ما بعد حل الدولتين
عشية إقدام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على إصدار قرار بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، طرح معهد واشنطن للشرق الأدنى رؤية جديدة لحل القضية الفلسطينية والصراع العربي - الإسرائيلي أطلق عليها " الحلّ الإقليمي" وتقوم هذه الرؤية التي قدّمها أحد كبار منظّري المعهد "روس وماكوفسكي" على مسارين: الأول- فلسطيني- "إسرائيلي" والثاني عربي- "إسرائيلي" بهدف تطبيع العلاقات الفلسطينية - "الإسرائيلية" والعربية- الإسرائيلية"وذلك مقدمة لانسحاب "إسرائيل" من أراضي فلسطينية وعربية (وليس بالضرورة من الأراضي العربية والفلسطينية التي احتلها العام 1967 في عدوان 5 يونيو /حزيران).وتقترب هذه الخطة من أطروحة نتنياهو التي عرضها خلال زيارته للولايات المتحدة في 18 سبتمبر/أيلول 2017.
وتحاول واشنطن تكييف هذه الرؤية مع مبادرة السلام العربية العام 2002 المعروفة باسم "مبادرة بيروت" للوصول إلى "صفقة القرن" حسب ترامب والتي تقود إلى "الحل الشامل"، ولكن وفقاً للرؤية "الإسرائيلية"- الأمريكية وللتفسيرات والتأويلات التي تستجيب لها.
وبعد أكثر من ربع قرن من المفاوضات الماراتونية، فما الذي تبقّى من خيار مدريد - أوسلو (1991-1993) وهل تصلح "الرعاية الأمريكية" في ظلّ الانحياز الصارخ للجانب "الإسرائيلي"؟ وأين نحن من أطروحات "حل الدولتين" التي تبنّاه الرؤساء بيل كلينتون في آخر عهده وجورج دبليو بوش وباراك أوباما الذي بشّر به في بداية ولايته الأولى (مطلع العام 2009)؟ ثم ماذا يعني "الحل الإقليمي" الذي هو أدنى بكثير حتى من خيار أوسلو الذي لا يلبّي مطالب الحد الأدنى؟
لقد تناوب على العملية التفاوضية أربعة رؤساء أمريكيين وخامسهم هو الرئيس ترامب، وهي المفاوضات التي انطلقت في مؤتمر مدريد (30 اكتوبر/تشرين الأول/1991)، ووصلت إلى طريق مسدود في العام 1999 لعدم انطلاق "مفاوضات الحلّ النهائي" الذي رفضته " إسرائيل" والذي أدى إلى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في 28 سبتمبر/أيلول العام 2002، خصوصاً وإن القضايا الأساسية ظلّت معلّقة مثل: إقامة الدولة، اعتبار القدس عاصمتها، تأكيد حق العودة والتعويض، تحديد الحدود، حلّ مشكلة المياه... الخ.
والرؤساء الذين تناوبوا على المفاوضات هم بوش الأب وكلينتون وبوش الابن وأوباما وأخيراً ترامب، ولم تستطع تلك المفاوضات التوصّل إلى أي حلّ مقبول مرضي في إقامة سلام متوازن بمرجعية دولية أساسها قواعد القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن الدولي، وخصوصاً القرار 242 لعام 1967 والقرار 338 لعام 1973 والقرار 478 بشأن عدم شرعية ضمّ القدس العام 1980.
إن ما يميّز إدارة ترامب عن الإدارات السابقة هو تخلّيها عن مشروع "حلّ الدولتين" والبحث في "حلّ إقليمي" يتراوح بين "مشروع الحكم الذاتي" (الموسع) و"الكونفدرالية" المرتبطة بالأردن، مع الحفاظ على الهيمنة "الإسرائيلية" على كامل الأراضي الفلسطينية غرب النهر. علماً بأن الإدارة الأمريكية انحازت إلى مطالب نتنياهو بالإبقاء على الاحتلال " الإسرائيلي" لمنطقة الغور واعتبار الحدود الأردنية - الفلسطينية هي الحدود الآمنة لدولة " إسرائيل".
والمسألة الأكثر خطورة في موضوع المفاوضات "المنشودة" تتعلّق بالاستيطان الذي لا تعتبره الإدارة الأمريكية عقبة أمام المفاوضات، وهذا يعني إن الكتل الاستيطانية سيتم ضمها لدولة " إسرائيل" في أي حلّ، لأن إدارة ترامب لا تجد تعارضاً بينها وبين المستوطنات في القدس،علماً بأن تقرير المبعوث ميشيل في عهد الرئيس كلينتون كان قد أكّد أن البؤر الاستيطانية وعددها حوالي 240 بؤرة هي "غير شرعية" ويجب تفكيكها.
واستناداً إلى تمادي واشنطن في غضّ النظر عن الاستيطان أقدم الكنيست الإسرائيلي على إصدار قانون مؤخراً سمّي "تبييض المستوطنات" سيؤدي تطبيقه فعلياً إلى قضم القدس الشرقية، وذلك دون اكتراث لقرار مجلس الأمن الدولي الذي أدان الاستيطان وهو القرار 2234 الصادر في 23 ديسمبر/كانون الأول 2016 وفي ظل إدارة أوباما حيث لم تستخدم واشنطن "حق الفيتو" لمنع صدور هذا القرار. وهناك دعوات عربية من شخصيات مرموقة تطالب الأمم المتحدة اعتبار صدور هذا القرار بمثابة إخطار عالمي جديد بكون الاستيطان جريمة دولية لا بدّ من وقفها وتحديد يوم 2 نوفمبر/تشرين الثاني يوماً عالمياً لمناهضة الاستيطان .
وكان المبعوث الأمريكي غرينبلات قد أبلغ الجانب الفلسطيني الشروط الأمريكية التسعة لاستئناف المفاوضات وهي ليست سوى مطالب " إسرائيلية" غير مشروعة، وإذا ما بدأت المفاوضات المزعومة فإنها سوف لا تنتهي، بل ستستغرق بالتفاصيل وتفاصيل التفاصيل في حين تمضي " إسرائيل" باستكمال مخططها لقضم الأراضي الفلسطينية و"تهويد القدس".
وتضغط إدارة ترامب على تطبيع العلاقات العربية-"الإسرائيلية" وتستبعد إدراج موضوع الاستيطان بل إنها تطالب العرب والفلسطينيين بوقف التحريض ضد " إسرائيل" ودفع تهمة الإرهاب عنها ومطالبة السلطة الفلسطينية بالامتناع عن دفع رواتب الشهداء والأسرى الفلسطينيين.
إن اتفاق أوسلو ونهج المفاوضات السابق لا يوفران أرضية مناسبة للتوصّل إلى حلّ يضمن حقوق الشعب العربي الفلسطيني وفي مقدمتها حق تقرير المصير ولو بمعيار الحد الأدنى. وقد كشف اختبار القدس فشل الرهانات المعلنة والمستترة التي ستصطدم جميعها بالتوحش "الإسرائيلي" والغطاء الأمريكي.