قصة التسوية التاريخية في العراق
د.عرفات كرم ستوني
تعني التسوية في منظور رئيس التحالف الوطني السيد عمار الحكيم تصفير الأزمات بحيث لا غالب ولا مغلوب، وهي في الحقيقة فتح صفحة جديدة للتفكير في المستقبل، وعدم نبش ملفات الماضي، أعتقد أن هذا المشروع المهم لن يتفق عليه جميع الأحزاب الشيعية المنضوية تحت خيمة التحالف الوطني، وعلى رأس تلك الأحزاب حزب الدعوة جناح المالكي، ولهذا نجد المالكي بين الفينة والأخرى في زياراته المضطربة للجنوب ولقاءاته الصريحة وتصريحاته الخطيرة يضع شروطا قاسية للتسوية التاريخية، فهو يرفض التسوية مع أكثر سنة العراق، ويقبل التسوية فقط مع من يقبل بمشروعه، وهم سنته فقط، والذين عرفوا بسنة المالكي، وهم شرذمة قليلة باعوا طائفتهم من أجل مصالح شخصية ضيقة، والغريب أن خالد الملا رئيس جماعة علماء العراق السنة يطلب بإخراج الرافضين لمشروع التسوية من العملية السياسية، والهدف من هذا التصريح المتشدد هو إرضاء التحالف الوطني ليكون له دور مهم في المرحلة المقبلة في تمثيل السنة، ولكن الرجل في نظر أكثر السنة يعد من سنة المالكي، وهو تصريح أقوى من تصريحات بعض نواب دولة القانون، فالنائبة عن دولة القانون هدى سجاد اكتفت برفض المصالحة مع من تسبب بسقوط المحافظات الغربية.
وفيما يخص الكورد فالمالكي يرفض التسوية مع الذين رفضوا مشروعه ووقفوا ضد أطماعه وسياسته الجائرة بحق كوردستان، ويعني بالضبط مع الحزب الديمقراطي الكوردستاني، لكنه صرح كثيرا أنه يقبل التسوية مع الذين يرفضون تقسيم العراق ويلتزمون بوحدته، وهم الكورد الذين انضموا لمشروعه وحلفه، وأنا شخصيا أطلق على هؤلاء مصطلح أكراد المالكي، وليكن معلوما لدى الجميع، ونقول ذلك لله وللتاريخ، أن كل من لا يريد ولا يرضى ولا يحب ولا يعمل من أجل استقلال كوردستان فهو خائن بكل معنى الكلمة لوطنه وشعبه وتاريخه ووضميره ودماء الشهداء من البيشمركة الأبطال.
وعليه فالتسوية بهذه الشروط ستولد جثة هامدة، ولا يكتب لها النجاح بهذه الصورة المعقدة، إذا أردنا التسوية الحقيقية فهي تلك التي أطلقها ونادى بها الرئيس البارزاني بعد الانتفاضة، حيث ترك الجنود العراقيين أحرارا يعودون إلى أهلهم سالمين معززين ومكرمين، - وهذا الموقف الإنساني يتشرف به كل مواطن كوردي، ولم ينساه الشرفاء من الاخوة العرب- ثم فتح صفحة جديدة بين أبناء شعب كوردستان، ولم يضع أي شرط لتحقيق ذلك، بل قال: عفى الله عما سلف، وهذا يذكرنا بموقف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عندما دخل مكة بعد أن طرد منها لسنين، حيث اعتقد أهل مكة من الكفار أن رسول الله سينتقم منهم، لأنه عانى كثيرا من بطشهم وعداوتهم، لكنه قال بلسان طلق وكلام ذلق: إذهبوا فأنتم الطلقاء، ولو وضع الرئيس البارزاني شروطا كما وضعها المالكي لأصبحت كوردستان ساحة للاقتتال الداخلي، ولتحولت الى فوضى عارمة وفتنة مستديمة، وبهذه العقلية المنفتحة الحضارية الواعية تمكن الرئيس البارزاني أن يقود البلد إلى بر الأمان، ويحول البلد من الحرب إلى السلام، ومن الفوضى إلى الاستقرار، ومن خلال هذا التفكير السليم جرت انتخابات ديمقراطية نزيهة، وتم تشكيل أول برلمان كوردستاني، وأول حكومة كوردستانية منتخبة، ولهذا وصلنا إلى مرحلة متطورة من الحياة السياسية والمجتمعية بفضل تلك التسوية الوطنية المجتمعية التاريخية الحقيقية، وعليه فإننا في كوردستان نعيش مرحلة ما بعد التسوية التاريخية، والخلافات الموجودة بين الأحزاب الكوردية ظاهرة طبيعية، وحالة ديمقراطية يمكن حلها عن طريق الحوار الجدي والبناء.
إن وضع الشروط للتسوية يعني إفشال المشروع، إذا أردنا أن نحقق التسوية فلا بد من رفض الشروط المسبقة، وإذا أردنا أن نعيد لهذا البلد استقراره السياسي، والسلم المجتمعي فلا بد من الحوار مع الجميع بلا استثناء، فالشروط لا بد منها للدخول في العملية السياسية، وليس للتسوية، التسوية تبدأ من غير شروط، وبعد التسوية تأتي الشروط لكيفية الدخول في العملية السياسية، لا يمكن أن تتحق التسوية مع السنة وقادتهم مطلوبون للقضاء، أمثال طارق الهاشمي ورافع العيساوي وأثيل النجيفي، وبعضهم غير مرغوب فيهم أمثال خميس الخنجر وهيئة علماء المسلمين، والبعض الآخر متهم بدعم الإرهاب، هذه التصنيفات تتناقض والتسوية التاريخية، وعندما أدرك السيد عمار الحكيم هذه التناقضات والمواقف المختلفة في التحالف الوطني صرح قائلا أنه لا يمكن التسوية مع المجرمين، لكن السؤال الذي يطرح نفسه، من هم المجرمون؟ فلعل الذين هم مجرمون عند الشيعة أبطال عند السنة، لذلك لا بد من تعريف دقيق يعرف الحقائق، بحيث يتفق على تعريف المجرمين جميع المكونات العراقية، والذي أراه وهذه قناعتي أن التسوية لا بد أن تكون تسوية شاملة خالية من الشروط، بحيث تشمل كل عراقي بغض الطرف عن ماضيه شريطة قبوله بالعملية السياسية الديمقراطية، وبغير هذه الطريقة فستكون التسوية فاشلة ومنهارة.
قدم التحالف الوطني الشيعي برئاسة السيد عمار الحكيم هذا المشروع على عجالة، لقناعته أن مستقبل الشيعة السياسي في العراق في خطر، وذلك ليكون حلا مرضيا لشرائح المجتمع العراقي وخاصة السنة، وذلك قبل تحرير الموصل، لأنه يدرك تماما أن مرحلة ما بعد داعش، ستكون صعبة للغاية، وإذا لم يقدم التحالف الوطني مشروعا أو ورقة أو مقترحا للبقية، فإنه يتحمل مسؤولية مستقبل العراق، فهو الذي حكم العراق منذ سقوط نظام البعث، لذلك أصبح الناس على قناعة أن الطبقة السياسية الشيعية هم السبب فيما وصل إليه البلد، وخاصة حزب الدعوة، ففي عهدهم انهار الاقتصاد، وسيطر داعش على مناطق السنة، وظهرت البطالة، وكثر الفساد، وتعمقت الفتنة بين السنة والشيعة، وتوترت العلاقات بين بغداد وأربيل، ووتأزمت الدبلوماسية العراقية بسبب تغلغل دول الجوار ونفوذها، وابتعد العراق عن محيطه العربي والسني، وظهر الاقتتال الشيعي الشيعي، وخاصة بين أشياع نوري المالكي من حزب الدعوة وبين أتباع مقتدى الصدر، وهي مستمرة، ولربما ستشتد في الأيام القادمة، كل هذه مؤشرات جلية أن مستقبل الشيعة السياسي في خطر، ولربما إلى زوال واضمحلال وسقوط إذا لم يتداركوا الأمر.
يبدو لي أن السيد عمار الحكيم مصر على إنجاح هذا المشروع ولو شكليا، لأنه يدرك تماما أن تحقيقه مستحيل في العراق، وخاصة أن المعطيات لا تبشر بخير، والمواقف المتباينة لا تساعد، ودول الجوار لها أجدنتها السياسية المعينة، فلا يمكن أن تقبل بهكذا مشروع إذا لم يحقق ما تصبو إليه تلك الدول، ولهذا كان الأولى بالسيد عمار الحكيم عدم زيارة هذه الدول لمناقشة ملف التسوية مع قادتها، لأن هذه مشكلة عراقية داخلية، ما علاقة تلك الدول بها؟ فنحن بهذا الإسلوب نسمح لتلك الدول بالتدخل في شؤوننا، ثم إن زيارة السيد عمار الحكيم للأردن لم تكن موفقة، ولم تكن في محلها، ولو كانت زيارة لقادة السنة لكان مقبولا، لوجود الجالية العراقية فيها بكثافة، لأن الأردن مع كونها دولة مهمة، ولكن ليس لها ثقل سياسي واقتصادي ودولي كالسعودية مثلا في التأثير على السنة، لذلك كان الأولى بالحكيم زيارة المملكة العربية السعودية، ولكن معلوم أنه لن يجرأ على ذلك لأن بعض الفصائل المسلحة الشيعية تريد مسح السعودية من الخريطة، ولهذا في فترة المالكي قامت بعض الفصائل الشيعية بقصف بعض المواقع السعودية، فلو زارها لأصبحت التسوية في خبر كان، أما زيارة الحكيم لإيران فهي موفقة وناجحة وفق منظور الشيعة، ولكن في مقابل ذلك هي زيارة غير موفقة، لأن إيران سبب مشاكل العراق ودماره وخرابه في منظور السنة، لذلك من هنا ستفشل التسوية مجددا، لذلك على السيد عمار الحكيم أن لا يقوم بتدويل التسوية، كان ينبغي للسيد الحكيم أن يجعل التسوية شأنا داخليا بحتا دون إشراك أي دولة، وإذا كان يريد تدويلها فلا بد أن يقوم بزيارة الدول التي لها تأثيرها القوي في سنة العراق كدول الخليج وخاصة المملكة العربية السعودية.
ما من يوم إلا ويزداد السيد الحكيم قناعة أن هذه التسوية مستحيلة في العراق، لأنه تم تدميرها خلال فترة المالكي، لكنه يريد أن يقوم بشيء خلال فترة رئاسته، ويعطي للشعب العراقي رسالة طمأنينة أن البلد لا يزال بخير، وأنه يمكن أن نحل مشاكلنا بصورة حضارية، ولكن هنا وقع السيد الحكيم في تناقض واضح، فمن جهة يدعو إلى التسوية التاريخية، ومن جهة أخرى جاء إلى مجلس النواب العراقي للتحشيد من أجل قانون الحشد الشعبي، هذا القانون الذي لم يصوت عليه السنة، باستثناء سنة المالكي، وهم أفراد معدودون، لأن هذا القانون ينسف التسوية التاريخية، كيف يمكن أن ندعو التسوية التاريخية وفي الوقت نفسه نشرعن قانونا يتناقض التسوية، قانون الحشد الشعبي ترسيخ للدولة الدينية المذهبية، وتقزيم للمؤسسة العسكرية، ووأد للدولة المدنية، والأدهى من ذلك أن هذا القانون تم تمريره بالأغلبية الشيعية، وهذا مؤشر آخر لنهاية التوافقات السياسية في العراق، ولهذا كان موقف كتلة المتحدون النيابية برئاسة السيد أسامة النجيفي واضحا، حيث رفض التسوية التاريخية بعد إقرار قانون الحشد الشعبي.
ثم بعد أن تم التصويت على قانون الحشد الشعبي بدأ التحالف الوطني باستعمال مصطلح آخر في حق السنة، وهو السنة المعتدلون، ولا شك أن هذا المصطلح صناعة شيعية وصياغة خاصة بهم، فالسني المعتدل في نظرهم، هو الخائن في نظر طائفته، فمن صوت لقانون الحشد الشعبي إنسان وطني مخلص في نظر التحالف الوطني، ومن لم يصوت فهو ليس كذلك، أعتقد أن التسوية التاريخية أو الوطنية أو السياسية أو المجتمعية انتهت بعد تشريع قانون الحشد الشعبي، لأننا ندرك تماما أن تشريع هذا القانون بصورة سريعة وعاجلة قبل تحرير الموصل يحمل دلالات وإشارات خفية، فمعلوم أن الحشد الشعبي حشد شيعي، تشكل بفتوى السيد السيستاني لمواجهة خطر داعش عندما سيطر على المحافظات الغربية، واقترب من مشارف بغداد، فهو تشكيل مؤقت لحالة طارئة، ينحل التشكيل بعد انتهاء مهماته، وخاصة بعد تحرير الموصل، ولا أحد ينكر تضحيات الحشد في مواجهة داعش، وهؤلاء إما أن ينخرطوا في السلك العسكري، أو أن يعودوا إلى بيوتهم مع كامل الامتيازات والحقوق، وكذلك لشهداء الحشد الشعبي، فالتحالف الوطني كان يدرك وخاصة السيد الحكيم أن تحرير الموصل يعني انتهاء الحشد الشعبي، ولهذا سارعوا في تشريعه، بضغط إيراني واضح، بدليل أن السيد الحكيم لما زار المرشد الأعلى الخامنئي في طهران، كان الحديث مركزا على الحشد الشعبي وقد قال الخامئني للوفد: بأن الحشد الشعبي ثروة ورأسمال كبيران لحاضر العراق ومستقبله ويجب دعمه وتعزيزه. كيف يقرأ السني مثل هذه التصريحات، لذلك كان الحشد الشعبي أهم من التسوية التاريخية في طهران، لأن الأول يخدم المصالح الإيرانية بخلاف الثاني، ويرى أكثر المحللين أن الحشد الشعبي نسخة من الحرس الثوري الإيراني بنكهة عراقية، لذلك نرى أن التحالف الوطني يجعل الحشد الشعبي معيارا لتقويم وطنية العراقيين، فمن كان مع الحشد فهو عراقي مخلص، ومن لم يكن مع الحشد فهو عميل، هكذا كانوا يصرخ نواب التحالف الوطني في مجلس النواب العراقي، ويهددون من يقف ضد تشريع قانون الحشد الشعبي، وأتذكر عندما قام أحد نواب عصائب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي في مجلس النواب العراقي وهو يشير إلى أحد نواب سنة المالكي بعد أن صوت على قانون الحشد الشعبي قائلا: هذا هو العراقي الشريف والوطني المخلص، وهذا يعني أن الذين لم يصوتوا للقانون خونة وعملاء حسب عقلية هذا النائب، وقد تحقق مطلب التحالف الوطني في تشريع قانون الحشد الشعبي بالأغلبية دون مراعاة المكونات الأخرى المعترضة، ولكنهم لا يدركون أنهم أحدثوا شرخا في اللحمة الوطنية بصورة رسمية وعلنية.
والمضحك أن وزير خارجة العراق إبراهيم الجعفري، بدل أن يكون وزير خارجية جميع العراقيين، أصبح وزيرا للحشد الشعبي، فما ألقى محاضرة، ولا عقد مؤتمرا، ولا التقى بمسؤول في المحافل الدولية ولا شارك في مؤتمر، إلا وتجده يثني على الحشد الشعبي بطريقة غير طبيعية، وقد قال أكثر من مرة أنه لولا الحشد الشعبي لسقط العراق، وكأن البيشمركة كانوا يبيعون الطماطم في الأسواق، وأصعب وقت عند الجعفري هو عندما يتحدث عن بسالة البشمركة، وكأنه يتجرع السم الزعاف، وقد بلغ فكره الطائفي مرحلة منع ممثلي إقليم كوردستان من المشاركة في المؤتمرات العالمية حول داعش، وذلك لكي يكون حرا طليقا للثناء على الحشد الشعبي، هذه هي الطائفية المقيتة، وقد أدانت حكومة إقليم كوردستان هذا السلوك غير الحضاري، كيف يمكن أن نحقق التسوية التاريخية ووزير خارجية العراق وأحد أقطاب التحالف الوطني ورئيس حزب سياسي يفكر بهذه الطريقة؟ كيف يمكن أن نحقق التسوية وهناك من صوت ضد حقوق البيشمركة؟ كيف يمكن أن نحقق التسوية، والموازنة مقطوعة منذ 2014؟ كيف يمكن أن نحقق التسوية، وهناك مؤامرة خبيثة على المكون الكوري في بغداد؟.
يبدو لي أن التسوية انتهت، ولن تتحقق أبدا، لا يمكن للتسوية أن ترى النور وهناك تشريع لقوانين ترسخ للطائفية، لا يمكن أن تتحقق التسوية وهناك استثناء لأكثر السنة، لا يمكن للتسوية أن تتحقق وهناك قانون اجتثاث البعث، وقانون المساءلة والعدالة، لا يمكن للتسوية أن تتحقق والموازنة مقطوعة عن كردستان، لا يكمن للتسوية أن تتحقق، وهناك تدخل خارجي في الشؤون العراقية، لا يمكن للتسوية أن تتحقق ونحن لا نؤمن بالدولة المدنية، لا يمكن للتسوية أن تتحقق وهناك من يحاول الانتقام من أهل الموصل لأنهم أبناء يزيد ومعاوية، لا يمكن للتسوية أن تتحقق إذا لم يكن هناك توافق وانسجام في البيت الشيعي، لأنهم يملكون زمام السلطة والمبادرة، فالأولى التركيز على بناء الدولة المدنية ودولة المواطن والقانون والمؤسسات بدل الانشغال بالتسوية التاريخية، وإن كنت أعتقد أن الدولة المدنية انتهت في العراق إلى الأبد في ظل تشريع القوانين ذات الصبغة الطائفية، والحقيقة أن العراق مقبل على تغييرات جذرية وجغرافية جديدة، وخاصة بعد الانتهاء من تحرير الموصل، وجميع الاحتمالات واردة، كالتقسيم أو الكونفدرالية أو الفيدرالية، ولا يمكن للعراق أن يعود لسابق عهده، إلا إذا صار انقلاب عسكري دموي، فتاريخ العراق تاريخ دموي مخيف، وإن كان هذا الاحتمال بعيدا عن الواقع.