• Friday, 22 November 2024
logo

قانون العشائر في العراق من أدلجة الدولة إلى عشرنة الدولة

قانون العشائر في العراق من أدلجة الدولة إلى عشرنة الدولة
بين الفينة والأخرى تأتي قوانين غريبة ومثيرة للجدل إلى مجلس النواب العراقي لقراءتها ومناقشتها والتصويت عليها، بعضها قوانين أيدولوجية تكرس الدولة الدينية، كقانون منع وحظر بيع وصناعة وتصدير الخمور، وقوانين أخرى تكرس المليشيات الأيدولوجية المسلحة، وتنسف الدولة المدنية كقانون الحشد الشعبي، وفي 1-12-2016 تمت القراءة الأولى لقانون مجلس العشائر والقبائل في العراق، هذا القانون الذي يؤسس لعشرنة الدولة، لا شك أن العراق بطبيعته الاجتماعية يتكون من هذا النسيج العشائري، فلا أحد يستطيع أن يلغي مفهوم العشائر والقبائل في العراق، بل إن القرآن الكريم يؤكد على أهمية وجود هذا التنوع المجتمعي لتحقيق فلسفة التعارف من أجل تحقيق التعاون والتكافل والتكامل والعمل المشترك لخدمة المجتمع والإنسانية، حيث قال[ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا]. فوجود الشعوب والقبائل والعشائر والأمم والقوميات أمر طبيعي، ولكن الإشكال هو أن يحول هذا الأمر إلى قانون وتشريع من أجل تحقيق غايات سياسية وأهداف حزبية، فلا يمكن أن نخلط بين هذا المفهوم المجتمعي وبين أسس الدولة، لأنه إذا أردنا أن نؤسس لدولة مدنية ديمقراطية فلا بد أن نبعد هذه الأطر المجتمعية والأيدلوجية والمذهبية والدينية عن مباديء الدولة المدنية، حتى نتمكن أن نؤسس لمرحلة جديدة، وهي مرحلة بناء الدولة على الأسس الصحيحة.


والذي يبدو لي أن بعض القوانين تشرع لا لذاتها فقط، بل لتحقيق أهداف أخرى، فقانون منع بيع الخمور كان الهدف منه انتشار المخدرات، واحتكار بيعها وصناعتها وتصديرها من قبل مجموعة معينة لها نفوذ وسلطة في البلاد، وقانون الحشد الشعبي حيث كان الهدف منه إضعاف دور المؤسسة العسكرية الوطنية، وقانون العشائر هو هو التغطية على فشل الدولة، لأن كثيرا من المشاكل المجتمعية حلت عن طريق المحاكم العشائرية وليس عن طريق المحاكم الرسمية للدولة، ولهذا تنطبق نظرية ابن خلدون الأندلسي على الحالة العراقية الراهنة، عندما ذكر أن الدولة إذا استقرت استغنت عن العصبية، ويقصد بالعصبية العشائر والقبائل، فالدولة العراقية ليست مستقرة بل هي هشة ضعيفة، ولهذا قويت سلطة العشائر والقبائل، ففي شهر واحد نجد 800 ثمانمائة جلسة حكم عشائري في بغداد العاصمة، وفي النجف 1200 جلسة حكم، وفي البصرة 2400 جلسة حكم، جميع هذه الجلسات العشائرية انتهت إلى حل نهائي للمشكلة، أما محاكم الدولة الرسمية فلا قيمة لها، ولهذا نجد المواطن العراقي لا يثق بالدولة ولا يعتمد عليها أصلا، بل يلجأ إلى المحاكم العشائرية، ولو ذكرت أمثلة حول هذه الجلسات العشائرية لتحول مقالي إلى مجلد كبير ودراسة طويلة، وليست هذه المحاكم العشائرية لعامة الناس، بل حتى الساسة والنواب والمسؤولون الكبار يلجأون إليها لحل مشاكلهم، عندما وصف بليغ أو كلل القيادي في المجلس الإعلى الإسلامي النائبة حنان الفتلاوي بالإنبطاحية، سجلت الأخيرة دعوى قضائية عليه، لكن القضاء لم يحسم الملف، فتحولت المشكلة الشخصية بينهما إلى مشكلة بين عشيرتين، لذلك حلت المشكلة بجلسة عشائرية، مما دفع عشيرة بليغ أبو كلل غرامة قدرها 100 مائة مليون دينار عراقي، مع اعتذار علني، بثته إحدى قنوات نوري المالكي، وهكذا الحال بين النائبة عواطف نعمة ووزير التربية محمد إقبال، والمشكلة الحقيقة أنه حتى القضاة المساكين يلجأون إلى المحاكم العشائرية، خذ مثلا القاضي محسن الوكيل نائب رئيس محكمة جنايات الناصرية يلجأ إلى الحكم العشائري بعد أن ضرب شخص ولده وكسر يده، ووما أكثر الأمثلة حول ذلك.


عندما جاء البريطانيون إلى العراق رأوا أن طبيعة المجتمع العراقي طبيعة عشائرية، ومن أجل استتباب الأمن أعطوا صلاحيات واسعة لشيوخ العشائر، لهذا أصدر البريطانيون نظام دعاوى العشائر المدنية والجزائية عام 1916، صدر أولا باللغة الإنجليزية The Tribal Criminal and Civil Disputes Regulation، ولعل هذه تجربة طبقها البريطانيون في الهند، ونقلوها إلى العراق لتشابه المجتمعين من الناحية الاجتماعية، ويرى الخبير القانوني طارق حرب أن الجنرال فاشو القائم بأعمال الحملة العسكرية في 27 تموز 1918 هو الذي أصدر نظام دعاوى العشائر المدنية والجزائية، والحقيقة أن المصادر الإنجليزية تنفي ذلك، وبقي هذا القانون ساري المفعول في العهد الملكي، نجد ذلك في المادة (114) من الدستور الملكي المعروف بالقانون الأساسي، تقول المادة الرابعة عشرة بعد المائة:" جميع البيانات والنظامات والقوانين التي أصدرها القائد العام للقوات البريطانية في العراق، والحاكم الملكي العام، والمندوب السامي، التي أصدرتها حكومة جلالة الملك فيصل في المدة التي مضت بين اليوم الخامس من تشرين الثاني 1914 وتاريخ تنفيذ هذا القانون الأساسي، تعتبر صحيحة من تاريخ تنفيذها، وما لم يلغ منها إلى هذا التاريخ، يبقى مرعياً إلى أن تبدله أو تلغيه السلطة التشريعية، أو إلى أن يصدر من المحكمة العليا قرار يجعلها ملغاة بموجب أحكام المادة (86)". وعندما شكلت أول حكومة عراقية برئاسة عبد الرحمن النقيب سنة 1920 كان أربعة وزراء بلا وزارة من شيوخ العشائر من مجموع 12 وزيرا، وفي سنة 1922 أعطي بعض شيوخ العشائر مقاعد انتخابية لكل محافظة، لكن ذلك تم إلغاءه بقانون الانتخابات لسنة 1924، وفي العهد الملكي كان هناك عرف دستوري بتعيين بعض الضيوخ أعضاء في مجلس الأعيان، لكن ذلك كله تم إلغاءه بعد انقلاب الجمهوريين سنة 1958، وتم إلغاء نظام دعاوى العشائر المدنية والجزائية بمرسوم جمهوري(56) لسنة 1958 في الوقائع(3) 3-8-1958، ثم جاء القانون العراقي رقم(34) لسنة 1981 بإنزال عقوبة لا تقل عن عشرين سنة سجنا لكل من احتكم إلى خارج منظومة القضاء الرسمية في البلد، وجاء في قرار مجلس قيادة الثورة المنحل(24) 24-3-1997 الذي حدد عقوبة الحبس لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات على كل من ادعى بمطالبة عشائرية، وإن كان النظام السابق لم يتخلص كليا من التأثيرات العشائرية في كثير من مناحي الحياة المتنوعة، وخاصة في القضايا العائلية والملكية.



بعد سقوط نظام البعث 2003 ظن الطبقة السياسية في العراق أنه من الضروري إحياء دور العشائر في العراق، وخاصة أن استغلال شيوخ العشائر أفضل وسيلة للانتخابات، ولهذا أضافوا مادة دستورية تتعلق بالعشائر ودورها في المجتمع العراقى، فقد ورد في المادة(45) من الدستور العراقي ثانيا: تحرص الدولة على النهوض بالقبائل والعشائر العراقية، وتهتم بشؤونها بما ينسجم مع الدين والقانون، وتعزز قيمها الإنسانية النبيلة، بما يساهم في تطوير المجتمع، وتمنع الاعراف العشائرية التي تتنافى مع حقوق الانسان.
لا ريب أن هذه المادة الدستورية زائدة لا بد أن تحذف فورا، إذا كنا نريد تأسيس دولة ديمقراطية وبناء مجتمع مدني ودولة مدنية، فما أكثر القرارات التي اتخذتها المحاكم العشائرية وهي تخالف حقوق الإنسان، هل يعقل أن تهدى خمسون فتاة وبعضهن قاصرات من قبل عشيرة القاتل لعشيرة المقتول حتى ينتهي الصلح بين الطرفين كما حصل ذلك في البصرة، أليس هذا مخالفا لأبسط مباديء الإسلام؟ أليس هذا مخالفا لحقوق الإنسان؟ وما أكثر الأمثلة على ذلك، تم تنظيم هذه المادة بقانون مجلس عشائر وعشائر العراق، يتكون هذا القانون من خمس عشرة مادة، وهي مواد متناقضة وغير متجانسة، تخالف كثير من موادها الدستور العراقي وأسس الديمقراطية والمدنية، ومن هذه المواد على سبيل المثال، المادة الثانية، ثانيا، والتي تقول أن مجلس قبائل وعشائر العراق يرتبط برئيس الجمهورية، هذه المادة تخالف المادة الثالثة والسبعين(73) من الدستور العراقي التي حددت عشر صلاحيات لرئيس الجمهورية، فمجلس قبائل وعشائر العراق هيئة مستقلة كما ورد في المادة الثالثة من القانون، فلا حاجة أن يكون مرتبطا برئاسة الجمهورية، ولكن يبدو أن الأمر كله متعلق بإرضاء الشيوخ للاستفادة منهم للانتخابات القادمة، وطلب المساعدة منهم في استقرار الوضع الأمني الهش، وخاصة في جنوب العراق، فما أكثر النزاعات العشائرية في العراق وخاصة في الجنوب، ولأن منصب رئيس الجمهورية في العراق منصب تشريفي ورمزي، فأضافوا صلاحية أخرى رمزية له، ألا وهو الإشراف على أعمال شيوخ القبائل والعشائر، مع مخالفة ذلك للدستور العراقي.


وفي المادة الثالثة عشرة: يحق للإقليم تشكيل مجلس فرعي لشيوخ القبائل والعشائر المنضوية للإقليم.
أعتقد أن المجتمع الكوردي أيضا مجتمع عشائري، لا يمكن أن ننكر دور العشائر الفعال في حل كثير من المشاكل، وخاصة المشاكل والنزاعات الملكية والعائلية والمجتمعية، ولكن لا أن يصل إلى مرحلة نقوم بتشريع قانون خاص بها، فهذا مرفوض تماما، لأن إقليم كوردستان يتجه نحو تأسيس مجتمع مدني ودولة مدنية ديمقراطية وتعددية حقيقية، واحترام حقوق الإنسان، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن نسمح بتدخل العشائر في المؤسسات الإدارية والعسكرية والقانونية والتشريعية، وإلا تحول البلد إلى فوضى لا نهاية لها، كما يحصل الآن في العراق، لا ننكر أنه تحصل بعض التجاوزات من هنا وهناك، ولكن هذه حالات نادرة، وينبغي أن يأخد القضاء دوره، لأنه ليس كل قرار عشائري قانونيا، بل ربما نجد بعض قرارتها مخالفة لحقوق الإنسان، بل حتى مخالفة لمباديء الإسلام، وتتناقض مع أسس الدولة المدنية وأبجديات الدولة الديمقراطية، فما أكثر الفتيات اللواتي قتلن من قبل العشيرة ظلما وجورا وغدرا لأسباب تافهة وبسيطة من أجل غسل العار، وليس ثمة عار أكبر من قتل الفتاة التي ربما تكون بريئة براءة الطفل المولود، لذلك ينبغي للقضاء أن يأخذ دوره حتى لا يتفسخ المجتمع ولا يتعفن نسيجه الاجتماعي، وحتى الشريعة الإسلامية تحرم قتل الفتيات حتى وإن كانت متورطة في الزنا، بل حددت عقوبة أهون منها، لأن القتل في حقيقته جريمة شنيعة، لذلك لا حاجة لإقليم كوردستان لهذا القانون، فنحن متجهون نحو تأسيس دولة مدنية، ولا يعني ذلك رفض العشائر، فالله جل جلاله هو الذي أقر هذا المبدأ، لكنه أقره للتعارف لكي نتعاون ونتكاتف من أجل الإرتقاء بالإنسانية إلى أفضل مراحلها.


سيتم التصويت على هذا القانون في القريب العاجل من قبل مجلس النواب العراقي بالأغلبية المطلقة بعد القراءة الثانية، ولربما سيصوت عليه حتى االنواب المعارضون، خوفا من انتقام شيوخ العشائر والقبائل منهم، وذلك لأن الانتخابات قادمة، والنواب بحاجة إلى أصوات شيوخ العشائر والقبائل، وخاصة حزب الدعوة وحليفهم الحزب الإسلامي السني، الذين فشلوا في إدارة البلد، ويخشون أن يسحقوا في الانتخابات المقبلة إن لم يتحصنوا بشيوخ العشائر والقبائل، ولهذا نجد حزب الدعوة بزعامة نوري المالكي من أشد المهتمين بهذا القانون، ومن أكثرهم حرصا على الاجتماع بهم، وتلبية مطالبهم، وفي الوقت نفسه نجد رئيس مجلس النواب العراقي سليم الجبوري – نائب الأمين العام للحزب الإسلامي- من أشد المتحمسين لتشريعه قبل انتخابات مجلس النواب 2018، ولهذا كثرت المؤتمرات العشائرية في بغداد والجنوب وأربيل وعمان، وهي منقسمة فيما بينها بين السنة والشيعة، فتجد عشيرة كبيرة مثل عشيرة الجبوري منقسمة بين طائفتين، فالبعد الأيدولوجي الديني لا يزال طاغيا على البعد العشائري، وهكذا الحال فيما يخص عشيرة العبيد، لذلك كل حزب يحاول جذب عشيرة معينة على أساس المذهبية، وليس على أساس اللحمة العشائرية، لأنهم أي الإسلاميون يدركون تماما أن العشيرة لا تتخلى عن انتماءها المذهبي والطائفي، والحقيقة أن الذي رسخ وكرس الطائفية في أذهان العشائر والقبائل هم الإسلاميون أنفسهم من حزب الدعوة الشيعي والحزب الإسلامي السني بعد 2003، فالعشائر والقبائل العراقية العربية كانت لا تهتم بالانتماء المذهبي والطائفي قبل 2003، ولقد تحدثت مع أحد شيوخ عشيرة العبيد في بغداد عن هذه القضية، فقال لي: لقد كنا أبناء عشيرة العبيد سنة وشيعة متحدين متحابين متواصلين، لا أحد يسأل عن انتماءه المذهبي، فلما سقط نظام البعث جاء هؤلاء فأصبحت عشيرتنا متمزقة ومتشتتة بين السنة والشيعة، لذلك كانت العشيرة الواحدة متماسكة بسنتها وشيعتها، بينما نجد تلك العشيرة المتماسكة والمتوحدة منقسمة بين السنة والشيعة بسبب سياسة الإسلام السياسي الأيدولوجي الطائفي الذي جاء بعد 2003، وقد وجدنا ما حصل لعشيرة الجبوري والعبيد، كيف مزق الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني نسيجهما الاجتماعي، فتجد سنة عشيرة الجبوري لا يصوتون لمرشح شيعي، وشيعة عشيرة الجبوري لا يصوتون لمرشح سني، وعندما حاولت جبهة ما يسمى بالإصلاح في مجلس النواب العراقي إقالة الجبوري، وقفت معه عشيرته من السنة، بينما شيعة عشيرة الجبوري أصروا على إقالته، وهكذا الحال في الصراع بين النائبة عالية نصيف ووزير الدفاع خالد العبيدي، أثناء عملية الإستجواب، فكلاهما من عشيرة واحدة، وهي عشيرة العبيد، لكن الأولى شيعية، بينما الثاني من السنة، فالبعد المذهبي الطائفي طغى على اللحمة العشائرية، وإن كانت المسألة سياسية تتعلق بصفقات تجارية سرية تحدث قبل بدأ عملية الإستجواب، لكن الأبعاد الأيدولوجية قائمة لا أحد يستطيع إنكار تأثيرها ودورها.
Top