشعب، وحق الشعب بيد الشعب، والبارزاني فرد من هذا الشعب، وقد شبهت الإستفتاء في تغريدة لي باللبن الذي يخرج من الضرع، هل يمكن أن يعود الى مكانه السابق، دعني لا أطيل مقالي بالكتابة كثيرا عن الإستفتاء لأني كتبت مقالات كثيرة عنه، فالبارزاني زار بغداد لكي يقول لهم: أيها الاخوة حدثت أخطاء فادحة في العملية السياسية، وقد نبهتكم مرارا وتكرارا، ولكن لم أجد آذانا صاغية، وقد جئت اليوم لأني أشعر أن هناك فرصة لتصحيح مسار العملية السياسية، فنحن جميعا في سفينة واحدة، لا بد أن نعمل معا لكي نصل الى شاطيء الأمان، وإلا غرقت السفينة بنا، وخاصة أن هناك تغييرات سياسية جديدة، وتقلبات جيوسياسية مفاجئة، وتحديات داخلية وخارجية، فدعنا نصحح المسار، وأفضل تصحيح هو دعم حكومة السيد عادل عبد المهدي، فهو مناضل عتيد، يمكنه أن يقود البلد خلال هذه الأربع سنوات الى الطريق الصحيح، شريطة دعم الجميع له، ولهذا تعد هذه الزيارة بمعنى الكلمة زيارة تاريخية ناجحة، حيث فتحت صفحة جديدة للعلاقات بين بغداد وأربيل، وقد رحب جميع قادة بغداد بهذه الزيارة، كيف لا وهو مهندس العملية السياسية ومؤسسها كما قال السيد رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، فمنذ أكثر من أربع سنوات كان ساسة المعارضة الكوردية ونوابها وبعض من كان في حكومة كوردستان يعملون ليل نهار لكي يكونوا البديل الشرعي للبارزاني في بغداد، ولكن البارزاني بين ليلة وضحاها استطاع أن يثبت لشعب كوردستان وللعراقيين أنه هو الممثل الشرعي والحقيقي لشعب كوردستان، ولهذا استقبلوه في بغداد استقبال قائد أمة ورئيس شعب وصديقا عزيزا ومناضلا عتيدا في درب النضال والحرية، ومن هنا سقطت جميع محاولات أحزاب المعارضة في كوردستان، وذهبت جهودهم سدى في معاداة البارزاني وإضعاف مكانته في بغداد، وهذا يؤكد ما قلته سابقا أن قادة بغداد لم تكن تثق بأحزاب المعارضة، وقد وجدت ذلك من خلال لقاءاتي بهم، وحواراتي معهم، وعليه فليكن واضحا أن البارزاني لم ولن يتخلى عن الاستفتاء، كيف يتخلى عنه، وقد أجراه الشعب بحرية، وعده يوما تاريخيا في حياته، وليكن معلوما للجميع أن لا أحد في بغداد تناول موضوع الإستفتاء، لا لكونه تم إلغاءه، بل لأنه لا أحد يملك صلاحية إلغاءه، فما أقره الشعب لا يلغيه إلا الشعب نفسه، بل الجميع ركز على تحقيق مستقبل واعد للشعب العراقي بجميع مكوناته ودياناته وطوائفه.
ولعل سائلا يسأل لم هذا الاهتمام والتنافس حول مناصب بغداد وخاصة رئاسة الجمهورية، أليس هذا يتنافى مع طبيعة من يريد الإستقلال؟ والحقيقة أن هذا السؤال منطقي للغاية، والجواب سهل، عندما يكون الحزب الديمقراطي الكوردستاني ضعيفا في بغداد تتعقد المشاكل بين بغداد وأربيل، وعندما يكون قويا نجد حل المشاكل أسهل، عندما أعطينا رئاسة الجمهورية للإتحاد الوطني وخاصة في عهد السيد فؤاد معصوم، أدركنا مدى فداحة هذا القرار الذي اتخذناه، حيث لم يحرك الرجل ساكنا في أحلك الظروف، وخاصة تجاه قرارات بغداد الجائرة بحق كوردستان بعد الاستفتاء، بل بقي صامتا، ثم رافضا للاستفتاء، ولهذا توصلنا الى قناعة أنه إذا أردنا مساعدة شعب كوردستان وإنقاذه من أزمته الخانقة فلا بد أن يكون الحزب الديمقراطي في بغداد قويا، لكي يكون مشاركا في صياغة القرار وصناعته واتخاذه، ولهذا رشح البارزاني فؤاد حسين لمنصب رئاسة الجمهورية، وهذا من حقنا ومن حصتنا بناء على الاستحقاق الإنتخابي، وقد اتفقنا مع الاتحاد الوطني الكوردستاني على سحب برهم صالح من الرئاسة، ولكن في اللحظات الأخيرة خرقوا الاتفاق كدأبهم، فكان ما كان، ولهذا لم يهنيء الحزب الديمقراطي الكوردستاني برهم صالح على فوزه، لأنه أخذ حق غيره، وعندما زار البارزاني بغداد لم يكن في جدول أعماله رؤية برهم صالح، ولهذا اضطر الى السفر حتى لا يقع في حرج، ولا يتصورن أحد أن الحزب الديمقراطي الكوردستاني قد فشل لأنه لم يفز مرشحه، فالحزب لا ينظر الى المناصب كمعيار للفوز أو الفشل، قد تبين لشعب كوردستان أن رجلا كبرهم صالح قد سقط سياسيا، خرج من الاتحاد الوطني الكوردستاني، وأسس حزبا، ثم فشل فشلا ذريعا في الانتخابات، وكان يتصور أنه سيحصد أكثر المقاعد ليكون رئيسا للجمهورية، ثم تخلى عن حزبه وأتباعه بعد توريطهم، وعاد الى حزبه القديم لكي يصبح رئيسا للجمهورية، وتبين في الوقت نفسه أن الأحزاب الكوردية باستثناء الحزب الديمقراطي الكوردستاني تتصارع في بغداد من أجل المناصب، وليس من أجل مصلحة شعب كوردستان، نعم ربما نجد بعض مسؤولي الحزب الديمقراطي الكوردستاني متورطين في فساد ومتلهفين وراء المناصب، ولكني هنا أتحدث عن فلسفة الحزب الديمقراطي الكوردستاني في بغداد، فهي تناضل وتصارع من أجل تحقيق مصلحة شعب كوردستان.
والزيارة الأخيرة للبارزاني ليس للحديث عن المناصب، وإن كان ذلك طبيعيا في نظري، لأن المناصب وسيلة لتحقيق المطالب، فهي كانت زيارة لإيصال رسالة واضحة المعالم في كون العملية السياسية بحاجة الى تصحيح من جديد، ولا يستقيم الظل والعود أعوج، أي ما قيمة المناصب إذا كانت العملية السياسية عرجاء، فالحديث ينبغي أن يكون عن العملية السياسية والحوار البناء والتعايش الأخوي وبناء المؤسسات والدولة المدنية والديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والأقليات، ثم يأتي الحديث بعد ذلك عن المناصب لتحقيق هذه المطالب، ولهذا تحدثنا عن المناصب لكي نحقق مطالب شعب كوردستان، فغيرنا لا يحقق ذلك، بل سيحقق مصالح الحزب والأشخاص ولقد رأينا ذلك بأم أعيننا، وشاهدنا أمثلة ونماذج من ذلك.
بخصوص حكومة السيد عادل عبد المهدي فأعتقد أن السيد عادل عبد المهدي رجل مناسب لهذه المرحلة لتولي هذه الكابينة، وذلك لخبرته السياسية وتجربته الطويلة وعلاقاته المتميزة في الخارج والداخل ووسطيته وانفتاحه وتقلباته الفكرية وفهمه الواقعي للحالة السياسية في العراق، وكذلك اطلاعه على أوضاع كوردستان، والى الآن - وأنا أكتب هذا المقال- لم تكتمل كابيته، حيث بقيت ثماني وزارات شاغرة، وإن كانت كابينته نالت ثقة البرلمان لأربعة عشر وزيرا، وقد تجاوزت الكابينة النصاب القانوني، ومع ذلك فثمة محاولات حثيثة من بعض النواب لسحب الثقة من بعض الوزراء بتهم الفساد والإرهاب، وتبقى كابينة السيد عادل عبد المهدي منقوصة ومعيبة، وذلك بسبب الخلافات العميقة والعقيمة بين الكتل السياسية حول الوزارات المتبقية، وخاصة حقيبة الداخلية والدفاع، فالأولى من حصة الشيعة، وكتلة سائرون بزعامة مقتدى الصدر ترفض (فالح الفياض) مرشح كتلة البناء لحقيبة الداخلية، وذلك لأنه يرأس هيئة الحشد الشعبي، باختصار لأنه حشدوي، لأن من مشروع السيد مقتدى الصدر حل الحشد الشعبي، فكيف يمكن إعطاء الداخلية لمن يرأس الحشد الشعبي، أما حقيبة الدفاع فمن حصة السنة، وخلاف السنة معروف في كل صغيرة وكبيرة، وهذه الحقيبة تأخر حسمها لأن هناك صفقة تجارية حولها، فهي لمن يدفع أكثر، حيث تسربت معلومات أن سعرها وصل الى خمسين مليون دولار، وأكثر هذه الصفقات تعقد خارج البلاد وخاصة في الأردن ولبنان، لذلك تعد قضية بيع وشراء المناصب في العراق أكبر فضيحة في العالم، فلو إن استمرت هذه الخلافات السياسية العميقة والعقيمة حول الوزارات المتبقية فإن حكومة عادل عبد المهدي ستكون في مهب الريح، والرجل معروف بمواقفه العجولة، فورقة استقالته في جيبه باستمرار، ومن هنا تأتي أهمية زيارة البارزاني لبغداد في هذا الوقت تحديدا، لأن سيادته يعتقد أن هذه هي الفرصة الأخيرة للعراق لكي ينهض سياسيا وينتعش اقتصاديا ويتعافى عسكريا، ويتحسن دبلوماسيا، وكذلك للقرار نهائيا بإنهاء ملف خلافات بغداد وأربيل، ولهذا قدم دعمه الكامل لحكومة السيد عادل عبد المهدي، لأن عدم مساندته في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ العراق سيعرض كابيته الى الفشل الذريع، والفاسدون يتربصون بها الدوائر لكي تفشل وتسقط، لأنهم لا يريدون حكومة تخدم المواطنين بل حكومة في خدمة الفاسدين، ومنذ خمسة عشر عاما يتحكم الفاسدون بقرارت البلد وثرواته، ومن حق الشعب أن ينتفض ضد الفاسدين، وتبا وسحقا لأي كتلة تدافع عن الفاسدين، وإني على قناعة أن البلد سيشهد انتفاضة شعبية عارمة إذا استمر الفاسدون يسيطرون على مقاليد الأمور، وسيكون مصير البلد نحو المجهول، والدولة ستكون آيلة للسقوط، ولا يقولن أحد وقتئذ أن الكورد سبب هذه الانتفاضة والفوضى وما حصل في البصرة ليس منا ببعيد، وعندما يسيطر الفاسدون والطائفيون والمؤدلجون الدينيون على قرارت البلد وثرواته، فإن شعب كوردستان ليس مستعدا للعيش في دولة كهذا، ومن هنا تأتي أهمية الإستفتاء كمرحلة أساسية وركيزة رئيسة نحو الاستقلال، إن لم يستطع الفرقاء السياسيون إنقاذ البلد من المخاطر القادمة.