• Friday, 01 November 2024
logo

رسالة الى حيدر العبادي ..ما الحكمة ان تربح كل شيء وتخسر نفسك

رسالة الى حيدر العبادي ..ما الحكمة ان تربح كل شيء وتخسر نفسك
لقد آمن المهاتما غاندي. ونيلسون مانديلا. أن العنف قد يحرق الخصم ولكن ألسنة النار ستحرقك حتى ولو لم يبقى جندي غريب يطأ أرضك. هل يمكن شراء النصر بسيوف من ورد وبسرب من حمام التجربة التاريخية لكلا الرجلين تقول لنا نعم.
فالسياسة لم تكن عند غاندي غاية بحد ذاتها بقدر ما كانت وسيلة إلى غاية أبعد وأعمق وسيلة تربوية للوصول إلى الغايات السامية التي كان يعتقدها. حتى الاستقلال السياسي للهند الذي كان هدف حياته وغاية وجوده لم يكن هدفاً أو غاية نهائية بحد ذاته بقدر ما كان وسيلة لاستقلال الروح قبل الجسد وحرية الذات قبل حرية المكان. فلا معنى للحرية المكبلة بالرغبات ولا معنى لكيان حر أفراده من الرقيق... ربما كان من الممكن تحقيق استقلال الهند قبل يوم استقلالها التاريخي بوقت كبير حسب ما يعلق البعض لو استخدمت وسائل غير تلك التي كان يستخدمها غاندي. فليس هناك ما هو أسهل من استثارة الجماهير واللجوء إلى ثورات العنف والدماء ولكن ذلك يعني البقاء في دائرة العنف والدم حتى بعد تحقيق الهدف. ولم يكن ذلك ما يريده غاندي في الهند. فما الفائدة من أن تربح عالماً بأسره وتخسر نفسك... هذا هو بالضبط الاطار العام المحدد لفلسفة غاندي وهي المقولة ذاتها التي حددت الاطار العام لحياة المسيح الايمان العميق بانتصار قيم الحب والحق والخير والجمال مهما طال الزمان وتلك الارادة التي تصل الى درجة العناد المطلق في ما يتعلق بقناعته والتي تتحطم عندها كل الإحباطات ولحظات الفشل الطارئة والصبر الذي لا يعرف المستحيل هذه هي مفاتيح شخصية غاندي فالحق دائما ينتصر مهما طال الزمان وعندما كان يلاحظ أن حركة التحرر الهندي كانت تنحرف عن الطريق الذي رسمه لها فينفجر غضب الشعب عنفاً هنا أو هناك أو تنفجر الخلافات بين المسلمين والهندوس ، كان يعاقب شعبه ويصوم حتى يثوب الشعب إلى رشده كان يردد دائماً حارب عدوك بالسلاح الذي يخشاه لا بالسلاح الذي تخشاه أنت
وكان هذا السلاح هو عدم التعاون مع العدو وليس حمل السلاح. وأثبتت نظرية غاندي هذه فعالية في الحالة الهندية تفوق التصور على الرغم من معارضة كثيرين لأسلوبه في البداية سواء في حزب المؤتمر الهندي أو في غيره من أحزاب وحركات. ولكنه في النهاية سما على الجميع وأصبح الجميع ينادونه بابو أي أبا لجميع الهند والهنود
أما الزعيم الآخر مانديلا والذي لا يقل شأواً عن غاندي فقد سلك الدرب الذي سار فيه قبله غاندي ونجح كنظيره في تفتيت النظام العنصري دون إراقة دماء.
يقول مانديلا طوال أيام حياتي كرست نفسي للنضال من أجل الشعب الأفريقي. لقد كنت دائماً مؤمناً بنموذج الديمقراطية والمجتمع المفتوح حيث يعيش كل الناس بعضهم مع بعض بانسجام وبفرص متساوية. إنه نموذج أرجو أن أعيش من أجله وأحققه. ولكن إذا استلزمت الحاجة فإنه نموذج أنا على استعداد للموت من أجله منذ البداية كان ذاك هو طريق مانديلا البحث عن الخير والطيب الفطري في الإنسان ومحاولة رفع أكوام الحقد والكراهية المتراكمة منذ أزمان وأزمان حتى لو كانت الظروف لا تبعث على كثير من التفاؤل وهو ما كانت عليه الظروف فعلاً في جنوب أفريقيا. ومن هنا كان اللاعنف هو الإستراتيجية التي تبناها مانديلا من أجل تغيير الأوضاع في جنوب أفريقيا ومحاولة القضاء على نظام الأبارتيد وهو نظام الفصل العنصري الذي حكمت من خلاله الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا من عام 1948 وحتى تم إلغاء النظام بين الأعوام 1990 - 1993 وأعقب ذلك انتخابات ديمقراطية عام 1994. حتى في تلك الأوقات التي كانت فيها الحركة الوطنية الأفريقية ترى أنه لا بديل للكفاح المسلح ولا محيص من رفع السلاح وعلى رأسها حزب المؤتمر. وفي كل مراحل حياته لم يكن مانديلا حاقداً على البيض بقدر ما كان ناقماً على الأوضاع اللاإنسانية التي يعانيها الجميع بيضاً وسوداً على السواء وهنا تكمن النظرة الإنسانية العميقة. فالأكثرية الأفريقية السوداء كانت تعاني التمييز العنصري والعبودية المادية الملموسة. أما الأقلية البيضاء فبرغم أنها هي السيدة والمهيمنة في بلد أكثريته من السود إلا أنها في خاتمة المطاف مستعبَدة بهذا الشكل أو ذاك مادامت محرومة من الحس الإنساني بسلوكها العنصري وأنظمتها الجائرة. كانت الرئاسة امتحاناً حقيقياً لزعامة مانديلا ولتلك المبادئ التي ظل يؤمن بها طوال حياته. فها هي الأغلبية الوطنية السوداء تصل إلى الحكم بعد قرون من الهيمنة البيضاء فماذا ستفعل وكيف ستتصرف هل تنتقم لتلك الأيام السوداء التي عانتها على أرض أجدادها هل سيقوم مانديلا والزعامات الوطنية بفرض نوع من الأبارتيد الأسود انتقاماً من الأبارتيد الأبيض لم يحدث شيء من ذلك وبقي مانديلا حريصاً على النموذج الديمقراطي الذي بشر به دائما حتى في أحلك الأيام سواداً وإمكانية التعايش السلمي بين مختلف الأعراق والجماعات. لم يحاول استثارة الأحقاد والنبش في دفاتر الماضي بل طوى تلك الصفحة وفتح صفحة جديدة اسمها المستقبل وعنوانها التفاؤل.
Top