تأرجح الحوار مابين الدستور والسياسة: تأملات في العلاقة بين السلطة الإتحادية وإقليم كوردستان العراق
" لا تختّفي المشاكل الجماعيّة لأّننا تكلّمنا عنها كثيراً
بل لأّننا لم نحلّها بعد.عدم الاستسلام للتعب وإعادتها الى
الساحة العامة بعناد، تبدو هي الواجبات الأساسيّة للذي
لا يودّ أن يتخلّى عن التفكير."
البروفيسور الفرنسي فرناند دومون DumontFernand
يكثر الحديث الآن عن أن أزمة العلاقة ما بين السلطة الإتحادية وسلطة إقليم كردستان العراق لايمكن حلها إلا عن طريق " مفاوضات من خلال الدستور و في ظله وتحت خيمته"، ولذلك يبرز هنا تساءل مهم يتعلق بـ : هل أن العلاقة بين سلطة الإتحاد وسلطات الولايات في الدولة الفيدرالية عندما تكون في حالة التوتر والأزمة، يجب تسويتها في إطار " مفاوضات دستورية " بينهم؟ وهل أنه في كل حالة تحدث فيها نوع من الإضطرابات في طبيعة تلك العلاقة، فإنه يجب على الأطراف الدخول في " مفاوضات دستورية " لإيجاد حلول لها؟
ينتج عن هذا الرأي أن " المفاوضات الدستورية " ستكون " مستمرة ولا تنقطع" بفِعلأن " التوترات" و " ألأزمات" هي مستمرة في تلك العلاقة الفيدرالية.
ولكن هل هذا ممكن من الناحية العملية؟
لايمكن لهذا التصور أن يكون " تصوراً واقعياً عملياً " لأنه سيؤدي إلى عدم إستقرار الاوضاع في الدولة الفيدرالية وبالتالي إلى " شيخوخة" مُبّكِرة وقبل آوانها لتلك الدولة. فبإستقراء التجارب الفيدرالية، فإنه وبعد إقرار الدستور الفيدرالي، لم تجري مفاوضات دستورية لحل المشاكل، بل جرت مشاورات وتفاهمات وتسويات سياسية حولها.
وبهذا الصدد يكتب الباحثان (كاتي لو روي) و ( شيريل سوندرز) في دراستهما عن الفيدرالية في أستراليا ما يأتي: " إستمر الدستور الفيدرالي لأستراليا أكثر من 100عام و لكنه وبالرغم من ذلك فقد أثبت قدرته على التيّف مع الظروف المتغيرة.... كما حدث تطور تدريجي في معنى النص و فاعليته ولكن من خلال تفسير قضائي وتغيير الممارسة السياسية.... وعلى الرغم من أن نظام الحكومة الذي وضعه الدستور يبقى ثابتاً، فهناك مناقشات لتغييرات دستورية لحماية الحقوق بفاعلية أكثر..."
إن المبادىء الاساسية والجوهرية للدولة تكون راسخة و متينة في الدستور الذي يُصاغ ويصدر بعد " مفاوضات دستورية" بين أصحاب السلطة السياسية والقابضين على القوة والنفوذ في الدولة والمجتمع. هذه المفاوضات الدستورية لا تتكرر إلا في حالة واحدة وهي ظهور حاجةفعلية لتعديل الدستور أو مراجعة شاملة له.
وعليه، فإن المشاورات والحوارات والنقاشات هي أساسية في مسألة التطبيقات الدستورية والمشاكل والتعقيدات المنبثقة عنها. ولذلك فإن القول بـ " إجراء مفاوضات في ظل أو إطار أو خيمة الدستور " لا يعكس حقيقة الوضع. وهنا يؤكد الفقيه الدستوري المصري الاستاذ إبراهيم درويش:" هناك فهم خاطىء للدستور، حيث يرى البعض أن أي نص في الدستور حتماً وبالقوة سينفذ، وهذا فهم خاطىء، لإن القانون أقدر أن يتم الضغط به على الحكومة في تنفيذه أكثر من الدستور".
الدستور ومبادئه هي للتطبيق وليس للتوجيه لإجراء " مفاوضات "، بل أن مبادىء الدستور هي " موجهّة " لكيفية ممارسة السلطة. وفي رأي الباحث الفرنسي( فونيسكا) فإن الدستور " يتصرف " كـ " قائد دستوري "ولذلك فإنه يجب بالضرورة ضمان إحترامه قانونياً لكي يكون على رأس دولة القانون، وهكذا تُعد الرقابة الدستورية نتيجة منطقية وضرورية لـ " سمو وعلوية الدستور ".وإذا كان الدستور هو القاعدة العليا للهرم القانوني في الدولة، فإنه من الضروري أن تكون القوانين الصادرة عن البرلمان مطابقة له، و أن تتأسس رقابة إبطال و إستبعاد القوانين غير الدستورية وتكون بمثابة أساس لإقامة ضمانة ضد التعسف. إذن يحتاج الأمر إلى وجود " حارس " لتأمين هذا الإتجاه( مثل المجلس الدستوري في فرنسا والمحكمة الفيدرالية العليا في الولايات المتحدة الأمريكية).
وعليه، فإن الدستور( الدستور هو البناء الهندسي للنظام الياسي والذي يقوم على أربعة بنود أساسية هي المواطنة والمساواة و تكافىء الفرص والحقوق والحريات) يجب أن لا يكون موضوعاً للمساومات و التوافقات و يجب أن لا يقع أصحاب السلطة السياسية في " وهم " أن الدستور هو الضامن للوحدة أو للحقوق. فالضمان يتحقق في الواقع وليس في الأوهام، وعندما لا يتحقق الضمان واقعياً فلا يمكن الكلام عن الدستور حتى لو كان الدستور موجوداً. ولذلك فإن الاعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن الصادر عام 1789 ( والذي أصبح جزءاًً من أول دستور للثورة الفرنسية الصادر عام 1791) ينص في مادته 16 على أن " كل مجتمع فيه ضمان الحقوق لم يُؤمّن، ليس له دستور مطلقاً ". وهكذا فإن الدستور هو أداة للحد من السلطة لانه يقيد السلطة عن طريق تنظيم ممارسة السلطة في الدولة بطريقة متماسكة وعقلانية. إذن الدستور يقيد عمل رجال الحكم والسياسة. وفي رأي البروفيسور الفرنسي(دومينيك روسو) أن البرلمان(في فرنسا ) لم يعد المكان المناسب للنقاش بسبب صمت البرلمان و ضعف وإنهيار المواجهة المباشرة بين الحكومة والبرلمان، إنتقلت تلك المواجهة إلى مواجهة ما بين الحكومة والمجلس الدستوري الفرنسي ( الذي هو بمثابة المحكمة الدستورية العليا). وفي رأي البروفيسور( شانتينو) فإن الدستور ولمجرد كونه موجوداً ولكونه كذلك يُغلق على السلطة ضمن وضع قانوني ما،فإنه وبالضرورة يَحِدُ من تلك السلطة.
ضمن هذه الشروط والأوضاع، تبرز دوماً نزعة دائمة لدى الحكام لتجاهل الدستور أو إهماله أو تعطيله. وكان الفقيه الألماني ( يلينيك) قد أوضح أن الدستور أصبح عنصر إزعاج أو كابوس للحكام منذ أن ضَيّق أو وضع قيوداً على نشاطهم.
فالدستور، بهذا المعنى وحسب رأي المفكر الفرنسي ( ألكسي دى توكفيل)، هو " فاعل مضاد " للفوضى، وهو بمثابة خَلَفٍ للفوضى، لانه يقوم بعملية تنظيم نظام الحكم في الدولة، وبالتالي فإن الدستور هو الشكل الدائم للحكم والسلطة في الدولة، ولايمكن الرجوع فيه عن السلطات المعطاة، فبمجرد إعطائها لا يمكن أن تُسحب ثانية بإرادة أحد، حيث عندما يتم التصديق على الدستور فإنه سيصبح إلزامياً كقاعدة أساسية موجهة لتنظيم نشاطات سلطات الدولة.
و في الدولة الفيدرالية، يؤكد( دى توكفيل) في كتابه (الديمقراطية في أمريكا)ويؤيد أن تفسير القضايا المتشابكة المعقدة في الدستور الأمريكي يجب أن يكونفي صالح السلطة الإتحادية. فالسلطة الإتحادية في الدولة الفيدرالية عندما تكون ضعيفة، فإنها تنحني أمام الضربات العنيفة للولايات. وهذه الحالة ستؤدي إلى حالة جديدة وخطيرة وهي حالة " إنحلال الاتحاد " التي لا يمكن، يؤكد (دى توكفيل)، أن تكون فعّالة إلا بفعل الإرادة الحرة المشتركة للولايات.
إذن، عندما تواجه الدولة الفيدرالية قضايا معقدة متشابكة نتيجة تجاوزات والخروج عن نصوص و روح الدستور، فإن الأمر يستوجب إتخاذ سياسات وقرارات لمعالجة الحالة حتي لا تصل الدولة إلى وضعية " الإنحلال ". مثل هذه السياسات يجب أن تكون نتيجة " مشاورات " و " حوارات " ما بين السلطة الإتحادية وسلطة الولايات المكونة للدولة الفيدرالية.
إن تلك القضايا المعقدة يمكن تصنيفها إلى:
• قضايا تتعلق بالدستور وتكون مهمة إيجاد حلول لها من إختصاص هيئة قضائية أو سياسية مختصة، التي تقوم بفحص وتدقيق القضايا المعروضة أمامها وإصدار القرارات المناسبة بصددها الت تكون باتة وملزمة التطبيق.
• قضايا تتعلق بمسألة التعاون والتنافس وطرح مقترحات جديدة والتي ستشكل أرضية وأساساً لـ " حوارات " و " مشاورات " و " مناقشات " بين الأطراف. هذه القضايا هي قضايا تطبيقية الناجمة عن تطبيق نصوص الدستور وإستخدام الصلاحيات المنصوص عليها في تلك النصوص وما قد يتمخض عنها من مشاكل عملية تستوجب الوقوف عندها ومناقشتها والبحث عن الحلول الواقعية.إن هذا الوضع يتطلب الكثير من العزم من قبل الجهات السياسية الفعالة لتتمكن من إيجاد حلول للتحديات التي تواجهها.وهنا يكون التأكيد على أن التسويات و التنازلات المتبادلة كفيلة بترسيخ الفيدرالية كنظام فعّال وناجح.
وفي الحالة العراقية فإن المشاكل بدأت منذ إقرار دستور 2005والإقرار بمركز إقليم كردستان العراق كإقليم فيدرالي في داخل الفيدرالية العراقية. إن الإقليم بقي إقليماً وحيداً لحد الآن مما عقد من طبيعة الفيدرالية العراقية لكونها أصبحت نموذجاً فريدأً من التطبيق الفيدرالي ومتناقضاً مع ما هو شائع و إعتيادي في التنظيم الفيدرالي من حيث أن الفيدرالية يجب أن تتكون من إقليمين على الأقل. إن هذا الوضع الاستثنائي قد عقّد طبيعة العلاقات مع السلطة الإتحادية التي حاولت التعامل مع الوضع على شكل لم يؤدي إلى تطبيق دقيق لنصوص الدستور مما أحدث " شرخاً " قاسياً في البنية الدستورية أبعد الوضع بعيداً عن " الحلم " الذي فَكّر فيه الذين وضعوا الدستور العراقي لعام 2005.
هذا الشرخ في التوجهات ما بين السلطة الإتحادية وسلطة الإقليم خلق أرضية مناسبة للنزاعات والإختلافات التي تراكمت بشكل خطير مهددة وجود العراق كدولة.
لذلك أصبح الأمر ملّحِاً جداً التوصل إلى حل مهم وضروري وحاسم لوضع النصوص الدستورية موضع التطبيق، وهذا لايتم من خلال " مفاوضات دستورية " ، بل من خلال مشاورات و حوارات ومناقشات مفتوحة وصريحة وعقلانية تصل إلى ما هو مطلوب من القرارات والسياسات المناسبة تعيد " الروح " للدستور و وتعيد " المعنى " للسياسة التي يجب أن تكون معّبرة عن المصلحة العامة المشتركة بالمفهوم ( الارسطوطالي) ومعبرة عن واقع التعددية السياسية بالمفهوم المطروح من قبل ( هانا آرندت).
المصادر
1. د.منذر الشاوي، في الدستور، بغداد،1964
2. مجموعة باحثين، حوارات في الفيدرالية، دراسات عراقية، بيروت
3. دافيد فونيسكا، أثر هابرماس في الفقه الدستوري المعاصر، مجلة القانون العام، بيروت،2007
4. د.إبراهيم درويش، الدساتير: المبادىء والصناعة، القاهرة، 2016
5. ألكسي دى توكفيل، الديمقراطية في أمريكا، دراسات عراقية، بيروت
6. حنة (هانا) آرندت، ما لسياسة؟، الرباط، 2014