طبيخ المكادي!
لقد استلبت الموصل وتحولت إلى طبيخ مكادي أيام حكم داعش، حيث اختلط فيها الحابل والنابل، وخلال أربع سنوات عجاف تعفن ذلك الطبيخ وتأملنا بأنه سيقتل أولئك النكرات الذين احتلوها في غفلة من الزمن والأخلاق، لكن تحريرها أصبح لعنة لا تقل عن احتلالها، فها هي مدينة خربة تنتشر فيها الغربان وتتفسخ فيها الجثث، ثم تعرض في المزاد للبيع، ويعود المكادي لكي يلملموا بقايا الطبيخ في مدينة لم تضاهيها حاضرة في ما بين النهرين، عادوا بلبوس جديد وعناوين مختلفة، لكنها في الأصل واحدة، فالإرهاب لا دين له ولا مذهب، كالفساد الذي يجمع كل الحرامية وأبناء السحت الحرام على إناء واحد، والغريب أنهم كما يقولون قدم في الجنة وأخرى في جهنم، يلعبون على كل الحبال والمتناقضات، معظمهم كانوا مع داعش أو جل أقربائهم معهم، واليوم ذات الصورة مع الحكومة والحشد، بل أصبحوا يؤسسون لحشود تحت إمرتهم، ويتولون عملية اعمار ما خربوا!
ليس غلوا أو تجنيا أن أدخل بهذه التشبيهات إلى مطبخ السياسيين وعجقتهم المقرفة في شرقنا الأوسط وتناقضاته المثيرة للاشمئزاز قبل الاستغراب، ورحلة سريعة إلى تحالفات وتجمعات المتناقضين حد الاقتتال تعطينا لوحة ومشهد الحاضر والمستقبل الذي لا يبشر كثيرا بالخير على الأقل في المرئي منه، خاصة في العراق وسوريا، حيث تجتمع وتتحالف وتتعاون وتتآمر معظم الأحزاب والحركات وعرابيها من دول الإقليم وما بعد الإقليم، ففي العراق يجمع النفط كل الحرامية وان اختلفوا في الدين أو المذهب أو السياسة أو العرق، فهم في الآخر يرضعون من ثدي واحد، ويتقاضون أتعابهم أو لصوصياتهم من ذات الأنابيب والآبار، وفي السياسة لا تستغرب أخي القارئ أن يدفع الحشد الشعبي مرتبات فصائل لحزب العمال الكوردستاني القادمين من تركيا وملحقاتهم في سوريا إلى جبل سنجار مثلا، بينما أبواق الدعاية السياسية في بغداد تعمل ليل نهار للدفاع عن سيادة العراق، خاصة وان الأشقاء الأتراك يجولون في السيادة العراقية ويلعبون بها طوبة (كرة) كما يقول الدارج العراقي، دون أن تهتز شعرة وحده من شوارب أو سكسوكات أهل السيادة ووحدة الأراضي!
وفي العراق أيضا يتحالف (الملحدين الكفار) على توصيف الأحزاب الإسلامية للشيوعيين، مع المؤمنين للعظم من أحزاب الدين ومذاهبه، ولا تؤثر فكرة الجنة الموعودة ولا جهنم الكفار على عقيدتهم البروليتارية وماديتها التاريخية، ولا عجب فان الحزب الذي ناضل كل حياته ضد الامبريالية والرأسمالية والأفكار الخيالية يتبوأ اليوم كراسيه في برلمانهم وحكومتهم وتحالفاتهم، وما زلنا في العراق حيث يجتمع الأعداء في تحالفات وراء الكواليس وأحيانا أمامها أيضا، فلا تستحي أمريكا من تعاونها مع ايران في العراق والسماح لها بالتمدد، ولا يخالف شريعة ايران الإلهية والامامية التحالف مع الشيطان الأكبر والتعاون معه في نفس الدولة ومع نفس الأشخاص والأحزاب، ولا تستغرب غدا أن يتحالف الإقليم أيضا ضمن اللعبة السياسية مع من هدد كيانه وشن حربا عليه، أو مع سلفه الذي هدد الإقليم بطائرات F16 !
وفي سوريا الطامة الكبرى، وعليك أخي القارئ أن تفوض أمرك لله وتضبط أعصابك من الضحك أو النواح مما يحصل هناك من تحالفات الضوء والظلام والعدو والصديق، حتى بلغت الأمور بأنك لم تعد تفرق بين النصرة والشبيحة أو بين جيش الإسلام والقوات الديمقراطية جدا، والأغرب في هذا الطبيخ، ذلك التعاون المريح والناعم بين أنقرة ودمشق، وبين دمشق وواشنطون، وبين إيران الشيعية الصفوية وبين تركيا السنية الاخوانية، تعاون حتى العناق بين الأمريكان والروس والأتراك والإيرانيين في باليه تراجيدي كوميدي تضحك له إسرائيل وعصاتها السحرية الخلابة، التي يرقص على حركاتها العديد من الذين يصرعوننا ليل نهار بالعدو الصهيوني الغاشم، وهم يتبادلون معه الأسرى والمقايضات غير المعلنة في لبنان والشقيقة الكبرى ايران التي احتضنت بأخوة إسلامية لدودة كل مجاهدي القاعدة وهيأت لهم مسالك الذهاب والإياب، وفي هذا الإناء الذي ضم مختلف أنواع الأكلات والحركات والأحزاب والحكومات والميليشيات، لا عجب أن ترى إن تنظيم الدولة ( داعش ) استهدف أكثر الدول والأنظمة متانة من الناحية الأمنية واخترق خطوطها وضربها في العمق، بينما يقف عاجز تماما عن الاقتراب من الحدود المقدسة لإيران أو إسرائيل أو كثير من النائمين رغد على ضفاف الخليج، والأكثر مأساوية في هذا المطبخ والطبيخ الدموي، إن المتقاتلين جميعهم لا يعرفون أي شيء عن هذه التحالفات بين من يقاتلهم أو يصالحهم، حتى امتلأت سطلة الشحاذ بأنواع الطبخات، ونتيجة ارتفاع درجات الصراع والحرارة تفسخ الطبيخ وتسمم الشحاذ البائس، وهو بين الحياة والموت والمشتكى لله وحده!