دوافع قرار ترامب
" تمنّتْ كل حكومة "إسرائيلية" منذ تأسيسها أن تعترف الولايات المتحدة أن القدس عاصمتها، لكن جميع الإدارات الأمريكية امتنعت عن فعل ذلك، قائلة: إن الاعتراف يجب أن يأتي فقط في أعقاب اتفاق سلام نهائي بين الإسرائيليين والفلسطينيين..." هذا ما كتبه الصحافي الأمريكي المعروف توماس فريدمان في صحيفة نيويورك تايمز، فما هي دوافع الرئيس ترامب الحقيقية؟
لا يكفي القول أن الموقف الأمريكي التقليدي منحازٌ لصالح "إسرائيل" في صراعها ضد العرب والفلسطينيين فهو أمرٌ معروف. ولم يعد مقبولاً الحديث عن نفوذ " اللوبي الصهيوني" في الولايات المتحدة وهو ليس جديداً، وليس "مبرراً" الحديث عن الضعف العربي وتشتت المواقف والانشغال بهموم ومشاكل ونزاعات وحروب داخلية وإقليمية وهو حقيقة قائمة وماثلة للعيان. كما أن "الإجماع" عند الحزبيين المتناوبين على الرئاسة الأمريكية (الجمهوري والديمقراطي) عندما يتعلق الأمر "باسرائيل"، قديم قِدم الدعم الأمريكي لها منذ قيامها في 15 مايو (أيار) العام 1948، وذلك لأن التعامل معها يتم وكأنه "قضية داخلية" وليست قضية دولية معقدة ولها امتدادها الإقليمية وهي تتعلق بشعب آخر مهضوم الحقوق.
وكلّ تلك العوامل كانت موجودة في عهود الرؤساء الثلاثة السابقين بيل كلينتون وجورج دبليو بوش الابن وباراك أوباما، لكنهم جميعهم لم يتخذوا مثل هذه الخطوة وبهذا القدر من الاستفزاز والاستخفاف بالعرب والمسلمين بشكل عام، علماً بأن الكونغرس كان قد قرّر في العام 1995 نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وأوصى الرئيس بتنفيذ قراره، فلماذا لم يتجرأ أياً منهم على ذلك؟.
فلماذا إذاً أقدم الرئيس الأمريكي ترامب على خطوته الاستفزازية ضد الفلسطينيين والعرب والمسلمين، بل ضد جميع أتباع الديانات الذين يحترمون "الأماكن المقدسة" ويراعون حرمتها؟ أتراه مندفعاً ومتهوراً أكثر من غيره أم مرغماً على سلوك هذا السبيل؟ علماً بأن جميع الرؤساء الذين سبقوه كان يؤجلون اتخاذ مثل هذا القرار كل ستة أشهر، حتى تنتهي ولاياتهم على الرغم من وعودهم الانتخابية. ما الذي قصده ترامب بذلك وفي هذه الظروف بالذات؟ أيتعلّق الأمر بمصالح الولايات المتحدة أم لاعتبارات شخصية خاصة به؟
وهنا لا ينبغي أن ننسى الدوافع الشخصية، تلك المتصلة بالسياسة الداخلية التي أملت على " الدونالد ترامب" اتخاذ هذا القرار، الذي يعتقد أنه سيدخله التاريخ من أوسع أبوابه، لاسيّما بالنسبة "لإسرائيل" والحركة الصهيونية، وكان قد تباهى بذلك في تغريدة له على تويتر، بأنه "أوفى بوعده" بينما لم يفعل ذلك سواه من الرؤساء السابقين.
ثمة سبب آخر هو أن إدارة ترامب بعد مضي عام تقريباً على وجودها في البيت الأبيض، لم تحرز شيئاً يُذكر على سبيل المنجز الداخلي أو الخارجي، باستثناء التوصل إلى تعديل السياسة الضريبية، في حين ظلّت السياسة الخارجية تثير الكثير من الريبة والشكوك، لاسيّما تراجع واشنطن عن العديد من التزاماتها الدولية وانسحابها من اتفاقية التجارة حول المحيط الهادي واتفاقية المناخ ومن منظمة اليونسكو والتشدّد بالملف النووي لإيران والاتفاق المبرم معها والتصعيد الخطير مع كوريا الشمالية،إضافة إلى محاولاتها المتزمّتة داخل منظمة التجارة العالمية .
ليس هذا فحسب، بل إن هناك من يقول إن ترامب يريد إحداث نوع الانقلاب في نظام العلاقات الدولية، خصوصاً باتباعه دبلوماسية مستفزة في إطار نظرة انفرادية واستعلائية على العالم متخطّياً قواعد القانون الدولي المعترف بها وميثاق الأمم المتحدة.
أدرك الرؤساء الذين تعاقبوا على إدارة البيت الأبيض أن ثمة محاذير تحول دون اتخاذهم مثل تلك الخطوة، لأنها ستكون عاملاً إضافياً معرقلاً لتحقيق التسوية السلمية ، حتى وإن كانت على الطريقة الأمريكية المنحازة، خصوصاً وإن فكرة "حلّ الدولتين" كانت قد بدأت تأخذ طريقها إلى الإعلام والسياسة الأمريكيتين، وإنْ كانت بتردّد أحياناً أو فتور أو حتى دون قناعة كافية، إرضاءً للوّبي الصهيوني وممالأة لسياسات الاستيطان ونهج "تهويد القدس" الذي سارت عليه " إسرائيل" منذ احتلالها قبل خمسة عقود من الزمان ( العام 1967)، علماً بأن وزير الخارجية ريكس تيلرسون والدفاع جيمس ماتيس أبديا تحفظهما وحذرهما من ردود الأفعال مثلما فعل أسلافهم من الرؤساء والمسؤولين في الإدارات السابقة.
فلم يكن قرار ترامب حول القدس ومكانتها المقدسة والرمزية الدينية تجاوزاً على مشاعر العرب والمسلمين فحسب ، بل كان تجاوزاً على مشاعر مئات الملايين من المسيحيين ونداءات البابا وقرارات الفاتيكان، والأخطر من ذلك إنه تنكّر لالتزامات واشنطن الراعية لاتفاقية أوسلو لعام 1993وعملية السلام "الإسرائيلي" - الفلسطيني التي لم تكن سوى التمهيد لترويض تدريجي لقبول المنطق "الإسرائيلي".
وكان الكنيست "الإسرائيلي" قد أصدر قراراً بضم القدس رسمياً العام 1980 باعتبارها "عاصمة أبدية لدولة "إسرائيل" متجاهلاً قواعد القانون الدولي واتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 وملحقيها بروتوكولي جنيف لعام 1977، إضافة إلى طائفة من القرارات الدولية زادت على 13 قراراً كلّها تدعو "إسرائيل" للانسحاب من الأراضي العربية المحتلة بما فيها القدس، وخصوصاً قراري مجلس الأمن الدولي رقم 242 لعام 1967 و338 لعام 1973.
جدير بالذكر أن العالمين العربي والإسلامي كانا حتى "وعد ترامب" ينظران إلى واشنطن كوسيط وراع للمفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية، على الرغم من انحيازاتها المعلومة لصالح "إسرائيل"، سواء خلال حكم الجمهوريين أو الديمقراطيين.ويبقى السؤال ملحاً لماذا إذاً أراد صبّ المزيد من الزيت على النار؟
قد تكون سياسة "الصدمة" التي اتبعها ترامب منذ وصوله إلى دست الحكم ولحدّ الآن وراء خطوته بشأن القدس، وقد يكون أحد مبرّراته أنه يريد تنفيذ وعوده الانتخابية وقد مرّ عام على انتخابه (نوفمبر/تشرين الثاني/2016)، لكن هذا المبرّر ليس كافياً، فالرؤساء السابقون له كانوا قد وعدوا ناخبيهم هم الآخرون، إلّا أنهم أجلّوا تنفيذ ذلك مراعاة لردود الفعل العربية والإسلامية.
وقد يكون المأزق الداخلي، ولاسيّما موضوع "شبح التداخل الروسي" أو فضيحة "روسيا غيت" هو الدافع وراء اتخاذ هذه الخطوة ونقل المعركة من الداخل إلى الخارج، وهو أمر يتعلّق بمستقبله السياسي، خصوصاً بعد الاتهام المباشر لمستشاره في الأمن القومي مايكل فلين وصهره غاريد كوشنير، والملف لم يغلق حتى الآن، بل يزداد توسعاً. ولذلك فإن توقيت الاعتراف قد يكون مرتبطاً بتحركات المحقق روبرت مولر ، وبهذه الحالة فقد كان بحاجة ماسّة وكبيرة لدعم إعلامي من اللوبي الصهيوني، وهي حاجة مشتركة له ولـ اللوبي الصهيوني فبقدر خدماته للرئيس ترامب، فإنه يريد خدمة منه في قراره بنقل السفارة الأمريكية .
ويمكن القول أن "صفقة التخادم" هذه تم تبادلها بين الإثنين، فترامب استخدمها إعلامياً ضد الاتهامات الموجهة إليه على خلفية " التداخل الروسي"، واللوبي الصهيوني انتهزها فرصة لدعم " إسرائيل" بقرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس. وقد لعب الفريق المحيط بالرئيس ترامب ابتداءً صهره كوشنير وجيسون غرينبلات مستشاره للشؤون "الإسرائيلية" والسفير الأمريكي في تل أبيب ديفيد فريدمان دوراً مهماً في ذلك.
وكان "التخادم" وراء عامل آخر هو بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء "الإسرائيلي، الذي فاحت روائح تورّطه بفضائح كبرى مؤخراً، حيث توجهت الأنظار بعد "وعد ترامب" إلى "القرار التاريخي الذي حصلت عليه تل أبيب" في عهده، مثلما انشغل الرأي العام الأمريكي عن موضوع "الاختراق الروسي" بردود الفعل العالمية على قرار ترامب، وبهذا المعنى، فالتخادم كان صفقة لحماية ترامب مثلما هي لحماية نتنياهو، وبكل الأحوال كان الضحية الشعب الفلسطيني والعدالة الدولية وحقوق الإنسان.