• Friday, 22 November 2024
logo

المسألة الكوردية.. الديناميات الجديدة وآفاقها المستقبلية

المسألة الكوردية.. الديناميات الجديدة وآفاقها المستقبلية
اسعد الله صباحكم وتحية احترام وتقدير عال لمركز الجزيرة للدراسات الذي أولى قضيتنا الكوردية اهتماما كبيرا ليس اليوم وإنما منذ سنوات، وكان نافذة أكاديمية مهمة للبحوث والدراسات أغنت مكتبات المهتمين بهذه القضية في مختلف أنحاء المعمورة.

لا أريد أن أغوص في تفاصيل التاريخ ودهاليزه البيضاء أو السوداء خشية من الشياطين التي تقبع دوما في التفاصيل، بقدر ما أريد الإشارة إلى نقاط الشروع لحركة الاستقلال الكوردي منذ بدايات القرن الماضي وحتى الاستفتاء الأخير في 25 سبتمبر الماضي، وبلورة ديناميات جديدة من خلال قراءة دقيقة لتلك الصفحات من التاريخ وخاصة طبيعة تعامل كل من حكم العراق مع القضية الكوردية.
لقد قاد الشيخ عبد السلام البارزاني 1909-1914م انتفاضة شعبية كانت الأولى، كأول حركة تحررية في القرن العشرين لها أهداف سياسية واضحة نجحت بإيصال مطالبها المنظمة والمبرمجة إلى الحكومة العثمانية، التي جن جنونها فشنت حملة عسكرية كبيرة ضد منطقة بارزان واعتقلت الشيخ عبد السلام ورفاقه، ثم أعدمتهم مع في مركز ولاية الموصل بداية 1914م.

لم تنطفئ جذوة الثورة بل استمرت حتى وقعت المنطقة بأسرها تحت طائلة اتفاق وزيري خارجية بريطانيا وفرنسا ( سايكس بيكو ) لتأسيس كيانات تخدم مصالحها فقط، فظهرت للوجود في هذه المنطقة مملكة عراقية من ولايتين هما البصرة وبغداد، وحينها كانت ولاية الموصل تضم كل كوردستان الجنوبية المسماة اليوم كوردستان العراق، وبعد مفاوضات عديدة بين الأطراف الأربعة البريطانيين والفرنسيين والأتراك والكورد اتفقوا مع الكورد على أول استفتاء حول هوية وتبعية الموصل، بعد أن وعدوهم بتحقيق مطالبهم وأهدافهم السياسية والثقافية إذا ما انضموا إلى المملكة الجديدة، وهنا اذكر لكم ما قاله ادمونس في كتابه عرب وكورد وترك " لقد قدم شعب كوردستان خدمة كبيرة في تأسيس دولة العراق وذلك بأصوات الأغلبية الكوردية في ولاية الموصل" وحصل ذلك ومنح الكورد هوية الموصل العراقية!

ولكن الطرف الآخر وضع الخطوات الأولى للانقلاب على كل العهود والوعود حتى أصبحت سلوكيات متوارثة حتى يومنا هذا من قبل كل من حكم العراق، ولعل ما كتبه ملك العراق الأول لرئيس وزراء بريطانيا يطلب منه مساعدته لبسط السيطرة على كل (المناطق الشمالية) ويعني بها كوردستان العراق، وما أشبه اليوم بالبارحة وطلبات رئيس حكومة العراق الحالي ببسط سلطاته على كل الإقليم بمساعدة الإيرانيين اليوم بدلا من البريطانيين في الأمس.

لقد طلب ملك العراق الأول في حينها مساعدة البريطانيين على بسط نفوذهم فكان جواب رئيس حكومة بريطانيا حينها:
"إننا اتفقنا معكم بإنشاء مملكة تكون حدودها من البصرة وحتى جبال حمرين، يكون الكورد فيها شركاء حقيقيون، ولم نعدكم بإنشاء إمبراطورية من البصرة إلى زاخو! "

بعد انقلاب 1958م وإعلان الجمهورية بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم، عاد مصطفى البارزاني إلى بغداد، على خلفية إن العهد الجديد سيضع حلولا جذرية للمسألة الكوردية باعتماد مادة دستورية مهمة هي إن العرب والكورد شركاء في الدولة العراقية، لكن للأسف لم تمض إلا سنوات قليلة جدا حتى انقلبوا على الشراكة الحقيقية واستبدالها ببدائل الاختراق والاحتواء والحل العسكري، لتبدأ حقبة جديدة من الصراع، وتنطلق ثورة أيلول 1961م في كوردستان بقيادة البارزاني مصطفى، والتي تمخضت بعد سنوات عن اتفاقية 11آذار التي اعترفت لأول مرة تاريخيا بحق الكوردستانيين بالحكم الذاتي سياسيا وثقافيا واقتصاديا، وبعد أربع سنوات تجريبية ذهبت حكومة بغداد إلى فرض قانون من طرف واحد للحكم الذاتي على طريقة السوفييت بقيادة حزب البعث وأجهزته الأمنية والاستخبارية، مما حدا بقيادة الحركة الكوردية إلى رفض ذلك القانون، وأصرت بغداد على رفض أي حوار خارجه وخارج شروطه، مما أشعل الحرب بين الطرفين، والتي انتهت بعد عام واحد لصالح بغداد وذلك بضغوطات كبيرة من قبل الولايات المتحدة وإيران لصالح بغداد حينها!

بعد هذه الحقبة بدأت مرحلة شق الصف الكوردي وفتح ثغرات في جداره الداخلي، حيث اعتمدت كل الحكومات العراقية بدون استثناء سياسة صناعة جيوب أو ثغرات في هذا الجدار، من خلال استمالة وإغراء مجموعات على خلفية صراعات قبلية أو سياسية مع قادة حركة التحرر الكوردستانية، حيث عرفت تلك التشكيلات التي تصنعها حكومات بغداد وتدسها في كوردستان بـ(الجته) أي عملاء العدو وقد نظمت لهم أفواجا كميليشيات تأتمر بأمر شيخ القبيلة وتساق من قبل ضباط الاستخبارات أو الأمن الحكوميين، وكانت تسمى في حينها بالأفواج الخفيفة ويطلق عليها الأهالي بالجحوش.

كما استنسخ نظام صدام حسين أسلوبا كانت أجهزة المخابرات الأوربية الشرقية في حقبة الحكم الشيوعي فيها، تستخدمه في إكسسوارات لتزيين (ديمقراطياتها الشعبية) بأحزاب للزينة فقط! حيث تم تأسيس أحزاب كوردستانية في دوائر المخابرات العراقية على انها تمثل طموحات شعب كوردستان كما يحصل اليوم من محاولات لصدع البيت الكوردستاني من قبل بغداد وطهران واذرعهما في الداخل الكوردستاني، كما حصل في اجتياح كركوك.

كوردستان لم ترفض أي محاولة للسلام ولبناء دولة الشراكة الحقيقية ودولة المواطنة، ولأجل ذلك ذهبت قيادتها إلى بغداد وهي تمشي على مئات الآلاف من ضحايا الأنفال وحلبجة لكي تفاوض صدام حسين، كما ذهبت إلى بغداد وتخلت عن كل امتيازاتها التي وفرتها الأمم المتحدة ومجلس أمنها في الملاذ الأمن عام 1991م، لكي تؤسس مع الشركاء الآخرين دولة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان وتنشأ دولة مواطنة تحت سقف دستور كتبناه جميعا، لكن الأمور اختلفت حينما أصبحوا في السلطة فأرسلوا دباباتهم عام 2008 مهددين كوردستان بالاجتياح من خلال قوات أعدت مسبقا وأطلق عليها اسم قوات شرق دجلة بالقرب من كركوك، وبذلك انهار تحالف الطبقة السياسية الشيعية مع التحالف الكوردستاني عمليا في 2008م.

لقد استمر الصراع بين هذه الطبقة الحاكمة وبين إقليم كوردستان بعد 2008 بفرض الحصار الاقتصادي على الإقليم مطلع 2014م، وذلك بقطع حصته من الموازنة السنوية، ثم تسهيل إسقاط الموصل بيد ما يسمى تنظيم الدولة داعش، لتكون خنجر في خاصرة كوردستان، من هنا بدأ الإقليم يشعر بخطر المستقبل خاصة وان الطبقة السياسية الشيعية مرتبطة تماما مع إيران التي لا تؤمن إطلاقا بأي خطوة لتطور الإقليم السياسي، وسارع قادة الإقليم إلى تحذير بغداد بتجاوزاتها على الدستور وضرورة الإسراع بحل الإشكاليات المتراكمة من خلال زيارات متعاقبة لبغداد، لكن للأسف كانت المؤامرة اكبر والهدف تدمير الإقليم وإلغائه بالكامل، وهذا ما أكدته الأحداث المتعاقبة خاصة رفض بغداد أي حوار حول مستقبل الموصل بعد التحرير، علما بان قيادة الإقليم تحادثت مع بغداد الحكومة والأحزاب بأنها تشعر بخطر ما يحصل وإنها ربما تذهب إلى الشارع الكوردستاني في إشارة إلى الاستفتاء، وقد حصل ذلك قبل تحرير الموصل بفترة ليست قصيرة، ورغم ذلك كانت تلك الطبقة قد طبخت برنامجا غير معلن لما سموه (إقليم شمال العراق) أو (محافظات شمال العراق) كما تستخدمه الآن وسائل إعلامهم، مما دفع الإقليم إلى إجراء الاستفتاء تحت مضلة القانون والدستور في التعبير عن الرأي.

لقد أثبتت الطبقة السياسية الحاكمة بشقيها الرئيسي الشيعي والملحق السني بأنها ضد الفيدرالية بتقاطع صارخ مع الدستور، وإنها بإلغاء إقليم كوردستان ستعيد النظام الشمولي تحت يافطة الأغلبية السياسية التي تهيمن عليها الطبقة السياسية الشيعية المسيرة بالكامل من إيران، مع إكسسوارات سنية وكوردية على غرار أحزاب الزينة، وبذلك تتحقق أهداف ولاية الفقيه تدريجيا وباستخدام آليات الديمقراطية بعد إلغاء أي محاولة لمعارضة تلك الولاية.

إن المستقبل أمام الإقليم ينحصر بين خيارين صعبين في الظروف الحالية وهما اتجاهين استراتيجيين، الأول دولة المواطنة وهذا يبدو شائكا تحت هيمنة الأحزاب الدينية أو القومية العربية، والثاني خيار إنشاء الدولة الكوردستانية الذي يخضع هو الآخر إلى عاملين أساسيين أولهما اقتصادي وثانيهما دولي وإقليمي تحديدا دول الجوار ذات العلاقة وهي تركيا وإيران وسوريا.

العامل الأول: لم تنجح حكومات الإقليم منذ 2003 في إنشاء بنية تحتية تخدم مصالح الأمن القومي للدولة القادمة فيما يتعلق بالأمن الغذائي حد الاكتفاء ( زراعة وصناعة وطاقة )، وانشغلت في بناء مجمعات سكنية ومولات تجارية وخدمات بلدية غير مكتملة خاصة فيما يتعلق بالكهرباء والطرق والمواصلات، وهذا ما شهدناه في الآونة الأخيرة، ولم تنجح بتطوير إمكانيات البترول باتجاه البتر وكيميائيات والصناعات الغذائية والإنشائية والأدوية قياسا مع تعاظم مواردها منذ 2003م.
العامل الثاني: رغم النجاحات الملموسة المتحققة في العلاقات مع تركيا بدرجة كبيرة وإيران بدرجة اقل وسوريا بدرجة شبه معدومة، إلا أنها تخضع هي الأخرى إلى العامل الأول، حيث لم تصل تلك العلاقات والمصالح بين الإقليم وكل من تركيا وإيران إلى درجة الخشية على تلك المصالح بمواقفهما من الاستفتاء، وقد شهدنا موقفيهما اللذين تجاوزا الموقف العراقي في حدته! وعلى هذا القياس ممكن مراجعة ذات العلاقات مع أكثر الحلفاء قربا وهم الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوربي وكندا واستراليا، والمجموعة العربية والإسلامية.

لم ينجح الإعلام الكوردي تماما في إيصال القضية الكوردية بشكل مقنع على الأقل لدول الجوار، بينما نجح قرار السياسيين في الاستفتاء بتعريف العالم برمته بقضية الاستقلال، ولذلك نرى هذا الإصرار العجيب على إلغاء نتائج الاستفتاء، التي لا يمكن لأي سلطة داخلية أو خارجية إلغاء تلك النتائج إلا باستفتاء آخر يلغي أو يثبت نتائج الأول، وعليه ستبقى نتائجه وثيقة رسمية وتاريخية يعتمد عليها في أي محاولة أخرى للاستقلال في المستقبل.

لقد ذهب الاسكتلنديون إلى الاستفتاء وكذلك شعب كاتالونيا وربما شعوب أخرى في أوربا أو غيرها، والفرق بيننا وبينهم، إننا جيشنا الجيوش وصنعنا مئات الخونة وحرقنا مئات البيوت وقتلنا المئات من المعارضين وسنسجن أو نفصل مئات آخرين من النواب والموظفين العموميين لأنهم شاركوا في الاستفتاء بينما يذهب رئيس وزراء بريطانيا ونخبته الحاكمة إلى الاسكتلنديين راجين منهم إعادة النظر مقابل الموافقة على مطالبهم للبقاء في المملكة العتيدة.

ما حدث بعد إجراء الاستفتاء في كوردستان من ردود أفعال وحملات عسكرية وتهديدات أيقظ شعورا كاد أن يضعف أو يخف، وهو إن لا خيار للعيش المشترك في كيان واحد مع هذا الكم الهائل من الحقد والكراهية، فبعد أن كان الاستقلال مجرد حلم لنائم، أصبح اليوم تحدي كبير لدى شعب حيوي ويقظ أيقن إن شركائه في الأرض لا يقبلونه إلا تابعا، ولا يقبل هو إلا أن يكون حرا أبيا.
Top