• Friday, 01 November 2024
logo

كيف ستدور عجلة التغيير في العراق؟

كيف ستدور عجلة التغيير في العراق؟
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي

تحيط الشكوك بمدى نجاح أية خطوة منتظرة للتغيير في العراق، فمنذ أن شكّل رئيس الوزراء حيدر العبادي وزارته في العام 2014، أعلن برنامجاً عاماً للاصلاح ومحاربة الفساد والمُفسدين، وهي مطالب عامة كانت وراء حركة الاحتجاج الشعبية التي تستمر منذ عدّة شهور. وكانت الرغبة في الإصلاح قد حظيت بتأييد فئات المجتمع العراقي كافة واعتُبرت ضرورة لا غنى عنها وحاجة ماسّة بعد أن تدهورت الأوضاع على نحو شديد، وضاقت الناس ذرعاً بالفساد المالي والإداري، الذي أصبح مثل غول ينهش المجتمع، لدرجة لا أحد يستطيع وضع حدٍّ له، بل أخذ بالتدريج شكلاً منظماً، اقترب إلى المؤسسة، خصوصاً وإن جميع القوى المشاركة بالعملية السياسية متورّطة فيه، وتحاول كل مجموعة التستّر على عناصرها لإبعادهم عن المساءلة، معتبرة ذلك مساساً بهيبتها وانتقاصاً من كرامتها واستهدافاً لنفوذها، سواء كان طائفياً أو إثنياً أو حزبياً أو عشائرياً أو غير ذلك.
وفي الحديث عن التغيير هناك ثلاثة مستويات: المستوى الأول- الذي يريد تشكيل حكومة تكنوقراط، باستبدال بعض الوزراء بآخرين أكثر مهنية وكفاءة ومن المستقلين، كي لا يكونوا جزءًا من المحاصصة التي تعيد انتاج نفسها . أما المستوى الثاني- فهو الذي يريد استبدال وزارء من الكتلة ذاتها، وذلك تطميناً لها، وضماناً لاستمرار تمثيلها.ويقع المستوى الثالث- من الرغبة في التغيير، باستبدال رئيس الوزراء نفسه لأنه فشل في إجراء الإصلاحات، بعد أن مُنح فترة ما يزيد عن سنة، لكنه لم يفعل شيئاً، ولذلك بدلاً من تغيير بعض الوزراء، فإن بعض القوى أخذت تطالب بتغييره واستبداله، للإتيان بوزارة جديدة .
لقد ازداد المجتمع العراقي تشاؤماً وقنوطاً لدرجة تقترب من اليأس أحياناً، فهو منح تأييده للتغيير والإصلاح، وظلّ ينتظر، فازدادت الأوضاع سوءًا ، فمن جهة يرى الفاسدين في أماكنهم، بل يستبدلون بعضهم بعضاً، وتدهورت أحواله المعيشية، بانخفاض أسعار النفط والأزمة المالية والاقتصادية التي يعاني منها. ورجال الدين المتنفّذين في النجف، وفي مقدمتهم السيد علي السيستاني، قرأوا نبض الشارع فأيدوا الإصلاح والتغيير، ولكن بعد وصول الأمر إلى طريق مسدود، انسحبوا من الميدان ، وتخلّوا عن دعمهم لحكومة العبادي، وانقطع ممثلوهم عن خطبة الجمعة التي تعكس مشاركتهم بمسار الأحداث، بل امتنع رجال الدين الكبار عن مقابلة المسؤولين الحكوميين، بعد أن ساهموا في دعم تشكيل حكومة برئاسة العبادي، حين تعسّرت الأمور بسبب تشبّث نوري المالكي بموقعه ورفض غالبية القوى السياسية.
وحتى الولايات المتحدة وإيران اللتان أيدتا العبادي ولا تزالان تدعمانه في خطة الإصلاح، تقفان حائرتين أمام صخرة الواقع الصلدة، فمن جهة استمرار داعش في احتلال الموصل منذ 10 يونيو (حزيران) العام 2014، وأجزاء من محافظة الأنبار على الرغم من الخسائر التي لحقت بها، لكنها من الناحية الفعلية لا تزال تمثّل تهديداً حقيقياً للوضع في العراق، سواء لحكومة بغداد أو لحكومة إربيل، ولا تزال تملك بعض الأوراق التي تلعب بها، بامتدادها بين الرقة ودير الزور السورية والموصل وأجزاء من محافظة الأنبار العراقية، إضافة على اختراقاتها المتكررة للأمن في البلدين ومواجهتها تحالفات دولية وإقليمية كبرى.
ومن جهة ثانية فإن المشاكل بين بغداد وإربيل لم تسوَّ حتى الآن، على الرغم من الزيارات المكوكية بين العاصمتين، فضلاً عن إن مشاكل إربيل تعاظمت مع السليمانية، معقل حركة التغيير "كوران" والاتحاد الوطني الكردستاني، وزادها تعقيداً عدم دفع الرواتب للموظفين منذ بضعة أشهر، بل وتخفيضها، الأمر الذي ألقى بثقله على المواطنين الذين زادت أعباءهم، وخصوصاً باستمرار التجاذب حول رئاسة الإقليم وصلاحيات الرئيس والتوتّر والتشنّج الحاصل بين الكتل الكردستانية، ناهيك عن موضوع الاستفتاء على استقلال كردستان الذي طرحه مسعود البارزاني رئيس الإقليم، والذي واجه بعض التحفظات بسبب توقيته،والمسألة تعود إلى مواقف القوى الإقليمية والدولية كذلك.
وهناك مشكلة أخرى من متفرّعات الوضع العراقي الراهن، ونعني بها الحشد الشعبي الذي بقدر جهوده في التصدي لداعش، فإنه أثار ردود فعل كبيرة، ترافقت مع بعض الانتهاكات والتجاوزات والارتكابات، التي نُسبت إليه في محافظة صلاح الدين، وخصوصاً عند تحرير تكريت، لدرجة هناك من أخذ يقول التحرير بالتدمير، وهو الأمر الذي يثير تخوّفات كبيرة منه في الموصل، التي ترفض القوى المؤثرة فيها مشاركة الحشد الشعبي، وهو ما يلقى استجابة أمريكية، حيث تم تدريب بضعة آلاف من أهالي المنطقة ورجال العشائر على أمل الاستعداد لمواجهة قد تكون حاسمة، حتى وإن طال الزمن.
وتطرح هذه الجزئية مسألة في غاية الأهمية ونعني بها مسألة الإقليم السني الذي يجري الحديث عنه علناً أو همساً، سواء بالنسبة لمحافظة الموصل، أو لمحافظتي الأنبار وصلاح الدين، وسواء كان الأمر إقليماً واحداً أو أكثر، فإنه إحدى "الاستحقاقات" التي ستواجه الوضع العراقي ما بعد داعش.
ولعلّ بناء خنادق من جانب حكومة الإقليم وباتفاق مع شركة فرنسية وأخرى أمريكية تمتد من ربيعة على الحدود السورية وتستمر حتى خانقين على الحدود الإيرانية، عاظم من الهواجس التي راودت العديد من الأوساط التركمانية والعربية في المناطق المختلطة، معتبرة ذلك محاولة لترسيم حدود الإقليم ما بعد القضاء على داعش. ويقابل ذلك بناء سور حول بغداد بطول نحو 240 كم، وهو أمر يثير القلق المتعاظم والمخاوف المستمرة من جانب الكثير من الأوساط في المناطق السنّية في حزام بغداد التي أخذت تساورها الشكوك، بأن الهدف الحقيقي من بناء السور ليس التحصّن ضد الإرهاب وهجمات داعش، بل اقتطاع أو ضم جزء من تلك المناطق إلى بغداد، في محاولة لتغيير خرائط المحافظات، لأسباب طائفية وسياسية وحزبية، والأمر يتعلق بانعدام أو ضعف الثقة بين الأطراف السياسية وفقدان الحد الأدنى من التوافق، وخصوصاً في ظل المتغيّرات الجديدة.
الإصلاح المعلن عنه ظل فوقياً وبطيئاً وبدا متعثّراً أو متلكئاً أو حتى شكلياً ويفتقر إلى دينامية حركية وآلية عملية، ناهيك عن إن الإصلاح بحاجة إلى إصلاحيين، فكيف يمكن لمن شارك في الفساد، وأصبح جزءًا منه أن يقدم على خطوات إصلاحية جذرية، وحتى وإن كان لدى العبادي رغبة في تحقيقه، فهناك عقبات تقف أمامه، أهمها نظام المحاصصة الطائفية والإثنية، واستمرار وجود الميليشيات، حتى وإن اندمجت جماعات الحشد الشعبي بوزارة الدفاع وتحت إشرافه، لكنه لا هو ولا غيره، بقادر على ردع بعض التصرفات اللاّإنسانية التي قامت بها بعض الجماعات المنفلتة. يضاف إلى ذلك ملف النازحين الذي أخذ يتضخم، وبلغ نحو ثلاثة مليون نازح غير قادرين على العودة حتى إلى مناطقهم التي تم تحريرها، ناهيك عن اندلاع حساسيات قديمة في أوساطهم وتنازع على مناطق النفوذ.
السؤال هل يستطيع العبادي إحداث هزّة في بناء العملية السياسية التي تم تصميمها بعد الاحتلال العام 2003، بحيث يتجاوز الكتل السياسية ويعين وزراء تكنوقراط؟ وهل سيحصل على تأييد البرلمان الذي هو مؤلف من ممثلي هذه الكتل ؟ أم أنه سيضحي بمستقبله السياسي، وبالتالي سيتم استبداله بشخصية من الكتلة التي ينتمي إليها، وهذه الأخيرة أما ستخضع لمتطلبات العملية السياسية والواقع القائم، أو سوف لا يكتب لها النجاح، وتستمر الدورة بالانحدار في مسلسل الفشل الذي أصبح معتّقاً.
وعكس ذلك فالأمر يحتاج إلى مغامرة من العيار الثقيل، ولكن هل يستطيع العبادي خوضها وتحمّل نتائجها؟ إنها باختصار وحسب صلاحياته الممنوحة وفقاً للدستور، أن يلجأ إلى تعطيل الدستور وحلّ البرلمان وفرض الأحكام العُرفية وتشكيل حكومة إنقاذ وطني، خصوصاً وإن ثلث البلاد لا تزال تحت هيمنة داعش، لمدّة عامين مثلاً، على أن يتم إجراء انتخابات بعدها. ولا شكّ إن مثل هذا القرار ستتم معارضته من القوى السياسية التي أوصلت البلاد إلى هذا الوضع المترهّل والمنخور، ولكن مغامرة من هذا النوع قد تستحق التضحية فهي ستحظى بدعم الناس، وحتى هزيمتها ستكون مشرّفة.
التغيير المطلوب ليس ترشيداً للوزارات أو ترشيقاً للطاقم الوزاري أو تغييراً جزئياً أو محدوداً أو شكلياً، فذلك ليس سوى عملية تجميلية، سرعان ما تظهر ما تخفيه من أخاديد وتجاعيد تركها الزمن. إنه يحتاج إلى عملية جذرية شاملة ولجميع المرافق وخطة طويلة الأمد، وقبل كل ذلك إلى إرادة سياسية صلبة. وإذا ضاعت الفرصة اليوم، فإن مستقبل العراق قد يضيع أيضاً في منعطف تاريخي خطير باستمرار داعش أو بهزيمتها، لاسيّما باندلاع صراعات تتعلّق بأمراء الطوائف وأصحاب الامتيازات، الذين لا يريدون التخلّي عنها، بل سيقاتلون ضد أي تغيير أو إصلاح يحدّ منها، فما بالك إذا استهدف التغيير القضاء عليها.
Top