العملية السياسية بعد إنتخابات 2018
______________________________________
كانت هذه الإنتخابات صدمة كبيرة لكثير من الأحزاب السياسية العراقية، وصدمة لبعض الدول المهتمة بالشأن العراقي، حيث غيبت هذه الإنتخابات وجوها كانت تتباهى أنها ستحقق نصرا عظيما، ووأدت أحزابا كانت تتبختر في مرحلة ما قبل الإنتخابات أنها ستحقق نتائج مذهلة، وبعض الأحزاب حققت نتائج كان البعض يراهن على فشلها وربما موتها، ولكن غدت جميع التوقعات غير صحيحة، فمن كان يتوقع أن يحقق السيد مقتدى الصدر هذه النتيجة؟ ومن كان يصدق أن الحزب الديمقراطي الكوردستاني سيكون الأول على مستوى العراق؟، مع أن بعض الجهات السياسية العراقية والكوردستانية كانت تنتظر دفن الحزب الديمقراطي الكوردستاني في مقبرة النسيان، فهذه النتائج غيرت المعادلة، وأرغمت جهات سياسية داخلية وخارجية على التعامل المنطقي مع هذا الواقع الجديد.
وفيما يخص السيد حيدر العبادي فقد فشل الرجل فشلا ذريعا، حيث كان يتباهى بتحرير العراق من داعش، وإنقاذ العراق من الانهيار الاقتصادي، ومحاربة الفساد والفاسدين، وحصر السلاح بيد الدولة، وأهم من ذلك كله حسب زعمه إنقاذ العراق من خطر التقسيم، مع أن تحرير العراق من داعش ما كان ليتحقق لولا قوات البيشمركة الذين حطموا أسطورة داعش، ثم إن الوضع الإقتصادي في أسوأ مراحله، فقد تجاوزت ديون العراق (100) مليار دولار، ثم هناك انتشار للبطالة والفساد، وسيطرة المليشيات المسلحة والنزاعات العشائرية المستمرة، وتقسيم البلد ليس مستبعدا، فالعملية السياسية دخلت في مرحلة حرجة ومعقدة، وخاصة أن قضية التزوير في الإنتخابات الأخيرة تشكل خطرا للعملية السياسية برمتها، فالشعب أدرك حقيقية العبادي أن ما يدعيه ليس صحيحا، بل العكس هو الصحيح، ولهذا أصبح في وضع لا يحسد عليه، ولا ننسى غروره الذي أغرقه فقد وصل في مرحلة من المراحل الى الرجل الذي لا يقهر، والقائد الذي لا يهزم، مع الدعم الدولي المستمر له وخاصة الأمريكي بصورة غير طبيعية، ولو حظي أي سياسي عراقي بهذا الدعم الكبير لحقق إنجازات عظيمة للشعب العراقي، لكنه خيب آمال الجميع.
انتصر السيد مقتدى الصدر في هذه الإنتخابات في تحالفه الذي عرف ب(سائرون) وهو تحالف يتكون من عدة أحزاب سياسية مدنية أبرزها الحزب الشيوعي العراقي، ولعل القاريء يسأل ما سر هذا الإنتصار؟. لا ريب أن مقتدى الصدر شخصية كارزاماتية لكونه ينتمي الى عائلة عراقية دينية عريقة وهي آل الصدر، وقد كان من أشد المقاومين للوجود الأمريكي في العراق، وقد أسس بعد 2003 جيش المهدي، ووقعت معارك بين أتباعه المعروفين بجيش المهدي وبين الجيش الأمريكي، ثم استمرت المعركة الى أن تشكلت الحكومة المؤقتة برئاسة السيد أياد علاوي سنة 2004 لتنقل المعركة الى النجف الأشرف، ثم تم شكيل فرق الموت ضد أهل السنة في مدينة سامراء، وهم لا يزالون في تلك المنطقة باسم سرايا السلام، بقي مقتدى الصدر على هذه السياسة، وفي سنة 2007 أطلق مشروعا وطنيا يدعو فيه الى دولة مدنية عراقية بعيدة عن التدخلات الخارجية، وقد تحدثت بتفصيل في مقالاتي السابقة عن دور مقتدى الصدر ومشاريعه الجديدة بعد تلك السنة، وأبرز ما جاء في هذا المشروع هو الوقوف بقوة ضد التدخل الإيراني، وقد تحدثت معه عندما زرته في النجف عن مشروعه الوطني، وقد طلب منا أي من الحزب الديمقراطي الكوردستاني مساندته في مشروعه لإنقاذ العراق من الطائفية والمحاصصة والفساد وهلم جرا، وقد شهدت بغداد لأول مرة مظاهرات عنيفة لأتباعه وهي تردد(ايران برة برة بغداد حرة حرة) وقد كان لهذا الشعار تأثير بالغ في الشارع العراقي، كان هذا نقطة تحول بعد خمس عشرة سنة من تاريخ العملية السياسية العراقية الديمقراطية، وهذه النقطة تعد أهم الأسباب التي جعلته يحقق هذا الفوز الكبير في الإنتخابات الأخيرة، وهناك جملة من العوامل لكن ما ذكرته تعد أهما، بعد تحقيق هذا الفوز بدأ يغرد تغريدات قوية كانت أشبه بتغريدات دونالد ترامب في قوتها وغرابتها واتباعها أسلوب السجع البلاغي، حيث كان يتباهى بهذا الفوز، ويعد العراقيين بحكومة مدنية أبوية، ضد الطائفية والمليشيات الوقحة والفساد والفاسدين، لكن ذلك لم يتحقق ولن يتحقق، فهناك قوى لها تأثيرها في العراق، فدورها معروف وتأثيراتها معروفة في كل ما يجري في العراق، فبين ليلة وضحاها تحالف الصدر مع الفتح لهادي العامري، مع أن هذا التحالف فرضت عليه ايران فرضا، أي وافق عليه الصدر ترهيبا لا ترغيبا، مع ضمانات ايرانية بعدم ترشيح أي شخصية ينتمي الى حزب الدعوة، وعليه، فإن هذا التحالف خيب آمال العراقيين من التيارات المدنية والوطنية والطبقة المثقفة التي كانت تعول على مقتدى الصدر كثيرا، ثم يأتي الساسة الصدريون فيبررون هذا التحالف بأنه أنقذ العراق من حرب أهلية، وهذه رسالة واضحة بأن هذا التحالف تم تشكيله بمنطق القوة وليس بقوة المنطق، لأنه بكل تأكيد تحالف غير منطقي بين توجهات متناقضة قلبا وقالبا.
والغريب أن هذا التحالف يدعو القوى العراقية جميعها للدخول فيه، وكأنه دعوة للعودة الى تقسيم الكعكة، والحقيقة أنه لن تكون الدولة قوية إن لم تكن هناك معارضة وطنية حقيقية، ولأنك الجميع حول السلطة ولا أحد حول الوطن، فستبقى الدولة ضعيفة هشة لن تحقق آمال المواطن العراقي.
تشكيل التحالفات مستمر، والتشكيك في نتائج الإنتخابات مستمر، ومجلس النواب في عقد جلساته مستمر، فهناك من أعلن فوزه لتشكيل الكتلة الأكبر، وهناك من ينتظر نتائج الإنتخابات بعد فشل النظام الألكتروني، وهناك من يريد إعادة إجراء الإنتخابات مع إنتخابات مجالس المحافظات، والعملية السياسية في مرحلة خطيرة، حيث يفصل بيننا وبين انتهاء الدورة الحالية لمجلس النواب العراقي أيام معدودة، والبلد سيدخل في فراغ دستوري، ولا بد من حل قبل تعرض البلد لتغييرات غير متوقعة، وفي خضم هذه الصراعات وقفت المحكمة الإتحادية موقف المتفرج، وأستغرب سرعة تدخلها في إستفتاء كوردستان - مع كون الإستفتاء كانت عملية ديمقراطية حضارية مائة بالمائة - وصمتها المريب في مصير البلد وهو مهدد بالإنهيار، وقد أدرك العبادي خطورة الوضع حيث دعا الى عقد جلسة بعد العيد لمناقشة الوضع المتأزم، وخاصة أن البلد سيدخل في فراغ دستوري لأول مرة، وهناك جملة مقترحات يمكن مناقشتها، أولا مناقشة تمديد عمر البرلمان لفترة ليست بالطويلة كما حصل في لبنان، وهذا يخالف الدستور جملة وتفصيلا، وتحتاج هذه العملية الى تعديل الدستور، وتعديل الدستور بحاجة الى إستفتاء شعبي، وهذا غير ممكن لأن الوقت غير كاف، والمقترح الثاني، إعادة إجراء الإنتخابات مع إنتخابات مجالس المحافظات، وهذا يحتاج الى قرار من المحكمة الإتحادية، بعد النظر في عمل المفوضية وطعوناتها في جلسات مجلس النواب العراقي، ففي 9-6-2018 طعنت المفوضية المستقلة للإنتخابات أمام المحكمة الإتحادية في التعديل الثالث لقانون إنتخابات مجلس النواب رقم(45) لسنة 2013 الذي أصدره مجلس النواب في 6-6-2018، وهي طعونات تتكون من (11) فقرة، ولم تصدر المحكمة أي شيء بل أكدت أن المفوضية قد طعنت، ولم تصدر أي أمر ولائي بإيقاف العمل بهذا التعديل، ولم تصدر المحكمة أي شيء بخصوص عمل مجلس القضاء الأعلى الذي حل محل المفوضية بقرار خاطيء من قبل مجلس النواب العراقي، وهو قرار مخالف للدستور والنظام الداخلي وكذلك مخالف لقانون المفوضية العليا المستقلة للإنتخابات، ففي المادة (4) الفقرة خامسا من قانون المفوضية العليا المستقلة للإنتخابات رقم(11) لسنة (2007) تمارس المفوضية الصلاحيات التالية( البت في الشكاوى والطعون الإنتخابية كافة، وتكون قرارتها قابلة للطعن أمام هيئة قضائية تمييزية مختصة)، فلا يحق للبرلمان إلغاء أصوات الناخبين، لأن التصويت حقهم دستوري، وهم الذين أعطوا الشرعية للبرلمان، فكيف يمكن للبرلمان أن يلغي صوت من أعطاه الشرعية، ثم إن البرلمان لا يحق له أن يجمد عمل المفوضية قبل الإستجواب، ينبغي على البرلمان أن يستجوب المفوضية ثم إن وجد شكوكا في عملها يمكن وقتذ اللجوء حتى الى سحب الثقة وليس التجميد وفق المادة الدستورية (61) الفقرة(هـ).
والمقترح الأخير الوصول الى تفاهم وتوافق سياسي بين الأطراف الفائزة للخروج من هذا المأزق لتكشيل الكتلة الأكبر، ووقتذ على المحكمة الإتحادية رفض قرارات مجلس النواب العراقي جميعها والتي خلقت أزمة حقيقية في العملية السياسية، ففي البلدان المتطورة نجد البرلمان مكانا لحلحلة المشاكل إلا في العراق فالبرلمان أس المشاكل، وقد رأينا في مجلس النواب العراقي العجب العجاب خلال هذه الأربع سنوات، ولو قمت بنقد جلسات البرلمان بعد الإنتخابات الأخيرة لخرجت عن الموضوع، لكن يجب الإشارة الى عدة نقاط مهمة: ليس من صلاحية البرلمان إصدار القرارات، وقد جاء ذلك بقرار من المحكمة الإتحادية، فكيف إذا كان القرار خارج نطاق صلاحيته، هذا أولا، ثانيا: ليس من صلاحية البرلمان التدخل في شؤون القضاء، وهو مخالف للمادة الدستورية(87-88) التي تقول( ولا يجوز لأي سلطة التدخل في القضاء أو شؤون العدالة)، ثم كيف يمكن أن يطلب من مجلس القضاء الأعلى أن يحل محل المفوضية المستقلة للإنتخابات؟ وكان على المحكمة الإتحادية إصدار أمر ولائي بإيقاف التعديل الثالث لقانون الإنتخابات رقم (45) لسنة 2013، ولكنها لم تفعل لضغوطات سياسية وصفقة سياسية بين هيئة رئاسة البرلمان والحكومة، بل أقول بصراحة بين العبادي وسليم الجبوري، ثالثا: هيئة رئاسة البرلمان ومعها الذين لم يفوزوا في الإنتخابات الأخيرة أصروا بقوة على تغيير المفوضية القديمة، وخاصة بعض الأحزاب الكوردستانية شاركت في هذا القرار لأنها لا ممثل لها في المفوضية، ولأن رئيسها من الحزب الديمقراطي الكوردستاني، وكان لنا ممثل في المفوضية الجديدة، ولكن استغلوا عدم وجودنا في بغداد حيث قاطعنا جلسات مجلس النواب العراقي بسبب قراراته السياسية المجحفة ضد شعب كوردستان بسبب الإستفتاء، فاستبدلوه بممثل آخر ينتمي الى حركة التغيير، فالأحزاب الكوردستانية المعارضة للإستفتاء كانت في بغداد تبحث عن المناصب بدل المشاركة في مناسبة وطنية تاريخية عظيمة، فمع كوننا لا نملك ممثلا في المفوضية وحققنا فوزا كبيرا، وجميع الأحزاب الرئيسة كان لها ممثل، بل إن رئيس المفوضية كان من جماعة سليم الجبوري لكنه لم يفز بمقعد في البرلمان، رابعا: من حق مجلس النواب العراقي عقد جلساته الى 30-6، ولكن المشكلة أن النصاب لم يكن متحققا، فحققوه مرة بشتى السبل ومختلف الحيل والأساليب مع تشكيكنا في النصاب، فأبقت هيئة الرئاسة جلسات مجلس النواب مفتوحة حتى لا تحتاج الى تحقيق النصاب مرة أخرى، أي أن الجلسة الأولى كانت في 28-5، وبقيت مفتوحة الى يوم 6-6 وهو يوم التصويت على التعديل الثالث، ومعلوم أنه لا يمكن الإبقاء على هذه الحالة، فلا بد من عقد جلسة جديدة لمناقشة موضوع جديد، ولذلك تأتي المخالفة في كون تلك الجلسات بقيت مفتوحة، وتم التوصيت على التعديل الثالث على قانون الإنتخابات، ثم حدثت مخالفات عديدة، منها أن الجلسة كانت مكملة للجلسات الأخرى، فالتصويت بحاجة الى جلسة جديدة، هذا أولا: ثانيا، لم يتم توزيع تعديل القانون على السادة النواب، ثالثا: لا يمكن التصويت على شيء لا يعرف مضمونه، رابعا: لا يمكن إضافة فقرات جديدة أثناء التصويت، فبعض نواب الكتل الكوردستانية المعارضة أضافت فقرة جديدة أثناء التصويت وهي إلغاء التصويت الخاص، خامسا: لم يسمح لأحد بالإعتراض ولا بنقطة النظام، بل كانت هيئة الرئاسة على عجلة من أمرها لكي تعبر القانون قبل انتهاء المدة، بدليل أنه أضافوا في المادة (8) من التعديل الثالث فقرة (ينفذ هذا القانون من تاريخ التصويت عليه) وذلك حتى لا يحتاج الى مصادقة رئاسة الجمهورية، لأنه سيتم رده، وهذا يحتاج الى (15) يوما، وإن كان أي قانون يشرع من قبل مجلس النواب لا يحق لرئاسة الجمهورية رفضه، - وهذه من الأخطاء الكارثية التي تقضي على التوافق السياسي في البلد- فجميع القوانين تصبح نافذة بعد (15) وإن لم توافق رئاسة الجمهورية، ومن هنا تظهر هشاشة هذا المنصب الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، سادسا: هل طلبت هيئة رئاسة البرلمان موافقة الحكومة على هذا التعديل، أي تغيير النظام الألكتروني - الذي كلف الحكومة مئات الملايين من الدولارات- الى نظام الفرز اليدوي الذي فيه جنبة مالية ستكلف الحكومة نصف المبلغ الذي صرف في النظام الألكتروني، بكل تأكيد لم تطلب لأن الوقت لا يسمح فهو إجراء يتطلب وقتا، وإن كانت السيد العبادي موافقا لأنه كان ثمة تنسيق بين الجهتين، والحقيقية أنه مع جميع هذه المخالفات والطعون المقدمة ضد مجلس النواب بقيت المحكمة الإتحادية في صمت مريب، وهذا ما دفع مجلس النواب لإتخاذ قرارات سياسية مجحفة بحق العملية السياسية، ولهذا نحن في كتلتنا قاطعنا جلسات مجلس النواب، لأننا لسنا مستعدين أن نشارك في أخطاء مجلس النواب التاريخية الكارثية، سابعا: هذه المفوضية لم تكن موفقة، والسبب أنها تشكلت بسرعة ولم تتدرب ولم تتعلم بما يكفى، والسبب في عدم توفيقها هو قرار البرلمان العراقي المتسرع بتشكيلها، ولهذا حصلت خروقات وتزوير، ولكن ليس بهذه الصورة المبالغ فيها، ثامنا: النظام الألكتروني كان فاشلا بمعنى الكلمة، ولهذا تم رفضه في كوردستان للإنتخابات القادمة خوفا من الفوضى والخلل والتزوير، تاسعا: نحن في كتلة الحزب الديمقراطي الكوردستاني لا نخشى من العد والفرز اليدوي ولا من إعادة الإنتخابات، فنحن نملك جماهير وطنية تصوت عن قناعة، بل نقول حصل ظلم كبير بحق أصواتنا في كثير من المناطق كالموصل وبالأخص في سنجار، ولو كانت هناك دقة ونزاهة حقيقية في الإنتخابات ورقابة قوية لكانت مقاعدنا أكثر، ويتحمل مجلس النواب العراقي مسؤولية هذه الفوضى التي خلقها في التسرع في تشكيل هذه المفوضية ليس من أجل مصلحة البلد والعملية الديمقراطية بل من أجل تحقيق مصالح بعض الأحزاب والشخصيات، والتي في النهاية أخفقت وفشلت ووقعت في حرج كبير. عاشرا: الذين وقفوا ضد الإستفتاء من الأحزاب الكوردستانية هي نفسها اليوم طالبت بإلغاء التصويت الخاص، وهذه جريمة نكراء بحق البيشمركة الذين دافعوا عن كوردستان بأرواحهم، ولو كانوا صادقين في دعواهم، ويملكون أدنى جرأة لطالبوا بإلغاء التصويت الخاص للقوات العراقية، ولكن لأن الهدف الرئيس لهذه الجماعات الوقوف ضد مطالب شعب كوردستان، كما وقفوا ضد الإستفتاء وقوت الشعب والموازنة واتهام البيشمركة بالمليشيات في حرب داعش وما الى ذلك من المواقف المؤسفة التي لا ينساها التاريخ.
وقد كانت هيئة الرئاسة ومعها النواب الذين خسروا مقاعدهم على قناعة أن مثل هذه القرارت خاطئة، ولكن كان هدفهم إدخال البلد في مأزق وفوضى، وكذلك إدخال البلد في فراغ دستوري، وهذا ما يريده البعض وخاصة العبادي، لكي تضطر المحكمة الإتحادية الى اتخاذ قرار يصب في مصلحتهم، وأتصور أن سبب صمت المحكمة يرتد الى مراقبة الوضع سياسيا وليس قانونيا، حتى تصل الى قناعة ثم تقرر سياسيا وليس قانونيا، ولا ننسى الضغوطات السياسية داخليا وخارجيا على المحكمة، ويبدو أن الحوار الذي سيجري بعد العيد بدعوة من العبادي سيغير من قناعة المحكمة الإتحادية.
إننا نعيش في بلد لا أحد يحمل هم الوطن، بل الجميع يحمل هم السلطة، فكثير من الأحزاب والشخصيات مستعدة لإحراق البلد في سبيل تحقيق مصالحها الحزبية والشخصية، وقد رأينا ماذا فعل الخاسرون في الإنتخابات الأخيرة، وخاصة هيئة رئاسة البرلمان حيث حولوا أرقى وأعلى مؤسسة تشريعية الى وسيلة لتحقيق مآربهم الحزبية والشخصية، وهم مستعدون لإشعال فتنة طائفية أو حرب أهلية إن لم يحصلوا على مقاعد لهم في البرلمان العراقي، والصفقات السياسية التجارية مستمرة لمن يتنازل ولمن يحصل على مقعد في البرلمان، وهي مهزلة حقيقية ستدفع البلد الى الهاوية والسفول والحضيض، والحقيقية التي لا مجمجة فيها أن الحديث عن تشكيل دولة قوية بات طيفا من خيال، فلن نملك دولة قوية، وسينتشر الفساد أكثر ويقوى الفاسدون، وستقوى المليشيات الوقحة، وستستمر النزاعات العشائرية، وستترسخ التدخلات الإقليمية، فالنخبة السياسية ملح البلد، فمن يصلح الملح إذا الملح فسد؟.
لقد كان الرئيس بارزانى على دراية وعلم وإدراك أن العملية السياسية قد غيرت مسارها الصحيح، وهي تمشي في اتجاه خاطيء وخطير، لذلك دعا القادة السياسيين الى حوار جدي لتصحيح مسارها، ولكن دون جدوى، وتصوروا أن هذه الدعوة هي لأهداف سياسية وحزبية، وما من يوم إلا والذي بعده أسوأ، وجعلوا دعوة البارزاني وراءهم ظهريا، فبدأت العملية السياسية تدخل في نفق مظلم، لأنه لا يستقيم الظل والعود أعوج، فالعملية السياسية أصبحت عرجاء لأنها في البداية غيرت مسارها وطريقها، فلا يمكن أن تستقيم إلا بالعودة الى ما انطلقنا منها بعد سقوط النظام سنة 2003، فظهرت داعش وحل محلها ماعش، وساد الفاسدون، وسيطر على مقاليد الأمور الطائفيون، وتحول مجلس النواب الى ناد للصفقات السياسية والإستهدافات الشخصية والمهاترات والمزايدات، ففقد المجلس هيبته وشوه سمعته، وأصبح ألعوبة بيد شرذمة قليلة تحقق مآربها السياسية والشخصية بواسطته، فالولاء للحزب والطائفة والقومية والدول والشخصيات حل محل الولاء للوطن، وعندما يتضعضع الولاء للوطن، ويتزعزع الإنتماء إليه، يصبح البلد مرتعا لكل من هب ودب، فلا يبقى أمل للمواطن للعيش فيه، بل يتمنى الخروج منه الى أقاصي الدنيا عله يجد راحة واستقرار وأملا فيما تبقى من عمره، وعندما لم يجد البارزاني أملا في الإصلاح للعملية السياسية، ووجد الدستور يتم خرقه ليل نهار، وتحولت جميع مؤسسات الدولة الى مؤسسات حزبية طائفية لمعاداة شعب كوردستان، وما أكثر الأمثلة على ذلك لا مجال لذكرها، اقترح البارزاني على الأحزاب الكوردستانية اجتماعا لكي يعلنوا موقفهم مما يجري في العراق والبحث عن بديل، فاتفقت أغلبية الأحزاب الكوردستانية على تحديد يوم لإجراء الإستفتاء في 25-9-2017، وكان من المقرر إجراء هذا الإستفتاء في 2014 لولا ظهور داعش.
إن أفضل عمل قام به البارزاني لشعبه هو إجراء هذا الإستفتاء، فقد شبهته شخصيا بشهادة جامعية يحصل عليها الطالب، متى أراد أن يتعين يظهرها على أي مؤسسة يريد العمل فيها، فمنذ مائة عام ونحن لم نستطع أن نعلن عن رغبتنا، بل كنا نخير بين أمرين أحلاهما مر، ولكن هذه المرة تحققت هذه الرغبة في النهاية، ولم نجر هذا الإستفتاء إلا بعد أن وصلنا مع العراق الى مرحلة اليأس، ومرحلة صعوبة العيش في هذا البلد في ظل طغيان ثقافة الكراهية والضغينة والحقد والبغض والعداء، وقد طالبنا بمقاطعة الإنتخابات النيابية الأخيرة، أو المشاركة في قائمة كوردستانية موحدة، لكن الأحزاب الكوردستانية المعارضة- التي همها المناصب – لم توافق، فشاركنا وحدنا، وقاطعنا إنتخابات كركوك لكونها محتلة، ومع ذلك حصدنا أكثر المقاعد في مجلس النواب العراقي، بالرغم من هذا الإنتصار الكبير الذي حققناه، نطالب الأحزاب الكوردستانية الى حوار جدي لوضع برنامج مهم للحوار مع بغداد لكي نستطيع الحصول على مكتسبات أكثر لشعبنا، وإعادة التوزان والتوافق السياسي، ولكن يبدو أنها لا تريد هذا الحوار بل تريد التشكيك بنتائج الإنتخابات، وهذا الرفض دليل فشلها وإفلاسها السياسي، ولكي نساعد شعبنا الذي عانى كثيرا من سياسة بغداد المجحفة بحق كوردستان، فالأولى الإسراع في تشكيل وفد كوردستاني سياسي رفيع يفتح أبوابه لمن يريد الإنضمام إليه للذهاب الى بغداد لكي نساهم في تشكيل الحكومة المقبلة، ولندع قضية التزوير والتشكيك في نتائج الإنتخابات والفرز اليدوي للقضاء العراقي حتى نحصل على نتيجة نهائية، فالعمل السياسي لا بد أن يستمر حتى لا نقع في فراغ دستوري، وهي مرحلة خطيرة ستدفع البلد الى الهاوية، وإخال أن هذه المرة ستكون الأخيرة في معرفة مصيرنا مع العراق إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
د.عرفات كرم مصطفى
رئيس كتلة الحزب الديمقراطي الكوردستاني في مجلس النواب العراقي
18-6-2018