إسلام ومسلمون
والأمر يمتدّ إلى بعض الممارسات العنفية وبعض الأعمال الإرهابية التي استشرت في المنطقة العربية على نحو مريع، وبعض أمثلتها ما قامت به تنظيمات "القاعدة" و"داعش" و"جبهة النصرة" وغيرها، فضلاً عن توجّهات متعصّبة ومتطرّفة تحمل يافطة الإسلام.
ندرة من الإسلاميين تفرض عليك قولاً آخر، بالاستجابة إلى ركب التقدّم الحضاري والرقي الإنساني، في حين تغرق الأغلبية السّاحقة، لا سيّما من النخب الدينية في التموقع الطائفي والاصطفاف المذهبي، خارج دائرة الوطن والمواطنة والوطنية، سواء بزعم المظلومية تارة، أو بادعاء الأغلبية في أخرى، وفي ثالثة، التشبث بالأفضليات على الآخر، سواء التغنّي بالعقدة "الأقلوية" أو "الأغلبوية" أو الاستغراق في الماضي، بزعم العودة للأصول.
لا تزال عقلية الأسوار والخنادق مهيمنة على الكثير من الإسلاميين، وهي امتداد لثقافة الحرب الباردة، بشكلها الأكثر بشاعة، من خلال ما هو محرَّم وما هو محلَّل، وما هو مقدَّس وما هو مدنَّس، وأساس ذلك التفريق بين مواطن وآخر تبعاً لدينه أو طائفته أو مذهبه أو عرقه أو لغته أو جنسه أو أصله الاجتماعي. وإذا لم يتم تغيير النظرة والممارسة التي تأخذ على الناس هويّاتهم الفرعية وخصوصياتهم، فلن تستطيع مجتمعاتنا إحراز التقدم المنشود الذي يقوم على مبادىء المواطنة والشراكة والمشاركة، التي تتعزّز بارتفاع قيم الحريّة والمساواة والعدل، وذلك عبر قوانين وتشريعات ومؤسسات وقضاء مستقل ومساءلات ضرورية في إطار من الشفافية.
وإذا كانت المساواة في الكرامة الإنسانية من قيم الإسلام، لكنها ليست بالضرورة سلوكاً يومياً وأخلاقياً بالنسبة إلى المسلمين، خصوصاً أن قسماً غير قليل منهم يشعر بالتسيّد والتفوّق بزعم كونه "الأغلبية"، في حين يشعر الآخر بالتمييز وعدم المساواة، إنْ لم يكن بالاضطهاد، لا سيّما من أتباع الديانات الأخرى مثل المسيحيين والإيزيديين والصابئة المندائيين وغيرهم.
ومثل هذا الشعور بالاستعلاء وادعاء احتكار الحقيقة يمتدّ إلى داخل الدين الواحد، الذي ينقسم إلى طوائف، وتتحوّل فيه الاجتهادات إلى صراع مذهبي، وقد شهدنا منذ الثورة الإيرانية في العام 1979، صراعاً محموماً طابعه طائفي اتّخذ من السنّة والشيعة في العديد من بلدان المنطقة وقوداً لا قرابات لها، ذيولها وامتداداتها الإقليمية.
إذا كنا نؤمن بقول الخليفة عمر بن الخطاب "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"، وهو ما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بعد نحو 1400 عام، حين نصّ "يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق"، فعلينا احترام اختيار الناس الأحرار، الذين بإمكانهم أن يهتدوا أو أن يضلّوا، بغضّ النظر عن مذهبهم كما يقول المطران جورج خضر، وسواءً كان الناس من اليمين أو من اليسار، فهم أحرار في اختياراتهم وحقهم في التعبير عنها دون خوف أو محاكم تفتيش للضمائر والقلوب والعقول.
ومن هذا المنطلق ننظر إلى معاناة المسيحيين في بلدان الشرق، والمشاكل الحقيقية التي واجهوها في العالم العربي، وهي بالأساس ناجمة من فهم مغلوط أولاً لمعنى المساواة القانونية وثانياً لمبادىء الشراكة والمشاركة الفعلية وثالثاً لاحترام الخصوصية والهويّة ورابعاً للمواطنة وقيمها الأساسية في الحرية والعدالة.
وتعرّض المسيحيون إلى حملات تنكيل وتقتيل وتهجير، ارتفع منسوبها خلال السنوات الأخيرة، على نحو لم يشهده العالم العربي في تاريخه القديم والحديث، وحصل مثل هذا الأمر في العراق منذ الاحتلال العام 2003، حيث استمرّ نزيف الهجرة، مثلما شهدت كنائس وأديرة وتجمعات المسيحيين أعمال تفجير وعنف وإرهاب. وفي سوريا لاقى المسيحيون منذ العام 2011 استهدافات بذرائع مختلفة، واضطر قسم كبير منهم إلى الهجرة. وقبل ذلك في فلسطين التي أجلي المسيحيون عنها، فقد كان عددهم يزيد على 20% من السكان قبل الاحتلال "الإسرائيلي" وقيام "إسرائيل"، لكنه تراجع إلى أقل من 1.5% وفي القدس وحدها كان في العام 1948 أكثر من 50 ألف مسيحي، لكنهم اليوم أقل من 5 آلاف فقط، بسبب تعرّضهم إلى التهجير، والأمر يشمل أيضاً لبنان التي هاجر منها خلال الحرب الأهلية، وما بعدها ما يزيد على 700 ألف مسيحي، كما يشمل مصر والسودان، حيث كانت تمارس ضغوط واسعة على المسيحيين، الذين ظلوا يشعرون بالتمييز وعدم المساواة.
المسيحيون في كل تاريخهم المشرقي لم يمارسوا العنف، وكذلك المسيحية المشرقية بشكل عام كانت سلمية في علاقتها بالأديان الأخرى، مثلما رفضت، وقاومت محاولات فرض الهيمنة من جانب الغرب في ما سمّي بالحروب الصليبية خطأ، في حين أنها "حروب الفرنجة" ضد الشرق لفرض الاستتباع والسيطرة على المنطقة، بمسلميها ومسيحييها.
وقد أدرك المسيحيون خطر الصهيونية أبكر من غيرهم، فوضعوا الكتب ضدها منذ مطلع القرن العشرين، وهم من أبدع المفهوم الحضاري الثقافي للعروبة، وقاموا بعلمنته بهدف توحيد دنيا العرب مساهماتهم في حركة التنوير والانبعاث الحضاري، فضلاً عن جهدهم المثابر والدؤوب في الحفاظ على اللّغة العربية، وقد يكون قول السيد المسيح هادياً لهم "وتعرفون الحق والحق يحرّركم".
وإذا كان ثمّة شعائر يؤدّيها المسلمون، فهناك شعائر يؤدّيها المسيحيون أيضاً، وهي متوارثة وجزء من طقوس تاريخية، وهو ما يفرض احترامه وحفظه قانوناً، كحق للمسلم والمسيحي، ولغيرهما، مثلما هو حق للمؤمن ولغير المؤمن، ﴿فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر﴾؛ (سورة الكهف: الآية 29). حسب ما جاء في القرآن الكريم.
والإنسان دائماً مأخوذ بين الشك واليقين، وهذا بحدّ ذاته يستوجب احترام الآخر على أساس "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب" حسب الإمام الشافعي، وإذا كان لكل منّا مقدّساته، فلا بدّ من احترامها، علماً بأن ما هو مقدس لدينا، قد لا يكون مقدساً لغيرنا والعكس صحيح، الأمر الذي استوجب احترام حريّة التعبير، وحق التفكير والضمير. وحقّ لنا أن نتأمل مقولة الشيخ محمد عبده حين قال: "ذهبت للغرب فوجدت إسلاماً ولم أجد مسلمين، ولما عدت للشرق وجدت مسلمين، ولكن لم أجد إسلاماً"، وقد كان يقصد وجود حريّات ومواطنة واحترام الخصوصية والهويّة الفرعية.
*أكاديمي ومفكر عربي