تحديات ما بعد داعش!
أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بعد هزيمة داعش العسكرية أن معركته القادمة هي مع الفساد والفاسدين. ولعلّ مثل هذا الإعلان هو معركة على المكشوف مع أخطر تحدي يواجه العراق عموماً وحكومة العبادي خصوصاً، وربما هو تحدٍ شخصي له أيضاً، يعتمد مستقبله السياسي على النجاح أو الإخفاق فيه فضلاً عن مشروعه الإصلاحي الذي بشّر به بُعيد تسلّمه مقاليد السلطة في العام 2014، ذلك أن المعركة مع الفساد هي معركة "كسر عظم" كما يُقال.
وتختلف معركة الفساد عن المعركة مع داعش، ففي هذه الأخيرة التفّت حوله الشيعية السياسية الحاكمة بمختلف أجنحتها والسنّية السياسية المشاركة بمختلف ألوانها، إضافة إلى دعم كردي كان ضرورياً، ويضاف إلى ذلك أنه حظي بدعم شعبي قلّما حصل عليه حاكم منذ العام 2003 إلى الآن ، لأن المعركة مع الإرهاب هي معركة كل الشعب، وداعش فئة معزولة وإرهابية وتكفيرية تستهدف الجميع، ولذلك فإن استنفاراً شعبياً حصل إزاءه، ساهم في دحره عسكرياً.
وإذا كانت مهمة القضاء على داعش سياسياً وفكرياً وثقافياً تحتاج إلى مواصلة تجفيف المنابع الاقتصادية والاجتماعية التي يتغذى عليها، فالأمر في الوقت نفسه يتطلب معالجة الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي أدت إلى ظهوره بهدف محاصرته تمهيداً للقضاء عليه. وكان لقيادة حيدر العبادي للمعركة دوراً في تعزيز موقعه داخلياً وإقليمياً وخصوصاً محاولات ترميم علاقته مع محيطه العربي، وتمثل ذلك في عدد من الزيارات التي قام بها ومن بينها زيارته للرياض ولقائه الملك سلمان بن عبد العزيز.
ولكن مشكلة أخرى لا تقل خطورة واجهت حكومة العبادي ورئيس الوزراء شخصياً، وكان نجاحه في حلّها على نحو بارع وباستخدام دبلوماسية القوة الناعمة قد عزز موقعه أيضاً ونعني بها موضوع الاستفتاء الكردي، بل زاد من رصيده الداخلي.
وإذا كانت المحكمة الاتحادية العليا قد أصدرت قراراً ببطلان إجراء الاستفتاء وعدم الاعتراف بنتائجه ، فإن ذيوله ما تزال قائمة، لاسيّما ما يتعلق بتنفيذ الاستحقاقات للسلطة الاتحادية، التي تطالب بإعادة تسليم المنافذ الحدودية والمطارات وبعض الحقول النفطية، فضلاً عن كشف شامل بمبيعات النفط وعقوده والاتفاقات مع الدول والشركات الأجنبية، مقابل دفع رواتب موظفي إقليم كردستان بعد تدقيق الأعداد من قبل لجنة مشتركة بين السلطة الاتحادية والإقليم، وتسديد حصة الإقليم المعلّقة منذ العام 2014 بعد استعادة أثمان النفط المُباع والعمل على حل المشاكل المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها، وهو الأمر الذي عمّق أزمة الإقليم المستفحلة والتي هي في جزء منها تعود إلى أزمة الحكم في العراق بشكل عام.
وإزاء هذا التطور دعت قيادة إقليم كردستان إلى حوار لحل المشاكل بالطرق السلمية بين الطرفين، في حين أن الحكومة الاتحادية اعتبرت قرارات المحكمة الاتحادية العليا دعماً لموقفها السياسي، بإضافة بعد قانوني وقضائي له، الأمر يتطلب اعترافاً صريحاً بإبطال الاستفتاء وما ترتب عليه وتأكيد الالتزام بالدستور الضامن لوحدة العراق حسب نصوصه، وذلك هو السبيل لتوفير أرضية مشتركة لحوار مستمر وفعّال، خصوصاً وإن موازين القوى على الأرض، إضافة إلى الأبعاد الدولية والإقليمية تقف إلى جانب بغداد في موقفها الصلب والسلمي في آن، وتلوح اليوم في الأفق بوادر فتح حوار بين إربيل وبغداد، خصوصاً وإن العديد من الجهات الدولية، كانت قد دعت إليه وسعت للضغط على الطرفين للبدء به، لاسيّما من جانب الولايات المتحدة وبريطانيا.
وكان فؤاد معصوم قد زار السليمانية وقال إن هدف زيارته هو تقريب وجهات النظر ومشاركة جميع الأطراف في إزالة المشاكل وتقوية العلاقات بين الإقليم والسلطة الإتحادية. ويُذكر إن فريقاً من الاتحاد الوطني الكردستاني الذي هو حزب رئيس الجمهورية، وحركة التغيير "كوران" والجماعة الإسلامية، كانت مواقفها متحفظة بدرجات متفاوتة إزاء موضوع الاستفتاء، وازدادت المواقف تباعداً بعد ما حصل من احتكاكات مع السلطة الاتحادية، ويحمّل هؤلاء رئيس الإقليم السابق مسعود البارزاني الذي انتهت ولايته في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2017 وقرر عدم ترشيح نفسه، مسؤولية ما حصل، بما فيها ضياع بعض مكتسبات الشعب الكردي الذي حصل عليها، وخصوصاً منذ أواخر العام 1991 بعد انسحاب الإدارة الحكومية بإعلانها منطقة كردستان بمحافظاته الثلاث (إربيل ، دهوك، والسليمانية) ملاذاً آمناً بقرار ثلاثي من واشنطن ولندن وباريس، مفسّرين القرار 688 الصادر في 5 أبريل/نيسان 1991 من مجلس الأمن الدولي، القاضي باحترام حقوق الإنسان والحقوق السياسية لجميع المواطنين.
وإذا كان الفساد هو التحدّي الأول والاستفتاء هو التحدّي الثاني فإن الانتخابات القادمة،(15 مايو/أيار 2018) هي التحدي الثالث، وكان الأخذ والرد والشدّ والجذب قد بدأ بشأن موضوع المفوضية العليا للانتخابات التي شهدت احتكاكات واسعة واعتراضات واحتجاجات كبيرة، حيث تم حسمها بطريقة المحاصصة، ثم جاء الخلاف حول إجرائها في موعدها أو تأجيلها،. وكانت غالبية القوى تدعو لإجرائها، وخصوصاً رئيس الوزراء حيدر العبادي وحزب الدعوة بزعامة المالكي وحركة الحكمة بقيادة عمار الحكيم والمجلس الإسلامي الأعلى بقيادة همام حمودي وكتلة الأحرار بقيادة مقتدى الصدر، وهي جميعها كتلاً شيعية، فإن كتلاً سنّية عديدة هي الأخرى انحازت لصالح إجرائها مع إبداء بعض التحفّظات إزاء المناطق المنكوبة، ولاسيّما وأن أهاليها لم يعودوا إليها حتى الآن، إذْ هناك نحو 3 ملايين نازح من مناطق الموصل وصلاح الدين والأنبار وديالى وكركوك وبعض أطراف بغداد، وحتى بعد تحرير مناطقهم، فإنهم لم يتمكنوا من العودة إليها، إمّا لأسباب أمنية أو لعدم توفر الحد الأدنى من مستلزمات العيش، فكيف يمكن مشاركتهم بالانتخابات في مثل هذه الظروف العسيرة؟
وكان رئيس البرلمان العراقي سليم الجبوري قد أسس حزب " وطن"، قد حمّل مسؤولية الدمار الذي يعيشه العراق اليوم إلى بعض مراجع الدين وأصحاب المنابر، بسبب التحريض على الطائفية والخطاب المتشدّد والتوجيه بممارسة الحق الانتخابي على أساس طائفي، مشيراً إلى ما حصل في انتخابات 2005 و2010، ومذكّراً بقوائم 169 و555 التي حظيت بدعم "مرجعية النجف" التي أيّدت "البيت الشيعي" وفيما بعد "التحالف الوطني" الذي استمرأ نظام المحاصصة الطائفية- الإثنية الذي فرضه بول بريمر في مجلس الحكم الانتقالي، ثم تم تقنينه بالدستور الذي تحدث عن "المكوّنات" ثماني مرات، وليس ذلك سوى تقاسم وظيفي على أساس طائفي وإثني، بالضد من دولة المواطنة والحق والقانون.
وهدّد الجبوري باللجوء إلى الأمم المتحدة في حال استمر الوضع على ما هو عليه في الانتخابات القادمة، داعياً إلى وضع حدّ للدور السلبي لبعض رجال الدين، مثلما شدّد على ضرورة فصل الدين عن السياسة، وهو لا يشمل منطقة دون سواها، بل يشمل جميع المحافظات العراقية، وبضمنها المحافظات الغربية التي عانت هي الأخرى كثيراً من الخطاب الديني والطائفي المتشدد.
لقد أصبح نقد الخطاب الطائفي ونظام المحاصصة أمراً روتينياً يقول به طائفيون من الفريقين، لإثبات فشله، بل وعقمه، لذلك يحاول كل فريق تعليق شماعات إخفاقه عليه، بل ويعتبر الطرف الأخر هو السبب، سواءً كان حزباً أو مجموعة أو فرداً، وينطبق الأمر على حزب الدعوة الحاكم نفسه أو رئيس الوزراء، إضافة إلى مقتدى الصدر والحكيم ولواء بدر، وسواه من الأحزاب والقوى الشيعية مثلما هو في الجانب الآخر "الحزب الإسلامي" والأحزاب التي عملت تحت عناوين مختلفة تعبيراً عن السنية السياسية، مثل مجموعة "متحدون" التي أسسها أسامة النجيفي وآخرين.
وتكاد الأحزاب كلها اليوم تجمع على أن سبب الفساد الأساس هو نظام المحاصصة، ومثلهم يذهب الأكراد إلى اعتبار النظام الطائفي سبباً في عدم تلبية حقوق الشعب الكردي، فمن يا ترى صنع هذا النظام الذي يدين له الجميع بالولاء، تحت عنوان "مبادئ الدستور"، إذا كان جميعهم يعتبرونه سبب البلاء ؟
وسواء كانت الشيعية السياسية الحاكمة أم السنّية السياسية المشاركة أم الكردية القومية في إطار النظام الفيدرالي وتوزيع الصلاحيات والثروة والسلطة، تغسل يدها اليوم من نظام المحاصصة، فمن يا ترى يقف مع هذا النظام، خصوصاً وأن التيار الوطني واليساري والليبرالي بجميع ألوانه لم يكن يحبّذ مثل هذا النظام إنْ لم يكن رافضاً له، وقد كان هناك تحرّك جماهيري بدأ متصاعداً منذ يوليو (تموز) 2011 وشمل قطاعات واسعة تدعو إلى إنهاء نظام المحاصصة ومحاربة الفساد والمفسدين وتنفيذ خطوات لإصلاح حقيقي يشمل المفاصل الأساسية في الدولة ويوفّر الخدمات الصحية والتعليمية وفرص عمل، ويعالج أثار السياسات الخاطئة التي أدت إلى هدر المال العام وشكّلت حماية لكل أنواع الفساد.
وحتى الآن استطاع العبادي مواجهة التحدي الداعشي وتحدي الاستقلال (الانفصال) الكردي فهل سيتمكن من مواجهته تحدي الانتخابات المقبلة، والأهم من كل ذلك تحدي مواجهة الفساد، الذي سيتوقف عليه صدقيته الحقيقية وجرأته في استمرار دعوته للاصلاح، خصوصاً إذا تمكن من البدء بالرؤوس الكبيرة، لأن الفساد مؤسسة كبرى، لها منظومة حركية ومراتبية ولا بدّ من ضربها في الصميم إذا ما أريد كسر شوكتها وتفكيكها.
وعلينا أن نتذكّر أن العبادي كان قد اعتبر العام 2016 عاماً للقضاء على الفساد، لكن الأمر لم يحصل بسبب تسخير كل شيء للعمل العسكري ضد داعش، ولذلك فإن هذا أحد أهم التحديات التي ستواجهه، إضافة إلى تحدي الانتخابات التي قد تعلي من شأنه أو تطيح به، لكن هذا الأمر متوقف على نجاحه في حملته المعلنة لملاحقة الفساد.