• Friday, 22 November 2024
logo

المنهجية الفكرية الأسس والمفاهيم

المنهجية الفكرية الأسس والمفاهيم
اعداد: ريناس بنافي – باحث في الفكر السياسي والاستراتيجي
المركز الديمقراطي العربي

المقدمة:
لاشك أن أولى خطوات تحقيق النهضة، واستعادة الأمة لعافيتها، يقوم على الوعي ، والوعي لا يتحصل الا بالمنهجية وهذا يشكل المدخل الطبيعي للإقلاع الحضاري،إذ أن الوعي المنهاجي هو الطريق والخطة والاستراتيجية، “والذي يتطلب بالضرورة وضوحا في خطوات البناء المنهجي، وفي سبل السعي للانتقال من مرحلة الى اخرى الأخذ بالأسباب وتنفيذ البرامج، ويتطلب هذا الوضوح قدرة على التمييز بين عملية بناء المفاهيم وعملية بناء الأطر المرجعية للتحقق من فعالية تلك المفاهيم ولتحقيق غاية المنهجية”.
وان من أسباب ضمور هذا الوعي المنهجي في الأمة، هي سلسلة الهزائم العسكرية والسياسية التي أطاحت بالعديد من الطموحات الفردية والجماعية للأمة، وحتى عندما كان هذا الوعي يبرز في بعض الخطابات الإصلاحية مثلا، لم يكن يذهب لعمق الإشكاليات التي تواجه الأمة، فهذا الوعي تجسد ب”منهجيات أحادية قاصرة” حيث كان البعض يدعو إلى منهج يقدس فيه الماضي ويثني على السلف، ويدعو الى القطيعة مع مناهج الغربيين وبيان عرواتهم ومثالب إنجازاتهم.ومنهم من دعا إلى منهج حديث اعمل فيه فنون جلد الذات، والاختيارالانتقائي من التاريخ الإسلامي.والدعوة إلى القطيعة معه، والارتماء في أحضان الغرب لما له من عبقرية وسيادة.كل هذه النماذج من الوعي لم تستطع أن تنهض بديلا عن واقع متخلف متهالك، لهذا تصبح الدعوة إلى تجديد الوعي المنهاجي حاجة حضارية ماسة.
أن التفكير المنهجي ضرورة لنجاح أي عمل، بوصفه يرسم طريق الوصول إلى الغاية المنشودة، وأن الوعي بهذه الضرورة ليس أمراً مستحدثاً، بل كان مصاحباً للإنسان عبر تاريخ وعيه، وأن هذا الوعي لم يقتصر على دائرة حضارة دون أخرى، ولا مجال اهتمام أو تخصص معين دون غيره. ومع ذلك فإنّ كثيراً من الناس يفشلون في تحقيق أهدافهم القريبة أو البعيدة؛ لأنهم لا يسلكون إليها منهج الوصول، ويصدق هذا على الفرد والجماعة والأمة.
ومع أن كثيراً من المفكرين والباحثين المسلمين قد كتبوا –قديماً وحديثاً- عن المنهجية وأهميتها وضرورة التفكير المنهجي ومظاهر الخلل في فعاليات العقل المسلم، فإن مظاهر التخلف العديدة في الواقع المعاصر للأمة المسلمة يشهد على كثير من الخلل المنهجي في التفكير وفي البحث وفي التعامل مع الأمور؛ الأمر الذي يستدعي استمرار التنبيه على أهمية الموضوع، ودعوة فئات الأمة عامة والقيادات الفكرية الواعدة فيها على وجه الخصوص، إلى التمكن من متطلبات التفكير المنهجي ولوازم العمل المنهجي، في ميادينه ومستوياته المختلفة.
وتهدف هذه الورقة إلى بيان دلالات مفهوم المنهجية والمفاهيم ذات العلاقة به.
مفهوم المنهج والمنهجية والفرق بينهما:
كثر استعمال ألفاظ النهج والمنهج والمنهاج، أو(المنهجية والمنهاجية) في الأدبيات المعاصرة، وبخاصة في الدراسات النقدية والفلسفية والتاريخية.
والنهج والمنهج والمنهاج في اللغة بمعنى واحد وكلها تشترك في إشارتها إلى الطريق، المستقيم، الواضح، الذي يوصل إلى الغاية بسهولة ويسر، كما تتضمن معنى الإسراع في السير في الطريق لوضوحها أو في إنجاز العمل لوضوح طريقته. ويأتي أصل هذه الألفاظ لغة من الجذر نَهَجَ وأَنْهَجَ بمعنى وضح واستبان وصار نهجاً واضحاً بيّناً. جاء في التنـزيل الحكيم قوله تعالى: “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً” (المائدة: 48)، والنهج هو الطريق المستقيم، والمنهاج هو الطريق المستمر. وطريق ناهجة أي واضحة . (1)
تعريف المنهج :
هو الطريقة التي تعين الباحث على أن يلتزم باتباع مجموعة من القواعد العامة التي تهيمن على سير العقل سيرا ً مقصودا ً في البحث العلمي ، ويسترشد بها الباحث في سبيل الوصول إلى الحلول الملائمة لمشكلة البحث .
ويعرفه الدكتور محمد الصباغ بأنه : ( فن التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار، إمّا من أجل الكشف عن الحقيقة حين نكون بها جاهلين، وإما من أجل البرهنة عليها للآخرين وتعليمهم إيّاها حين نكون بها عارفين )
ويعرفه عبد الرحمن بدوي بأنه ( الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم،بواسطة طائفة من القواعد العامة تهيمن على سير العقل و تحدد عملياته حتى يصل إلى نتيجة معلومة.)
و هناك من يرى أن كلمة منهج تعني ( عدة أدوات استقصائية تستعمل في استخراج المعلومات من مصادرها الأصلية و الثانوية، البشرية و المادية، البيئية و الفكرية، تنظم بشكل مترابط و منسق لكي تفسر و تشرح و تحلل و يعلق عليها.)
و من جهته يحدد عامر مصباح معنى المنهج بأنه ( مجموعة الخطوات العلمية الواضحة و الدقيقة التي يسلكها الباحث في مناقشة أو معالجة ظاهرة اجتماعية أو سياسية أو إعلامية معينة.)
و حسب تعريف بلقاسم فإن المنهج في العلم يعني ( جملة المبادئ و القواعد والإرشادات التي يجب على الباحث إتباعها ،بغية الكشف عن العلاقات العامة و الجوهرية و الضرورية التي تخضع لها الظواهر موضوع الدراسة.)
أما الباحث فاضلي إدريس فيقصد بالمنهج بمعناه العلمي بأنه ( البرنامج الذي يحدد مسبقا سلسلة من المعطيات من أجل القيام بها، وبذلك فإن المنهج يوحي باتجاه محدد المعالم و متبع بانتظام في عملية ذهنية.)
و يذكر الباحث أنجرس موريس المنهج بانه ( عبارة عن جواب لسؤال (كيف) نصل إلى الأهداف،في حين أن التقنيات تشير على الوسيلة التي يتم استخدامها للوصول إلى هذه الأهداف.)
ويرى حلمي صابر أن المنهج العلمي: (هو الأساس الذي ينطلق منه الباحث في بحثه لحل المشكلة أو نقدها، أو إدراك الحقيقة، واختبار صحتها )
ويرى سيف الدين إسماعيل أن المنهج: ( هو أساس المفاهيم التي يوظفها الباحث في معالجة موضوعه والطريقة التي يوظفها بها.)
ويعرف كمال زيتون مناهج العلوم بأنها: مصطلح يشير إلى مجموعة مشروعة وصادقة من المعتقدات ، والقيم والمعارف والمهارات و الاتجاهات العلمية، من شأنها أن تدفع من يكتسبونها _ بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، واعية أو غير واعية – إلى القيام بأنماط معينة في التفكير وفي السلوك.
اما المنهجية: فهيه الطريق التي يتبعها الباحث من أجل الوصول الى الهدف المنشود.
فنعني بالمنهجية :
اتباع مجموعة من المعايير والتقنيات والوسائل قَبْل البحث، وفي إثنائه، ولمزيد من التوضيح والدلالة على الفَرْق بين المنهج والمنهجية، نورد هنا ما ذَكَره د. إميل يعقوب بقوله: (ونميل إلى التمييز بين المنهج والمنهجية)؛ استنادًا إلى الاعتبارات التالية: (2)
أنَّ “المناهج” وصْف لأعمال العلماء المتقدِّمين، وطرائق بحوثهم وأساليبهم، ومصطلحاتهم في العلوم، والبحْث العلمي سابقة للمناهج، أما (المنهجيَّة) فمجموعةُ معايير وتقنيات ووسائل يجب اتِّباعها قبلَ البحث وفي إثنائه.
أنَّ المنهجية، كالمنهج، وصفيَّة؛ لأنَّها تبيِّن كيف يقوم الباحثون بأبحاثهم، لكنَّها تختلف عنه في أنها معيارية في الوقت نفسه؛ لأنَّها تقدِّم للباحث مجموعةَ الوسائل والتقنيات الواجب اتباعُها.
أنَّ مناهِجَ الدِّراسة تختلف من علم إلى آخَرَ، فللأدب مناهجه، وكذلك للغة، وللتاريخ، والبيولوجيا، والرِّياضيات، أما المنهجية فواحدة عمومًا.
أنَّ المناهج تُطرْح عادة للنقد والتقويم، فيفصل ما لها وما عليها، وأيها أوْلى بالاتِّباع، وما المنهج المناسب من الدِّراسات، أما المنهجية، فمعاييرُ وتقنياتٌ يجب التزامها لتوفير الجهد، وعدم إضاعة الوقت، وتسديد الخُطى على الطريق العلمي الصحيح.
أنَّ المناهج مرتبطة بالمنطق وطرق الاستدلال والاستنتاج، ولذلك فهي تتطوَّر وتتعدَّل من حين لآخر، أما المنهجية فأضحتْ – عمومًا – جملة قواعد ثابتة.
ويعرف محمد البدوي المنهجية بأنه علم يعتني بالبحث في أيسر الطرق للوصول إلى المعلومة مع توفير الجهد و الوقت ,و تفيد كذلك معنى ترتيب المادة المعرفية و تبويبها وفق أحكام مضبوطة للوصول الى الفكرة المطلوبة.
إن المنهجية هي ما يقابلها باللغة الفرنسية (Méthodologie) وهذا المفهوم مركب من كلمتين Méthode و تعني المنهج (الطريقة) و logie و تعني علم، ومن خلال التحديد اللغوي لمفهوم المنهجية يتجلى لنا واضحا بأن المنهجية اصطلاحا هي عبارة عن ذلك ” العلم الذي يهتم بدراسة المناهج أي أنها علم المناهج (علم طرق البحث العلمي)”.
فكلمة منهجية تعني بذلك ” الدراسة المنطقية لقواعد و طرق البحث العلمي و صياغتها صياغة إجرائية تيسر استخدامها.”
و حسب الباحث أنجرس موريس فإن المنهجية هي ” مجموع المناهج و التقنيات التي توجه إعداد البحث و ترشد الطريقة العلمية،أي هي دراسة المناهج والتقنيات المستعملة في العلوم الإنسانية.”
و يبحث علم المناهج في تاريخ المناهج و طرائق البحث العلمي من حيث النشأة،بل من حيث الأسباب التي أدت إلى نشوء المناهج و طرائق البحث،كما يبحث في الشروط المتعلقة بإمكان استخدام هذه المناهج و الطرائق،كما يشمل علم المناهج التحقق الفعلي من كفاية المناهج والطرائق في الحصول على نتائج صادقة و صحيحة من الواقع الاجتماعي،وتبحث الميتودولوجيا كذلك في تركيب المناهج و العناصر التي تتكون منها و تصنيفها،وفي العلاقات الجوهرية بين المناهج و الطرائق المختلفة،فضلا عن البحث في إمكانات استخدامها (المناهج) و حدود هذا الاستخدام.
وما يمكن أن نستنتجه هو أن المنهجية أشمل و أعم من المنهج،وما هذا الأخير سوى جزء لا يتجزأ من المنهجية.
ويؤكد سيف الدين عبد الفتاح بأن ( المنهاجية والمنهج مفهومان متمايزان ومنفصلان ، فالمنهاجية هي علم دراسة الطرائق وتكوينها وبنائها وتفعيلها وتشغيلها ، فهي منهج المناهج بهذا الاعتبار ، وأما المنهج أو المناهج فهو مفردات هنا أو هناك ، و أدوات و وسائل ، وقواعد وخطوات وإجراءات هي من مكونات المنهاجية ولكن تستوعبها ، ذلك أن علم المنهاجية يتواصل في رؤية فيما قبل المنهج والمنهج ذاته وفيما بعد المنهج في سياق وأصل ورابط بين هذه المنظومة والعناصر المنهاجية وعمليات التفاعل والتشغيل المرتبطة بها.)
و يعرف محمد نصر عارف المنهجية ( Methodology ) بأنها: هي العلم الذي يدرس كيفية بناء المناهج واختيارها وتشغيلها وتعديلها ونقضها وإعادة بنائها، يبحث في كلياتها و مسلماتها وأطرها العامة، فهو الواصلة ما بين النموذج المعرفي والمناهج التي تمثل الوسائل والطرق التي تستخدم للوصول إلى الحقيقة.
ويعرف آخر مصطلح (منهجية ) بأنه: مصطلح عام يتضمن مصطلحات فرعية تدخل في أعمال البحث.
ويحدد أحمد فؤاد باشا المنهجية: بمعنى استخدام منهج علمي يتفق وطبيعة البحث في موضوع معين أو عدة موضوعات منتظمة في سياق، بهدف الوصول إلى معرفة علمية جديدة يستفيد منها الإنسان لخدمة أغراضه و طموحاته.
وفي بحث آخر يطلق أحمد فؤاد باشا على المنهجية اسم ( علم مناهج البحث ) والذي يشمل دراسة وتحليل كل ما يتعلق بالعلوم ولغاتها وتطورها وتقنياتها من مختلف النواحي المعرفية والمنهجية و القيمية و الأنطولوجية والاجتماعية والتاريخية وغيرها بهدف التعرف على مكانة العلم في حياتنا ودوره في تكوين نظرة الإنسان الشاملة للقضايا الوجود والحياة.
ويعرف محمد أبو يحيى، و زملاؤه المنهجية بأنها : (المحاولات العلمية والقواعد والمحاور المنظمة التي تقوم عليها دراسة مسائل وحقائق موضوعات الثقافة الإسلامية، حتى تصبح علما مستقلا له كيانه القائم بذاته . فالمنهجية هي التي توجه مسيرة هذا العلم للوصول إلى بنائه وتأسيسه و كينونته وجوهر العلم يكمن في دقة المنهج وأحكامه وبغير المنهج فليس ثمة طريق يوصل إلى النتائج والأهداف مهما بذل من جهد. )
التفرقة بين المنهج وبعض المفاهيم المرتبطة به:
المنهج و الاقتراب: يعتبر الاقتراب من بين المصطلحات القريبة من مصطلح المنهج أو التي تتقاطع جزئيا معه ،وتعرف المقاربة المنهجية بأنها ” استراتيجية عامة أو أسلوب تحليلي يؤخذ كأساس عند دراسة و تحليل الظواهر السياسية أو الإعلامية أو الاجتماعية، وغالبا ما يستخدم في تحديد نقاط التركيز في الدراسة و في كيفية معالجة الموضوعات أو الاقتراب منها و تحديد وحدات التحليل…يؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر في اختيارنا للمفاهيم و الأدوات المنهجية المستخدمة في الدراسات السياسية و حتى في النتائج و الاستنتاجات التي يسعى الباحثون في التوصل إليها.”
المنهج و النهج و المنهاج: نعني بالمنهج المسلك الذي يتخذه الباحث و يختاره لمعالجة مشكلة البحث، أما النهج فهو الطريق المستقيم الواضح المعالم (الطريق)مثل نهج العربي تبسي، وبالنسبة للبحث العلمي تعني كلم نهج الأمر الذي توضحت مساراته، أما كلمة منهاج فهو المقرر أو الخطة المرسومة لأي مشروع فيقال منهاج الدراسة و منهاج العمل، وتعني الخطة التي ندرسها من أجل السير فيها للوصول إلى تحقيق الأهداف المخططة مسبقا وفق المنهاج المرسوم.
المنهج و الطريقة: هناك من يعتبرهما شيئا واحدا و ترجمة لنفس الكلمة اللاتينية( Méthode )، فمثلا عندما نقول طريقة المقارنة، وطريقة دراسة الحالة نقصد بها المنهج، في حين ترى مجموعة ثانية من الباحثين أن المفهومين لا يعنيان شيئا واحدا و إن اشتركا في بعض الأمور كونهما يعنيان قواعد وإرشادات توجه الباحث نحو تحقيق هدفه من البحث، في حين أن تعريف الطريقة ينتهي عند هذا الحد ،ويتجاوز تعريف المنهج ذلك ليشمل إضافة إلى ذلك الشروط التي يجب توافرها في المنهج كضرورة الوصول على القوانين ،وهو أمر لا يتوفر في الطريقة.
أما نقطة الاختلاف الأساسية بين المفهومين هي ارتباط المنهج بنظرية ما أو فلسفة ما تختلف عن غيرها من النظريات والفلسفات فتؤدي إلى اختلاف في استخدام هذا المنهج أو ذاك.أما الطريقة فهي حيادية إلى حد كبير و لا يختلف استخدامها باختلاف المناهج المستخدمة.، فالمنهج العلمي هو أكثر شمولا و اتساعا من الطريقة.
المنهج و الوسيلة: هذه الأخيرة نقصد بها أدوات جمع البيانات وهي الوسائل المستخدمة التي يستعملها الباحث في جمعه لبيانات البحث، ومن بين هذه الوسائل التي تم الاتفاق عليها من طرف جميع الباحثين على أنها أداة نذكر :الملاحظة، المقابلة، الاستمارة و الوثائق والخرائط و الرسوم.
فالوسيلة إذن هي أداة منهجية تقوم على قواعد و مبادئ محددة تساعد على جمع البيانات المطلوبة من وحدات البحث العلمي.
و خلاصة القول أنه و إن اختلفت استعمالات كلمة منهج في ألفاظها إلا أنها تدور في فلك معنى واحد، فهو الطريقة أو الأسلوب أو الكيفية أو الوسيلة المحددة التي تؤدي إلى الغرض المطلوب أو إلى الغاية المعينة.
لذلك فإن المنهجية هي مجموعة الإجراءات والآليات المتعارف عليها بين العلماء والتي يمكن استخدامها للملاحظة والكشف والتحقيق في اكتساب المعرفة والوصول للحقائق. والغرض الاساسي من المنهجية هو محاولة فهم الأمور والعلاقات في المحيط الذى يعيش فيه الانسان من أجل الوصول الى النظريات والقوانين التي تحكم الكون وتُسيره. وهو العلم الذي يدرس المناهج البحثية المستخدمة في كل فرع من فروع العلوم المختلفة. لذلك يعتبر فرعا من فروع الأبستمولوجيا . (3)
الفارق بين المناهج والاتجاهات التفسيريّة
المنهج التفسيري لكلّ مفسِّر هو تبيين طريقة كلّ مفسِّر في تفسير القرآن الكريم، والأداة والوسيلة الّتي يعتمد عليها لكشف الستر عن وجه الآية أو الآيات؟ فهل يأخذ العقل أداة للتفسير أو النقل؟ أو يعتمد في تفسير آيات القرآن على نفس القرآن الكريم، أو على السنّة الشريفة، أو على كليهما، أو غيرهما؟ وفي الجملة ما يُتّخذ مفتاحاً لرفع إبهام الآيات، هو ما نسمّيه المنهج في تفسير القرآن.
وأمّا البحث عن الاتجاهات والاهتمامات التفسيريّة، فالمراد منها المباحث الّتي يهتمّ بها المفسِّر في تفسيره مهما كان منهجه وطريقته في تفسير الآيات، مثلاً تارة يتّجه إلى إيضاح المادّة القرآنية من حيث اللغة، وأُخرى إلى صورتها العارضة عليها من حيث الإعراب والبناء، وثالثة يتّجه إلى الجانب البلاغي، ورابعة يعتني بآيات الأحكام، وخامسة يصبّ اهتمامه على الجانب التاريخي والقصصي، وسادسة يهتمّ بالأبحاث الأخلاقيّة، وسابعة يهتمّ بالأبحاث الاجتماعية، وثامنة يهتمّ بالآيات الباحثة عن الكون وعالم الطبيعة، وتاسعة يهتمّ بمعارف القرآن وآياته الاعتقادية، وعاشرة بالجميع حسبما أُوتي من المقدرة.
ولا شكّ أنّ التفاسير مختلفة من حيث الاتجاه والاهتمام، إما لاختلاف أذواق المفسِّرين وكفاءاتهم ومؤهِّلاتهم، أو لاختلاف بيئاتهم وظروفهم، أو غير ذلك من العوامل.
وإن شئت أن تُفرِّق بين البحثين فنأتي بكلمة موجزة، وهي أنّ البحث في المناهج بحث عن الطريق والأسلوب، والبحث في الاهتمامات بحث عن الأغراض والأهداف الّتي يتوخّاها المفسِّر، وتكون علّة غائية لقيامه بالتأليف في مجال القرآن.
وعرّف بعض الباحثين المنهج والاتجاه بما يلي:
المنهج: هو الاستفادة من الوسائل والمصادر الخاصّة في تفسير القرآن والّتي يمكن من خلالها تبيين معنى ومقصود الآية والحصول على نتائج مشخَّصة. وبعبارة أخرى: إنّ كيفية كشف واستخراج معاني ومقاصد آيات القرآن الكريم هو ما يطلق عليه “منهج التفسير”.
الاتجاه: هو تأثير الاعتقادات الدِّينية، الكلاميّة، والاتجاهات العصريّة وأساليب كتابة التفسير، والّتي تتكوّن على أساس عقائد واحتياجات وذوق وتخصُّص المفسِّر. (4)
الفرق بين كل من الاتجاه والمنهج والطريقة عند الباحثين المعاصرين
كثر في الدراسات المتأخرة استعمال الاصطلاحات الثلاثة ولأن هذه المفردات الثلاث مصطلحات حديثة ولا نكاد نجد لها ذكراً عند أصحاب الدراسات القرآنية الأوائل فإن أصحابها في العصر الحديث لا تكاد تجدهم يتفقون على معنى واحد لكل منها فالاتجاه مثلا فعلى الرغم من حداثته وعدم استخدام السابقين له بالمفهوم الموجود الآن في الدراسات القرآنية ؛ إلا أن ذلك لا يمنع محاولة تلمس مفهوم عام له يتفق عليه الباحثون ، فلا ينازع أحد في أن
الاتجاه يمثل فكرة كلية أو إطاراً عاماً ينضبط به سير المفسر ، ويعكس لنا بصدق مصدر ثقافته الذي تأثر به وسار على ضوئه في تفسيره ، بحيث يكون هذا الفكر العام غالباً على تفسيره ، ويكاد أن يُدرَكَ لأول وهلة ، وهذا الاتجاه يتحدد أساساً بمجموعة الآراء والأفكار والمعتقدات والمباحث التي تشيع في عمل فكري – كالتفسير – بصورة أوضح من غيرها ، وتكون غالبة على ما سواها ، ويحكمها إطار نظري أو فكرة كلية
أما منهج المفسر فهو ” الأفكار النظرية والقناعات العلمية التي تعامل بها المفسر وعالج بها قضايا التفسير ، مع إبراز رأيه وتحديد مواقفه حيال هذه القضايا بكل وضوح ، ويكون ذلك عبر تتبع واستقراء كلامه على الموضوع الواحد في جميع المواطن المتفرقة من تفسيره . عندئذ تبرز لنا الأسس والضوابط التي سار عليها المفسر ثم تجمع في نسق واحد يعرف بمنهج المفسر” وإذا نظرنا إلى التفاسير التي تنسب إلى اتجاه واحد – سواء كان ذلك الاتجاه أثرياً أو اجتهادياً – نرى أن لكل تفسير منها منهجاً متميزاً ، وخطاً واضحاً سلكه المفسر من أول تفسيره إلى آخره وإن كان الجميع ينسب إلى اتجاه واحد . خذ مثلاً اتجاه التفسير بالمأثور – وإن كان ذلك لا يدرك لأول وهلة – وكيف سلك المنتسبون إليه مناهج مختلفة ، فبينما هو عند أبي حاتم والبخاري يميل نحو ” الحديث ” نراه عند ابن كثير يميل إلى الفقه ، وعند ابن عطية يميل إلى اللغة.
وكذلك اتجاه التفسير بالرأي ، سلك مفسروه مناهج مختلفة ، فهو عند الفخر الرازي جدلي علمي كلامي ، وعند الزمخشري منهجي لغوي بياني .
بل وجدنا مناهج مختلفة داخل الاتجاه التجديدي المعاصر . فالمنار إصلاحي اجتماعي ، والظلال وجداني ذوقي ، وعند أمين الخولي وبنت الشاطئ لغوي بياني ، وعند الشعراوي لغوي موسوعي .وهكذا ظهرت مناهج متعددة للمفسرين تدور داخل اتجاهاتها الأصلية أو التقليدية ، فعرف المنهج الفقهي والمنهج العلمي ، والمنهج البياني ، والمنهج الاجتماعي ، والمنهج الإشاري ، وكلُّ له أصوله وسماته وملامحه الطريقة :
وإذا كان لكل مفسر – في الأغلب – أسلوب واحد في تناول الآيات القرآنية بشكل متسلسل كما هي عليه في المصحف الشريف ، إلا أنه كان لكل مفسر طريقة شكلية في تناول النص القرآني ، فيبدأ أحدهم بالنص ثم بيان معاني المفردات ووجوه البلاغة فيها ثم أسباب النزول ، ويأتي مفسر ثانٍ ليذكر النص أولاً ثم يمزج بين المفردات وبين المعنى الإجمالي للنص ، ويختلف ثالث فيجمع الآيات المتفرقة التي تتناول قضية واحدة فيتناولها بالتفسير ؛ من غير مراعاة لترتيبها في المصحف ، فعنايته بالموضوع لا بالترتيب ، وقد يقتصر المفسر على رأيه وقد يورد آراء المفسرين ويقارن بينها ثم يختار ما يراه الأصح منها ، وأحياناً يميل المفسر إلى الإكثار من القراءات ، بينما لا يذكرها غيره إلا نادراً ، وقد نرى مفسراً يتعرض للردود على موهمات الخلاف ، وهذا ما نستطيع أن نسميه “طريقة المفسر” أو ” أسلوبه ومن ثم يمكننا تعريف الطريقة بأنها ” كيفية استخدام المفسر لأفكاره المنهجية وتطبيقها في تفسير الآيات والترتيب بين هذه الأفكار ، وما ينقل حول الآيات من آثار كأسباب النزول وقراءات القرآن وناسخه ومنسوخه وغيرها ، ثم ترتيبه الداخلي بين هذه الموضوعات مجتمعة إذن علاقة الطريقة بالمنهج علاقة الشكل بالموضوع ، فالمنهج متعلق بالموضوع – وقد يتطرق إلى الناحية الشكلية – بينما الطريقة تعُنى بالدراسة الوضعية الشكلية. (5)
والخلاصة، إن ما ندركه من الواقع ليس إلا خلاصة تفاعل عناصر ثلاثة ذكرها نصر محمد عارف: وهي المسلمات الكامنة في أذهاننا، أو هي المنهجية التي نعتمد عليها، والأدوات أو المناهج المستخدمة في الدراسة والحقائق الواقعية. ومن ثم فالبحث القائم على منهجية سليمة متسقة لا يعني أنه ينقل الحقيقة كما هي بصورة كاملة، بل ينقل أقرب صورة منها.وانما يقول فيه قولا قد يختلف عليه ومعه آخرون.
أهمية المنهج الفكري:
تتعلق المنهجية بعملية التفكير وطبيعة الفكر الذي ينتج عنها. وترتبط بغاياته ومقاصده العامة. ولذلك فإن قضية المنهجية في بعدها الفكري لا تنفصل عن الواقع والحياة. فغاية الفكر إقامة الحياة المثلى . وإذا انعزل الفكر عن الحياة فإنه يفقد فاعليته وتتجاوزه الحياة. وكذلك الحياة إذا غايرت الفكر السليم ضلّت الطريق وسقطت في متاهات القيم والتصورات الخاطئة.
ولا شك في أن قضية المنهجية هي إحدى قضايا فلسفة العلوم في التصنيفات المعاصرة لمجالات المعرفة العلمية وتخصصاتها. وتكشف أية محاولة لرصد واستعراض الأدبيات المعاصرة التي تهتم بمجالات فلسفة العلوم عن غياب كبير لمثل هذه الدارسات في العالم الثالث، فيما عدا جهود فردية متناثرة هنا وهناك.
ان الأزمة الفكرية التي تعاني الأمة منها، ما هي الا وجه من وجوه غياب المنهجية الفكرية، ونجد أن ميادين التأسيس المنهجي والرؤية النظرية في المنهج غير مطروقة تماماً ، وأن القليل المتوافر من الأدبيات حول الموضوع محدود في التنبيه على إشكالية المنهج، وأهمية إعمال النظرة المنهجية والرؤية المنهجية والقراءة المنهجية..الخ. وقلّما نجد ممارسة منهجية في المجالات المعرفية المختلفة يقوم بها أهل الاختصاص في هذه المجالات.
مسألة المنهجية تقوم على تحديد طبيعة الجهد اللازم لإعادة بناء الأمة ولتمكينها من أداء دورها، على اعتبار أن الأمة تعاني من انحراف خطير يتهددها، ويلزم تطوير علاج لأزمتها، ولتمكينها .
فمفهوم المنهج ومسارات تطوره ونجاحاته الأولى وإخفاقاته التالية أمور تحتاج إلى دراسة ونظر؛ والسبب في توقف فاعلية علماء المسلمين هو المشكلات المبكرة التي طرأت على واقع الحياة السياسية والاجتماعية في المجتمع الإسلامي حيث استبد السلطان بالإدارة العامة والسياسة، وتراجع العلماء أو أجبروا على التراجع عن المواقف والقضايا العامة للأمة ليشتغلو بالفقه وقضايا الفكر المعزول على الفعل في الواقع. فكانت نتيجة ذلك الاقتصار على المتابعة والتقليد وتوقف إبداع العقل. (6)
وأهمية المنهجية تكمن باعتبارها :
أ- أداة فكر و تفكير و تنظيم:
أداة هامة في زيادة المعرفة و استمرار التقدم و مساعدة الدارس على تنمية قدراته في فهم المعلومات و البيانات و معرفة المفاهيم و الأسس و الأساليب التي يقوم عليها أي بحث علمي.
ب- أداة عمل و تطبيق :
تزود الباحث بالخِبرات التي تمكنه من القراءة التحليلية الناقدة للأعمال التي يتفحصها و تقييم نتائجها و الحكم على أهميتها و استعمالها في مجال التطبيق و العمل.
ج- أداة تخطيط و تسيير :
تزود المُشتغلين (خاصة في المجالات الفكرية) بتقنيات تساعدهم على معالجة الأمور و المشكلات التي تواجههم.
وعند استقراء الاساليب المنهجية عند بعض الكتاب والمفكرين والعلماء نجد الاختلاف الواضح فيما بينهم في كيفية بلورة هذا الاسلوب او ذاك وتبنيه في كتاباتهم العلمية والفكرية والدينية والاجتماعية.
وتتباين طرقهم من حيث ثقافتهم وشخصياتهم ومدى قوتها وثباتها وسعة رؤيتها للأوضاع المحيطة في المجتمع وفي الساحة الفكرية والعلمية.
ولعل البعض يتساءل عن الاسباب الواقعية في اتباع بعض الاساليب المنهجية السلبية في هذا الشأن وماهي الدوافع في ذلك؟ (7)
وهذا سؤال جوهري يسلط الضوء على هذه الظاهرة السلبية أتصور أن الخوف هو العامل الرئيسي في استشراء هذه الظاهرة وامتدادها على مدى سنوات طويلة.
وينبثق من الخوف عوامل وأدوات كثيرة منها:
الخوف على النفس.
الخوف على المكانة والمنصب.
الخوف من تضرر بعض المصالح.
الخوف من فقدان الكثير من افراد المجتمع.
الوعي المنهجي:
لمّا كانت المنهجية هي علم بيان الطريق، فإن الوعي المنهجي ضرورة لازمة لأنّ الطريق قد يطول وتعتريه الكثير من العوارض وتتعدد فيه المنازل، فما بين المنحنيات التي قد تخرج السالك عن سبيله، وما بين المعارج التي قد ترتفع به لتفسح الآفاق، تكثر المزالق والمهلكات التي تتعثر إزاءها الخطوات، وعندها تكون المنهجية مصدراً لابتغاء الرشد.
أن أولى خطوات تحقيق النهضة، واستعادة الأمة لعافيتها، يقوم على الوعي المنهاجي وهذا الوعي يشكل المدخل الطبيعي للإقلاع الحضاري،إذ أن الوعي المنهاجي هو الطريق والخطة والاستراتيجية، والذي يتطلب بالضرورة وضوحا في خطوات البناء المنهجي، وفي سبل السعي للانتقال من مرحلة الى اخرى الأخذ بالأسباب وتنفيذ البرامج، ويتطلب هذا الوضوح قدرة على التمييز بين عملية بناء المفاهيم وعملية بناء الأطر المرجعية للتحقق من فعالية تلك المفاهيم ولتحقيق غاية المنهجية”.
ان أسباب ضمور الوعي المنهاجي في حياة الأمة، يعود إلى سلسلة الهزائم العسكرية والسياسية التي أطاحت بالعديد من الطموحات الفردية والجماعية للأمة، وحتى عندما كان هذا الوعي يبرز في بعض الخطابات الإصلاحية مثلا، لم يكن يذهب لعمق الإشكاليات التي تواجه الأمة، فهذا الوعي تجسد بمنهجيات أحادية قاصرة حيث كان البعض يدعو إلى منهج سلفي يقدس الماضي والثناء على السلف، والقطيعة مع مناهج الغرب .
ومنهم من دعا إلى منهج حديث اعمل فيه فنون جلد الذات، والاختيار الإنتقائي من التاريخ الإسلامي. والدعوة إلى القطيعة معه، والارتماء في أحضان الغرب لما له من عبقرية وسيادة. كل هذه النماذج من الوعي لم تستطع أن تنهض بديلا عن واقع متخلف متهالك، لهذا تصبح الدعوة إلى تجديد الوعي المنهاجي حاجة حضارية ماسة.
ويتطلب الوعي المنهجي بالضرورة وضوحاً في خطوات البناء المنهجي، وفي سبل السعي للانتقال من الغاية إلى الأخذ بالأسباب وتنفيذ البرامج لتحقيقها، ويرتبط هذا الوضوح المطلوب بتوافر قدرات معينة، منها مثلاً التمييز بين عملية بناء المفاهيم وعملية بناء الأطر المرجعية للتحقق من فعالية تلك المفاهيم ولتحقيق غاية المنهجية. وقد أطلقت منى أبو الفضل على هذا التمييز مصطلح (العقدة المنهجية) ثم أشارت إلى أننا لا نستطيع تجاوز هذه العقدة المنهجية وارتياد الوثبة الحضارية المرتقبة ما لم يتحقق الوعي المنهجي اللازم للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامية.
ولعل من المفيد في هذا المقام الإشارة باقتضاب إلى علاقة الوعي المنهجي بآليات التفكير الإنساني وصوره ومستوياته. يقولون إن العلم –أي علم- هو بمنهجه لا بموضوعه، أو على الأقل بمنهجه وموضوعه معاً، فاكتساب العلم وحصول المعرفة والإدراك عند الإنسان عملية فاعلة ومنفعلة، إذ تتأثر منهجية الباحث بعقليته ونفسيته وسائر المؤثرات التي تشكل شخصيته، وتشترك في الوقت نفسه في صياغة الوعي العام في المجتمع وأنماطه الثقافية التي تحدد بدورها قضايا البحث العلمي وأولوياته ومعاييره.
وتؤثر منهجية التفكير في وعي الإنسان بالواقع؛ فعندما يفكر الإنسان ويحاول نقل الواقع كما يدركه، فإنه لا ينقل الواقع ذاته، وإنما يقترب منه بقدر ما يستخدم من منهجية مناسبة. وتتعلق هذه المحاولة بنتيجة التفاعل بين ثلاثة عناصر . (8)
الأول هو المدركات القبلية المستقرة في ذهن الإنسان، وتتمثل عادة بمجموعة المبادئ والقيم التي تتصل بالفطرة أو تأتي من النظم والظروف الاجتماعية.
والثاني هو الأدوات التي يستخدمها والعمليات العقلية والشعورية وملكات الحدس والخيال والإرادة التي يمارسها.
والثالث هو الحقائق الموضوعية المرتبطة بالواقع؛ أي خصائصه الكمية والكيفية، وعلاقاته بما حوله.
ويتم التفاعل بين هذه العناصر في العقل الإنساني الذي يقوم بتنظيمها ضمن ما يسمى بالخبرة الإنسانية، وهذه الخبرة هي المضمون الذي يستخدمه الوعي الإنساني لفهم الواقع الطبيعي والاجتماعي، وإدراك موضوعاته وظواهره، وتفسيرها وبيان دلالاتها وإمكانات توظيفها في الفهم والسلوك. ومع ذلك فإن وعي الفرد الإنساني قد يكون وعياً مزيفاً؛ لأن الواقع الاجتماعي وظروفه وإرغاماته يفرض على الأفراد قيوداً وشروطاً تتطلب التماهي مع الثقافة السائدة والوعي (أو اللاوعي) الجمعي، وهذه الظاهرة هي أحد أسباب الركود والتوقف عن العطاء الفكري والحضاري للمجتمعات.
وأخطر أشكال التزييف أو الارتباك في الوعي هو ما يتعلق بالمنهج، فإن افتقاد الوعي المنهجي “يجعلنا ننحرف بالمنهاجية ووظيفتها، بل قد يتطرق بنا الأمر إلى الاطلاق على بعض منها اسم المنهج، رغم أنها لا تمت لهذه التسمية بصلة؛ فالمنهاجية في حقيقتها تعدّ مصدراً لابتغاء الرشد وتحقيق الوعي، فإذا كان المنهج هو الطريق الموصل إلى المقصد فإنه يفرض علم الطريق وبيان الوصول، وبقدر صحة منطلقاته وسلامة وجهته يكون قيامه مقام المرشد الأمين الذي يبين معالم الطريق.”
مظاهر الخلل المنهجي في واقع الأمـة
ثمة عوامل عديدة أدت إلى وصول الأمـة إلى واقع التخلف الحضاري الذي تعيشه منذ قرون عدة، لكن هناك عوامل أخرى ما تزال تكرّس هذا الواقع المتخلف رغم الجهود المخلصة التي بذلها المصلحون. هذا فضلاً عن غياب مذهل لبعض العوامل الأساسية في النهوض الحضاري المنشود. (9)
فالشخصية الإسلامية المعاصرة سواءً على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة والأمـة، اعترتها أشكال من الخلل عطلت قدرتها على الفعل والإنجاز والأداء.
الخلل في فهم الواقع والتعامل معه
ويتعلق ذلك بالطريقة التي يُنظر فيها إلى الواقع الطبيعي والواقع الإنساني وفهمهما. وقد يكون ذلك بإهمال اعتبار الواقع والاعتماد على التصور الذهني المجرد عن الواقع سواءً تجريداً عقلياً على طريقة الفلسفة اليونانية وما اشتق منها، أو تجريداً روحياً على الطريقة الغنوصية وما تقود إليه. والقرآن الكريم نقل العقل الإنساني من هذا التجريد إلى فهم واقعي لواقع الكون وواقع الإنسان، فآيات الآفاق وآيات الأنفس هي صور الواقع ومعطياته التي يراها العقل الإنساني ويأخذها بوصفها مصدراً للمعرفة والفهم والهداية، ويتمثل هذا الإهمال أحياناً في الزهد الديني الذي يهمل واقع الحياة ومتطلبات الاجتماع البشري فيها، أو في الزهد الاجتماعي الذي يهمل قطاعات عريضة من الواقع الاجتماعي بسبب عزلة النخبة المثقفة وترفعها عن هموم العامة، أو زهد في الواقع نتيجة اليأس من إمكانية إصلاحه بتجنب قضاياه أو مواجهة أصحابه بأفكار التكفير وممارسات العنف.
وينتهي الأمر نتيجة لهذه الأشكال والصور من إهمال الواقع إلى الجهل به والعجز عن التعامل معه نتيجة لهذا الجهل. ويلاحظ في هذا المقام كيف أنّ الغربيين قد أنجزوا حضارتهم لأسباب منها فهم الواقع ودراساته دراسة عميقة وشاملة استوعبت عناصره وأبعاده وتفصيلاته.
الخلل في ربط الأسباب بالنتائج
وفي ذلك تجاوز للقانون السببي ومفهوم السببية ووقوع في التفسيرات الخرافية والأسطورية. ويعدّ مفهوم السببية في الإسلام قانوناً طبيعياً واجتماعياً ونفسياً في نطاق التدبير الإلهي للكون وتصريفه لشؤونه، فما يحكم علاقة الإنسان بالطبيعة هي أسبابٌ بها يكون التمكين له فيها أو لا يكون، وهذه الأسباب هي قوانين ماضية لا تتخلّف إلا إذا أراد الله خرقها في حالات معينة ولغايات محدودة، لا تقع ضمن الحسبان البشري ولا المسؤولية البشرية.
ويتمثل الخلل المنهجي في فهم الأسباب والتعامل معها بعدم الأخذ بالأسباب بحجة التوكل على الله أو الظن بأنّ اعتماد الأسباب يطعن في العقيدة لأنّ الله سبحانه هو الفاعل الوحيد أو بالتخفف من تحمل مسؤولية النتائج والوقوف عند حد الأخذ بالأسباب لأنّ النتائج في ظنهم من فعل الله سبحانه لا من أسبابها ومقدماتها، أو بإهدار البُعد الغيبي جملة في فهم الأسباب والظن بأنّ الأسباب هي الفاعلة بذاتها في النتائج دون أن يكون للقيوميّة الإلهية دخل في ذلك.
وهذا الخلل هو عَرَضٌ عام يعبر عن ضعف الحس السببي تجاه مظاهر الطبيعة وظواهر الاجتماع وضعف عقلية البحث العلمي المتمثلة في الخطوات المنطقية في التحليل والترتيب والتصنيف اللازم لعناصر أية مشكلة أو ظاهرة بحيث يسهل الكشف عن حقيقة العلاقات السببية بين هذه العناصر ويكون ذلك أساساً للفهم ومن ثم أساساً للحل والعلاج.
الخلل في النظرة الكلية والشمولية:
يقتضي المنهج السليم في التعامل مع أي قضية أن ينظر إليها ويتعامل معها ضمن الدائرة التي تقع فيها أو تنتمي إليها، واعتبارها عنصراً في مجموعة أشمل، بينها وبين العناصر الأخرى من سمات الشبه والتمايز ما يُمَكن الباحث من رؤية الأجزاء ضمن الكل، والكشف عن خصائص القضية من زوايا نظر مختلفة، ويبني التعامل معها مع تقدير صحيح للآثار المترتبة على هذا التعامل.
وخاصية الشمول في منهج التعامل الإسلامي مع أي قضية تجمع عالم الشهادة مع عالم الغيب وجوانب النفع والضرر وواقع الحال واعتبار المآل، والواقع المحلي وما يحيط به من أبعاد، والآثار العاجلة والآجلة..
ويتحقق الخلل المنهجي في هذا السياق عندما يقصر الأمر على جانب من القضية وعلى قليل من معطياتها وعلى الظاهر من أمرها. ويتمثل هذا الخلل أحياناً في البحث عن الحقيقة في حيز ضيق ومحدود من مجالات المعرفة بالاقتصار على التراث دون المستجدات، بل إنّ المنهجية الجزئية في النظر إلى التراث اقتصرت على الجانب الفقهي منه دون أن تستوعب مصادر التأسيس في الكتاب والسنة، أو على الجانب النصّيّ منه وما يتفرع عنه دون أن تستوعب مجالات التطبيق والهداية التي يتقصدها النصّ في مسائل الكون والمادة والعمران، وقد تقتصر على مذهب من مذاهب الرأي والفقه دون المذاهب الأخرى التي تعمّق الفهم وتغنيه وتعبّر بصورة أوسع عن فهم الدين ومقاصده.
ويتمثل هذا الخلل أحياناً في النظرة الجزئية للزمن واقتصار التقدير فيه على حيز محدود من الزمن. ومقاصد الدين لا تتحقق في أي حكم من الأحكام إلا إذا أَخَذ الحكم بعين الاعتبار الماضي للاعتبار به، والحاضر لعلاج قضاياه، والمستقبل بما يتوقع فيه من آثار الحكم ومضاعفاته. ولعلّ أكثر ما يلفت الانتباه في هذا المجال هو ضعف الحسّ بالمستقبل وتقدير متطلباته في التخطيط؛ وليس الاجتهاد -في حقيقة الأمر- إلا وصْلاً للزمن ببعضه؛ إذ هو استهداء بالوحي المطلق عن الزمن لاستنباط حلول لمستجدات الحاضر بالاستنارة باجتهادات السابقين في الماضي (لحاضرهم) وبحساب آثار حلول الحاضر على المستقبل ومستجداته.
ومن ذلك الخلل أيضاً تجزئةُ النظر والبحث في القضايا والمشاكل لتقدير الأحكام فيها، وذلك خلل منهجي في التناول الفكري لتحليل القضايا والمشكلات لتقدير أحكامها وحجم أولوياتها في ضوء معطيات الواقع وإمكاناته. فإعلاء منـزلة بعض الجزئيات من الأخلاق والتصرفات والشعائر وشدة التمسك بها على أنها مادة للدعوة ومقياساً للعمل في معزل عن كليات الدين ومقتضيات الدعوة والواقع يلحق الضرر بالكليات وبالدعوة ذاتها.
وحين يشتد تمسك بعض الأفراد أو الفصائل بما تقدر أنه أكثر أهمية ينتهي الأمر إلى الشقاق والاختلاف، مع أن الأمر لا يعدو أن يكون اختلافاً في تقدير بعض المسائل الفرعية أو الاجتهاد في بعض وسائل العمل، تضيع معه مصالح أكثر أهمية من وحدة المسلمين وتضافر جهودهم لإعلاء شأن الدين ونهوض الأمـة.
فهذه الاختلالات الناتجة عن فقدان الرؤية الكلية الشمولية تفضي إلى فقدان الرؤية الصحيحة التي تقدر الأشياء بحسب أحجامها الحقيقية وترتبها بحسب أهميتها؛ فما هو جزئي صغير يقدر على أنه كلّيّ كبير، وعندما لا يكون التقدير على أساس من المقارنة التي هي من خصائص الشمول، ينتهي الأمر إلى ضعف شديد في فقه الموازنة بين الأشياء والأوضاع ليدرك الأهمّ والمهمّ والضّارّ والأكثر ضرراً والنافع والأكثر نفعاً.. كما ينتهي الأمر إلى ضعف شديد في فقه الأولويات الذي به ترتب الأمور بحسب أولوياتها في الأهميـة وفي تحقيق مصالح الأمـة.
إنّ الخلل المنهجي المتمثل في فهم مبادئ الواقعية والسببية والشمولية في واقع المسلمين الفكري والعملي يُعدّ عائقاً مهماً في سبيل الإقلاع الحضاري الإسلامي المنشود.
أما عن الاختلالات المنهجية التي أصيبت بها الأمة، فقد حددها في أربعة مظاهر :
1) الخلل في رؤية العالم: وقد تجسد في فقدان الرؤية الصحيحة، التي تقدر الأشياء بحسب أحجامها الحقيقية، فما هو جزئي يقدر على أنه كلي كبير، وما هو تابع يقدم على أنه أولوية… وهكذا ينعكس هذا النوع من الخلل المنهجي على قدرة الإنسان على فهم مبادئ الواقعية والسببية والشمولية، مما يشكل عائقا أمام الإقلاع الحضاري”.
2) الخلل في فهم الواقع والتعامل معه: ولعل هذا الخلل المنهجي، كان سببا في نقض الواقعية في الفكر والواقعية في التعامل، وهو اتجاه نفسي ينتهي عادة إلى الرفض المطلق دون اعتبار التفاصيل والمعطيات.
3) الخلل في ربط الأسباب بالنتائج: وذلك في التخلي عن الأخذ بالأسباب والتعامل معها باتكالية،وبالتهرب من المسؤولية، وعدم اكتراث بالنتائج، لأنها حسب منتسبي هذا النهج، من عند الله.
4) الخلل في معرفة الحقيقة والعمل ضد مقتضياتها: ويعطي كمثال من آلاف الأمثلة على هذا الخلل، آفة التدخين التي انتشرت كالنار في الهشيم، في دولنا العربية والإسلامية، دون ان تكون للحكومات إرادة سياسية لوقف هذا النزيف الذي يتهدد الآلاف.
إن أي اختلال في الوعي المنهجي؛ في أبعاده المعرفية والإجرائية والأخلاقية، سينعكس مباشرة على الوعي والأداء التربوي، الذي ينعكس بدوره على الوعي والأداء الثقافي، وهذه الانعكاسات السلبية المتتالية، تؤثر مجتمعة على مستوى الوعي والأداء الحضاري للفرد والمجتمع، وتدفع بأوضاع الأمة إلى المزيد من الضعف والتقهقر والاستيعابات الحضارية المضادة
ولكي ندرك خطورة قصور الوعي المنهجي، وعلاقته بالأزمة الحضارية؛ في أبعادها الثقافية والتربوية نشير إلى أن ضعف الوعي المنهجي يؤدي باستمرار إلى وعي معرفي منقوص ومزيف؛ قوامه الجزئية والحدية والتنافرية.لذلك فإنه غالبا ما يعجز عن التحليل المتكامل للظواهر الفكرية والنفسية والاجتماعية.وبالتالي يخفق في الإحاطة بالمكونات والأبعاد المتوازنة لهذه الظواهر، ومن ثم يعجز عن التفسير الموضوعي المتكامل لها، ويتورط بعد ذلك في سلسلة من التنبؤات أو التوقعات غير الموضوعية، التي تتأسس عليها استجابات ومواقف عملية غير واقعية، وغير متوازنة، وغير موضوعية تزيد الوضع تعقيدا وارتباكا واضطرابا!” (10).
اسس المنهجية الفكرية
ان المنهجية والمناهج بجميع عناصرها عندما توضع أو تبنى في أي مجتمع من المجتمعات لابد أن توضع على أسس معينة أو معايير خاصة .
ويقصد بالأسس ؛ المبادئ أو القواعد التي تبنى عليها المناهج ، وهي مرتبطة ارتباطا وثيقاً بالعناصر ، فالمجتمع يضع له غايات وأهداف يريد تحقيقها عن طريق هذه المناهج وما يُقدم فيها والطريقة التي يتم تقديم هذه المناهج بها ثم تقويم المناهج لمعرفة مدى ما تحقق من هذه الأهداف .
ولابد من العناية والاهتمام بالمناهج كوسيلة من وسائل التقدم والرقي للمجتمع ، لذلك لابد من النظر أساساً في الغاية الأساسية من الفكر في المجتمع ومن خلالها ومن خلال أهداف الفكر يمكن أن توضع الأسس التي يجب أن تبنى عليها المناهج ومن هذه الأسس . (11)
1 – الأساس الديني
أن هدف الفكر إعداد الإنسان الصالح والجماعة الصالحة إعداداً شاملاً متكاملاً في جميع جوانب النمو وجميع جوانب الحياة بالصورة التي تؤهل الإنسان للقيام بمهمته الأساسية والمقصودة من خلقه وهي تحقيق العبودية لله عز وجل حيث يقول الله تعالى ? وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ? .
وإن إعداد هذا الإنسان وتحقيق هذه الأهداف وغيرها لا يمكن أن يتم إلا بوجود منهج فكري خاص متشبع بروح الإسلام ، يبعث على اليقين والإيمان .
2- الأساس الاجتماعي
يقصد بالأسس الاجتماعية هنا : مجموعة العوامل والقوى الاجتماعية التي تؤثر على تخطيط المنهج وتنفيذه ، وتتمثل في ثقافة المجتمع وتراثه وواقع المجتمع ونظامه ومبادئه ومشكلاته التي تواجهه وحاجاته وأهدافه التي يرمى إلى تحقيقها .
ومعنى ذلك أن القوى والعوامل الاجتماعية التي يعكسها منهج ما تعبر وتعكس نظام المجتمع وثقافته في مرحلة ما . ولذلك فإن المنهج لابد أن يختلف من حيث الشكل والمنطق من مجتمع لآخر تبعاً لاختلاف القوى الاجتماعية المؤثرة على المنهج .
والمنهج هو الوسيلة الأولى التي عن طريقها يحقق المجتمع كثيراً من آماله وتطلعاته وأحلامه ، وبقدر ما يأخذ هذا المنهج من عناية واهتمام يكون تأثيره في تحقيق غايات المجتمع وأهدافه فالمنهج له أدوراه ووظائفه الاجتماعية التي يقوم بها . وينبغي أن يُبْنى على أساس من الإدراك الصحيح ، والفهم السليم لالتزامات المنهج ومسؤولياته نحو الجماعات ونحو الأفراد الذين يكونونها .
3 – الأساس المعرفي
من الخصائص التي ميزت الإنسان عن غيره من سائر المخلوقات أن وهبه الله القدرة على اكتساب العلم والمعرفة ، وقد منحه الله عز وجل الوسائل التي تساعده على التعلم والطاقات التي تعينه عليها ، فأخذ الإنسان يعايش ويتفاعل ويلاحظ ويدون كل ما وصل إليه ، فالإنسان يتعلم في كل موقف ويتعرف على خصائص الأشياء وكنه بعض الأمور ، ويوماً بعد يوم ، وجيلاً بعد جيل ازدادت حصيلة الإنسان في هذا الجانب فركز عليه الجهد فسجله وصنفه ونظمه وقسمه إلى مجالات متعددة ذات تخصصات معينة في شتى العلوم والمعارف، وتكونت بذلك الكثير من المعارف والعلوم فأصبح الناس يعيشون من هذا الجانب فيما يعرف بعصر الانفجار المعرفي الأمر الذي جعلهم في حيرة من أمرهم ماذا يأخذون وماذا يتركون وماذا يعلمون أبناءهم وغير ذلك من الكثير من المشكلات حول هذا الجانب المعرفي .
الأسس المنهجية لبناء الفكر:
ينبغي على الإنسان أن يبني فكره على الأسس المنهجية وهي كالتالي: (12)
1- الموضوعية:
الموضوعية هي معالجة الأمور و تحليلها تحليلا علميا ناتج من مقدمات واقعية وصحيحة.
2- الثبات والاستقرار:
لكي يبني الإنسان فكره يجب أن تكون حالته النفسية ثابتة ومستقرة فالاضطراب يشتت التفكير ويفسده.
3- الرؤية السليمة:
عند النظر إلى أمر ما ينبغي للمرء أن ينظر إليه بالنظرة الواقعية المتفحصة والجادة حتى تكون النتيجة المترتبة على هذه النظرة هي نتيجة صحيحة وواقعية.
4- الإبداع:
الإبداع هو النتيجة ال
Top