الى أين ستقود حكومة عادل عبدالمهدي العراق؟
لها بالبنان وكانت قادرة سياسيًا واقتصاديا وعسكريا.. ولكن الناس
بدأوا يتحركون لهدم الدولة على أمل البناء ثانية لكن الدولة
التي تنهدم لن تعود مرة ثانية".
الرئيس المصري عبدالفتاح سيسي
شرم الشيخ، فعاليات منتدى الشباب 4 نوفمبر 2018
(I)
يمثل طرح التساؤل: الى أين ستقود حكومة عادل عبدالمهدي العراق؟ انعكاساً لحالة "القلق" الذي هو نتاج التطورات الخطيرة المحيطة بالدولة العراقية منذ الاحتلال الأمريكي عام 2003. وهو أمر طبيعي يمثل انشغال المواطنين وفي إطار الخوف والرهبة بما يحدث الآن وما سيحدث في العراق مستقبلاً.
إذن، الوضع في العراق "مقلق" كثيراً، وهو نتاج عوامل متعددة، وفي نفس الوقت هذا " الوضع العِراقي" يعكس وجود " أزمة سياسية حادة" في البنيان السياسي العراقي.
في إطار علم السياسة لدينا عدة مناهج لدراسة حالة البلدان التي تعاني أنظمتها السياسية أزمات (سواء كانت حادة أم لا)، وقد قسم الباحثون في علم السياسة هذه الأزمات (التي لها علاقة بالمساواة وقابلية الانجاز لدى النظام السياسي والتخصص في الوظائف بالنسبة للمؤسسات الحكومية. ) إلى خمس أزمات متداخلة ومتشابكة بعضها مع بعض بحيث إن كل أزمة تؤدي الى الأخرى.
يقدم الأساتذة الأمريكان (لوشيان باي Lucian Pye وماريون فينير Myron Weiner وجوزيف لابلامبورا Joseph La Palombaraوليونارد بيندر Leonard Binderوجيمس كوليمان James Coleman) تصوراً مهماً حول أزمات النظام السياسي في البلدان النامية وذلك في كتاب شهير بعنوان أزمات وأثارها في التطورات السياسية ,Crises and Sequences in Political Development التي يمكن تحديدها بما يأتي:
Contents: I. "Crises of Political Development," Leonard Binder. II. "The Development Syndrome: Differentiation- Equality-Capacity," James S. Colcman. III. "Identity and the Political Culture," Lucian W. Pye. IV. "The Legitimacy Crisis," Lucian W. Pye. V. "Political Participation: Crisis of the Political Process," Myron Weiner. VI. "Penetration: A Crisis of Governmental Capacity," Joseph LaPalombara. VII. "Distribution: A Crisis of Resource Management," Joseph LaPalombara. VIII. "Sequences and Development," Sidney Verba. Index.
1- أزمة الهويةCrisis Identity
تبرز هذه الأزمة عند مواجهة الدولة لصعوبات تتعلق بدمج المواطنين جميعاً في إطار موحد يجمعهم متجاوزين انتماءاتهم المحلية الضيقة والمتعلقة باللغة والعرق والمذهب؛ وهذه الأزمة تضعف انتماء المواطن للوطن. ومن الممكن تحديد أسباب هذه الأزمة بالتباينات الإثنية واللغوية والاقتصادية والطبقية.
وهذه الحالة تؤدي إلى فقدان الثقة بالهوية الوطنية وبالتالي اللجوء الى الهويات الفرعية سيكون هو المهرب من هذه الحالة.
2- أزمة الشرعية The Legitimacy Crisis
هذه الأزمة تتعلق بظاهرة عدم رضا المواطنين عن نظام سياسي معين، وبالتالي اعتباره نظاماً غير شرعي. وتلعب هنا عدة عوامل منها: ما يتعلق بطبيعة السلطة ومدى تحمّل الحكومة لمسؤولياتها تجاه الشعب، ومدى احترام السلطة السياسية للدستور وحين لا يحترم الدستور سنكون أمام ظاهرة غياب التداول السلمي للسلطة، وإسكات المعارضة، واللجوء إلى تنظيم انتخابات شكلية مزورة وغير نزيهة.
3- أزمة المشاركة السياسية Political Participation Crisis
تبرز هذه ألأزمة عندما يتم إبعاد المواطنين عن أن يكون لهم دور في الحياة العامة للبلاد. إن المشاركة الشكلية في الانتخابات لا تعني أن المواطن سيكون له مساهمة جدية في الحياة السياسية ما دام هناك تركيز للسلطة لصالح السلطة التنفيذية وتهميش دور السلطة التشريعية مما يؤدي إلى خلق أزمة جديدة أسماها المفكر القانون الألماني كارل شمدت "أزمة البرلمان".
كل هذه العوامل تؤدي إلى ابتعاد المواطنين عملياً عن السياسة وانتشار القيم السلبية والاغتراب واللامبالاة السياسية.
4- أزمة التغلغل Penetration Crisis
تمثل هذه الأزمة عدم قدرة وقابلية النظام السياسي على التوغل والنفاذ إلى جميع مناطق الدولة، وفرض سيطرتها، وهو ما يؤدي إلى صعوبة التواصل مع المجتمع والمواطنين وعدم استفادتهم من الحكومة ومشاريعها. إن نوعية هذه الأزمة نوعية خطيرة لأنها تمثل عجز النظام السياسي عن الوجود في كافة مناطق الدولة.
5- أزمة التوزيع Distribution Crisis
هذه الأزمة لها علاقة بقابلية النظام السياسي لتوزيع عادل للموارد والثروات والخدمات والامتيازات المادية وغير المادية (الأمن، التعليم، الثقافة، الخدمات الصحية والاجتماعية).
وهنا تؤدي المسائل الطبقية (الصراع الطبقي) والاقتصادية (الحرمان الاقتصادي) والسياسية (الفساد واستغلال السلطة وفقدان الشفافي) دوراً مهماً في خلق الأزمة.
هذه الأزمات تؤدي إلى أزمة أخرى، ولكنها خطيرة ولها نتائج مدمرة إذا لم تعالج، وهي أزمة الاستقرار السياسي التي تكون على مستويين هما:
أ - مستوى الدولة ككل: ويتعلق بعملية بناء الدولة من حيث إقامة مؤسسات
قوية فعالة تستطيع أن تحقق أهداف الدولة وتكون حلقة وصل ما بين
النظام السياسي والمواطنيين
ب - مستوى النظام السياسي: ويتعلق بضعف المؤسسات في الدولة بشكل
يؤثر على مستوى أداء واستقرار النظام السياسي.
(II)
عليه، فإنه بالإمكان القول إن الوضع في العراق هو في حالة أزمة حقيقة تعصف به كدولة وكنظام سياسي. فالعراق كدولة هو في أزمة تتعلق أساساً بمسألة بناء الدولة. يرى المفكر الأمريكي فرنسيس فوكوياما في كتابه بناء الدولة: النظام العالمي ومشكلة الحكم والإدارة في القرن الحادي والعشرين أن بناء الدولة يثير نقطتين هما:
• إن تآكل مبدأ السيادة كان نتيجة "الـتدخلات الإنسانية" في كوسوفو ورواندا والصومال والكونغو وتيمور الشرقية وباقي مناطق العالم التي شهدت مجازر دموية وانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، وإن أزمات الدول الضعيفة والفاشلة والمضطربة تشكل اليوم تهديداً أمنياً جدياً للدول القوية والغنية.
• إن العديد من البلدان الأكثر تماسكاً تحاول القيام بعمليات بناء الدولة من الداخل عن طريق فصل الإصلاح الإداري والمؤسسي عن الإصلاح السياسي والمجتمعي .
ويؤكد فوكوياما أن الولايات المتحدة الأمريكية بعد انتهاء العمليات العسكرية، أصبحت لديها مسؤوليات جديدة أساسية تتعلق ببناء الدولة في العراق وكان على رأس هذه المسؤوليات "دعم قدرات ومؤسسات الدولة المفقودة أو إعادة تشكيلها من صفر"
ويضيف أن "العراق كان بلداً أكثر تطوراً ، وتوفرت فيه موارد مادية وبشرية أكبر كثيراً. المشكلة هنا أن مؤسسات الدولة العاملة انهارت أو جرى تفكيكها فور اتهاء الحرب، وأصبحت بحاجة إلى إعادة بناء، مع ضياع كم هائل من القدرة الإدارية في أعمال النهب والفوضى العارمة التي أعقبت التدخل العسكري".
ولكن الولايات المتحدة لم تتمكن من الاضطلاع بهذه المسؤولية، لذلك شهد العراق تطورات مضادة لعملية بناء الدولة من خلال إضعاف فعالية القدرة الإدارية البيروقراطية المتراكمة وإحلال قليلي الخبرة في إدارة مؤسسات مهمة، وهو ما أنتج وضعاً مأسوياً للدولة العراقية وقللت من إمكان استرجاع قوتها وقدرتها السابقة وفسحت المجال لبروز "هويات محلية، دينية و إثنية، لكأن العراق عاد القهقري الى عام 1921!"
النظام السياسي الذي أقيم بعد عام 2003 لم يكن في حالة أحسن من حالة بناء الدولة، فقد عانى وإلى الآن مشاكل بنيوية حادة تمثلت بحالة عدم الانسجام ما بين الأحزاب المؤتلفة في الحكومة والتي أدت إلى تباينات مختلفة ومتناقضة في صدد برامج الحكومة وكيفية تنفيذها وفي حالات كثيرة أصيبت الحكومة بحالات شلل. ولم تنجُ السلطة التشريعية من هذه "المشكلة ".ولذلك كانت أعمالها تتأثر إلى أقصى حد ممكن بالصراعات السياسية بين القوى والأحزاب السياسية. إلا أن الموضوع لا يقف عند هذا الحد، بل إن كل هذه الإشكاليات والتعقيدات لم تكن خالية من التأثيرات الخارجية، بل على العكس، تؤدي الضغوطات الخارجية دورا مؤثراً وواضحاً في المسيرة السياسية في العراق.
إذن، تواجه عملية بناء الدولة وبناء حكومة مستقرة قوية وبناء مؤسسات فَعّالة في العراق مشكلة حقيقية وخطيرة،
وفي هذه العملية من الضروري دمج عمليتي "بناء الدولة" و"بناء الأمة" معاً لخلق توازن مطلوب يؤدي إلى تفاعل مستمر ما بين الدولة والمجتمع. إن التركيز فقط على عملية بناء الدولة يؤدي إلى قيام دولة قوية ولكنها تأخذ اتجاهاً تسلطياً يحول المجتمع إلى مجتمع جماهيري. هذه الدولة تكون قوية إلا أنها تحمل في أحشائها بذور فنائها لكونها تتحول إلى دولة هشة بفقدانها للشرعية الضرورية لإدامة حكمها. على العكس، إن بناء دولة قابلة للاستمرار يتطلب أمرين مهمين وهما: السيادة والشرعية.
(III)
النخبة التي صعدت إلى الحكم في العراق بعد 2003 لم تكن نخبة موحدة أو متفقة على نقاط مشتركة تحقق المصلحة والمنفعة العامة المشتركة، حسب المفهوم الأرسطوطالي، بل أإنها لم تأتِ بفعل عملية ديمقراطية تستند إلى الانتخابات، بل إن الأمريكان هم الذين تولوا تمهيد الطريق لتلك النخبة لتسلّم الحكم الذي استند إلى مبدأ المحاصصة الطائفية - المذهبية - القومية، ولكن اختلفت رؤية تلك النخبة ما بين الدينية، والليبرالية، والطائفية، ولكن انحسرت أو خفت الرؤية العلمانية وتجلت هذه في تشكيلة مجلس الحكم الذي أنشأه الحاكم المدني بريمر. ووضع الأمريكان ثقلهم في إصدار قرارات لهدم البنية التحتية للدولة العراقية (حل الجيش، الأمن) وهو ما أفسح المجال لإحداث فوضى في البلد، وكذلك نجحوا في فرض دستور جديد باسم "قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية" في 8 أذار/مارس 2004 الذي غيّر شكل الدولة العراقية من دولة موحدة إلى دولة فيدرالية، وتم تأكيد هذا التغيير في دستور 2005.
وعليه، فالنظام السياسي في العراق ممكن وصفه بأنه نظام ليس لديه القابلية في إنجاز مهامها، ولذلك واجه ومنذ 2003 العديد من المشاكل الخطيرة التي عصفت وتعصف بالدولة العراقية.
النظام السياسي بصورة عامة لديه هدف محدد ودقيق وهو العمل على إيجاد التزام وترابط في داخل المجتمع، وهذا يعني خلق ولاء والتزام مجتمعي تجاه النظام السياسي بما يؤدي إلى توحيد المجتمع. وعليه فإن النظام السياسي لم يأتِ من أجل تفرقة المجتمع، بل على العكس وجد بسبب ضرورة تحقيق وحدة المجتمع. إذن النظام السياسي أقيم لإنجاز وظيفة مهمة هي وظيفة خلق الالتزام العام من قبل المواطنين تجاه القيم والمبادئ المتجسدة في الدستور، وهذا سيؤدي إلى خلق الطاعة وخلق ثقافة سياسية موحدة، وبالتالي سيؤدي إلى الدعم السياسي وزيادته. وحين ينجز النظام السياسي هذه الوظائف فإنه سيخلق التزاماً عاماً من جانب المواطنين بالقرارات الصادرة عنه. إذن على النظام السياسي أن يخلق أجواء تؤدي إلى طاعة وخضوع "أوتوماتيكي" من قبل المواطنين، وهذا مرتبط بمسألة توفير أجواء ديمقراطية. هنا تصبح الديمقراطية معياراً للحكم على القرارات بكونها جيدة أو سيئة من خلال التساءل هل أنها صدرت في إطار العملية الديمقراطية أم لا؟ فإذا كانت قد صدرت بفعل تلك العملية فالمتوقع أن تكون الاستجابة للقرارات إيجابية. وبالتالي يكون النظام السياسي قد أنجز وظائفه من خلال تقبل طوعي للمواطنين لتلك الانجازات.
يوضح البروفيسور الألماني شميت في كتاب مهم له بعنوان منجزات النظام السياسي الديمقراطي أن منجزات النظام السياسي لها ثمانية أبعاد هي: المحافظة على النظام، توافر قابلية الانسجام والتكيّف، المشاركة السياسية، الدعم السياسي، العدالة، الرفاهية، الأمن، الحرية.
حين نتأمل النظام السياسي العراقي بعد عام 2003 سنلاحظ افتقاده الشديد للأبعاد أعلاه، وهو ما أدى إلى عدم تمكنه من إنجاز وظائفه وبالتالي دخوله في دائرة الأزمة السياسية الحادة التي تبدو ملامحها واضحة في النقاط الآتية:
• عدم تطبيق مبادئ الدستور الصادر في عام 2005.
• اندلاع النزاع الداخلي الطائفي وخصوصاً في عام 2006-2007.
• تباينات في مفهوم الفدرالية.
• توتر العلاقات مع إقليم كردستان العراق في ما يتعلق بـ: السياسة النفطية وحل مسألة