كاتلونيا الكردية
وإذا كان منسوب المطالبة بقيام جمهورية كاتلونيا قد ارتفع في السنوات والأشهر الأخيرة بسبب اشتداد الأزمة الاقتصادية في إسبانيا، فإن المطالبة باستقلال كردستان وقيام كيانية خاصة به قد ارتفع رصيده مع اشتداد الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في العراق، وخصوصاً بعد هيمنة داعش على محافظة الموصل ونحو ثلث أراضي البلاد.
عاملان أساسيان دفعا الكاتلونيين إلى رفع درجة حرارة مطالبهم، الأول وهو تاريخي يتعلق بالهوّية والخصوصية الثقافية الكاتلونية، ولاسيّما اللغة، والثاني هو الاقتصاد حيث تشعر كاتلونيا وهي المقاطعة السادسة من مقاطعات إسبانيا السبعة عشر، إنها الأغنى ، لكن نصيبها من الخيرات والخدمات والرفاه هو الأقل، علماً بأن نحو 20% من الناتج القومي الإجمالي يأتي منها، في حين أن مساحتها لا تزيد عن 6% من اليابسة في إسبانيا، ونفوسها يبلغ عددهم سبعة ملايين ونصف ويؤلفون 15% من السكان.
تبنّى برلمان كاتلونيا قراراً بإقامة جمهورية كاتلونيا المستقلة بأغلبية 72 نائباً من أصل 135، ونصّ القرار على عدم امتثال النواب الكاتلونيين بعد اليوم لمؤسسات الدولة الإسبانية، وخصوصاً للمحكمة الدستورية. وكانت هذه الأخيرة قد اعتبرت القرار مخالف للدستور، وإن التمسّك بقرار الانفصال سيكون عصياناً. أما رئيس الوزراء الإسباني ماريانو راخوي فقد شدّد أنه لن يسمح لكاتلونيا بالانفصال، واعتبر قرار البرلمان الكاتلوني استخفافاً بمؤسسات الدولة ومحاولة لهدم الديمقراطية.
جدير بالذكر إن مقاطعة كاتلونيا التي تقع شمال شرق إسبانيا وتبلغ مساحتها 32.106 كم2 والمؤلفة من أربع محافظات أكثرها شهرة : برشلونة التي يبغ عدد نفوسها خمسة ملايين وخمسماية وأحد عشر ألف نسمة ، إضافة الى جرندة ولاردة وطراغونة، كانت قد فازت فيها القوى المطالبة بالاستقلال للمرة الأولى في آخر انتخابات نيابية.
وكان إقليم كاتلونيا يتمتّع بالحكم الذاتي خلال الجمهورية الإسبانية الثانية في العام 1931، ولكن بسبب انحيازه لصالح الجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية وسياسات التسلّط والهيمنة التي قادها فرانسيسكو فرانكو بعد العام 1936، واستمرت حتى وفاته في العام 1975 فقد تعرّضت حقوق الكاتلونيين ومطالبهم المشروعة للغمط والإنكار، ناهيك عن هدر لحقوق الإنسان، حيث تم حظر استخدام اللغة الكاتلونية في مؤسسات الدولة وفي المناسبات العامة، وأعدم رئيس كاتلونيا حينها بتهمة " التمرّد العسكري".
ولكن الحكم الذاتي أعيد العمل بقانونه في العام 1979 ومع ذلك فقد ظلّت كاتلونيا تشعر بالإجحاف، خصوصاً استثنائها من الحق الذي ظلّت تطالب به، وهو تحصيل ضرائبها، إسوة بإقليمي الباسك ونافار، وذلك بعد تقسيم البلاد إلى 17 إقليماً .
وكان لسوء الأوضاع الاقتصادية في عموم إسبانيا أن انعكس سلباً على إقليم كاتلونيا الذي يشعر سكانه بالإحباط حيث تدنّت شروط الرعاية الصحية وانخفض مستوى التعليم والخدمات الأخرى، وبسبب هذه الأوضاع ارتفعت نزعة الشعور القومي وزاد تمسّك الكاتلونيين بهوّيتهم وخصوصيتهم القومية واللغوية وانتمائهم الموحد، وكان مركز دراسات الرأي قد أجرى عدداً من الاستفتاءات التي يلمح منها درجة تطور الرغبة في الاستقلال، ففي العام 2005 كانت النسبة المؤيدة له تبلغ 13.5% ووصلت هذه النسبة إلى 34% في العام 2012 وخلال الانتخابات التشريعية، لترتفع في النصف الثاني من العام 2014 إلى 40.5%. وكان أحد الأسباب في ارتفاع الموجة الاستقلالية عن المملكة الاسبانية هو سياسات رئيس الوزراء راخوي منذ توليه الوزارة العام 2011 واستجابته لمطالبات الاتحاد الأوروبي باتباع نهج تقشفي بسبب الديون المتراكمة.
وفي التاسع من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني (الماضي) أي في العام 2014 أجرى استفتاء بشأن حق تقرير المصير (وإن كان رمزياً أي غير ملزم)، وكانت النتيجة 81% يوافقون على قيام دولة مستقلة و10% يوافقون على الانفصال دون إعلان دولة، وبسبب ذلك تم استجواب رئيس كاتلونيا أرثور ماس، وخضع لسلسلة من التحقيقات منذ شهر ديسمبر/ كانون الأول 2014، لكونه تحدّى السلطات القانونية في البلاد.
هل سيكون قرار البرلمان الكاتلوني في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني (الجاري) 2015، نهاية المطاف أم ثمة أزمة أكبر وأخطر ستندلع وهي مثل النار تحت الرماد؟ ثلاث سيناريوهات بخصوص المستقبل يمكن التوقّف عندها، وهي يمكن أن تظهر كردياً أيضاً، خلال المدّة القريبة القادمة.
السيناريو الأول، هو أن ترضخ حكومة مدريد لمطالب الاستقلال المالي والاقتصادي لإقليم كاتلونيا، وبهذا المعنى يمكن تأخير أو تأجيل إعلان الكاتلونيين فكرة الاستقلال الكامل، بالاستعاضة عنها باستقلال شبه كامل يكون لمصلحة الطرفين، خصوصاً في الشؤون الاقتصادية والمالية ودرجة عالية من الاستقلال الإداري، وفي جميع المرافق بدون استثناء، وقد تكون مثل هذه الفكرة الكاتلونية كردية أيضاً، بمعنى منح بغداد استقلالاً اقتصادياً ومالياً للإقليم وحلّ مشكلات النفط بما فيها الانتاج والتصدير واستمرار انسيابية وصول الموارد إلى إقليم كردستان، والعمل على حل المشكلات الأخرى، مثل كركوك والمناطق المتنازع عليها سلمياً حتى وإن تطلّب خطة طويلة الأمد، وهذا بالطبع يحتاج إلى استقرار وتوافق سياسي والتخلّص من داعش وذيولها.
السيناريو الثاني هو قبول مدريد مبدأ حق تقرير المصير للكاتلونيين وإجراء استفتاء بخصوصه، وستكون النتيجة كما هي كردياً لصالح الاستقلال، وهنا لا بدّ من بدء مفاوضات وحوارات شاملة حول التفاصيل والحقوق والواجبات والأفق المستقبلي عبر اتفاقية شاملة ، وبإشراف دولي لضمان التنفيذ مع حفظ الوثائق في الأمم المتحدة.
السيناريو الثالث رفض مدريد كما هو رفض بغداد مبدأ حق تقرير المصير وعدم قبولها بالاستفتاء ونتائجه، وهنا قد يقدم الكاتلونيون والكرد على إعلان الاستقلال من طرف واحد، وهكذا ستبدأ رحلة مضنية من المشكلات والتحدّيات . وإذا كان حلف الناتو والاتحاد الأوروبي ضامناً في التوصل إلى حلّ سلمي، فإن الوضع الإقليمي في العراق، ولاسيّما جواره ليس مشجعاً، فإيران وتركيا، تعانيان من مشكلة كردية قائمة، إضافة إلى سوريا، أما الحلول والمعالجات بخصوصها فهي لا ترتقي إلى ما وصلت إليه الحالة العراقية.
إن ما سيواجه المسارات الثلاث هو مجموعة من الإشكاليات والتعقيدات سواءً للدولة الأصلية أو للأقاليم المستقلة، لاسيّما في جوانبها الاقتصادية وقدرتها على النهوض بأعباء الأوضاع الراهنة والمستقبلية، فيما يتعلق بالإنفاق العام الذي تغطيه الحكومة الاتحادية، ولاسيّما ميزانيات الدفاع العسكري وتبعات التمثيل الدبلوماسي ومنشآت البنية التحتية والأصول الكبرى(التي هي للدولة قبل أن تكون للأقاليم)، ناهيك عن القدرة في تجاوز إيجابيات التجارة البينية بين الأقاليم والدولة الاتحادية، ولعلّ مثل هذه المشكلات ستكون حاضرة بقوة، خصوصاً عند إعلان الاستقلال.
وفي كاتلونيا فإن ما يصل إلى مدريد هو 49 مليار دولار، في حين إن ما ينفق داخل الإقليم هو 35.4 مليار ويتحقق فائض يتجاوز 13.6 مليار دولار تنفق على الأقاليم الأخرى وعلى تغطية ديون إسبانيا، أما في العراق فإن 17% من الواردات هي حصة كردستان، فماذا يمكن أن نتصوّر حين يتم قطع هذا الاستحقاق عن إقليم كردستان، وكان مجرد تعطيل جزء منها أو تأجيل دفعها قد أحدث أزمة خطيرة في كردستان وهدّد استثمارات المنطقة، وهو الأمر الذي لا بدّ من التفكير به.
إن استفتاء كاتلونيا الرمزي وقبله استفتاء كردستان الرمزي أيضاً حيث نال على 98% من أصوات التأييد، طرح أسئلة شائكة ومعقّدة وخيارات صعبة، قد يكون أحلاها مرّاً، وهذه الأسئلة المفتوحة بخصوص المستقبل ولا توجد إجابات موحدة بشأنها، ناهيك عن المحاذير التي ستواجهها. وهو الأمر المطروح كردياً، وقد كانت تصريحات رئيس الإقليم مسعود البارزاني (سبتمبر/ أيلول/ 2015) واضحة وصريحة حين أكّد أن الأكراد بدأوا بخطوات حقيقية نحو الاستقلال وستستمر بهذا الاتجاه، لكنه كان واقعياً حين أشار إلى أن من الصعب تحديد الوقت.
ومثل هذا التقدير سيطرح مستقبل الإقليم الكاتلوني أو الكردي، المرهقان بسبب الأزمة الاقتصادية والصراعات الراهنة والمعتّقة على بساط البحث، خصوصاً تقاطعاته واشتباكاته، مع دوائر إقليمية ودولية، سياسية وقانونية بما فيها الأمم المتحدة، فقد كانت تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون مثيرة وغريبة، حين قال إن الأمم المتحدة لا ترى من حق إقليم كاتلونيا الانفصال عن إسبانيا (ويقصد من طرف واحد).
جدير بالذكر إن محكمة العدل الدولية هي من أعلنت في 24 يوليو (تموز) 2010 عن رأيها الاستشاري بشأن استقلال كوسوفو، معتبرة إن هذا الاستقلال لا ينتهك قواعد القانون الدولي، كما إن الأمم المتحدة ذاتها من وافق على انفصال جنوب السودان باستفتاء شعبي حصل فيه الجنوبيون على أكثر من 98% من الأصوات المؤيدة وقبلت الأمم المتحدة دولة جنوب السودان العام 2011 . والأمم المتحدة هي ذاتها التي قررت قيام دولة تيمور الشرقية بانفصالها عن اندونيسيا في العام 2002، وهي ذاتها التي كانت وراء قيام دولة "إسرائيل" بموجب قرار الجمعية العامة رقم 181 لعام 1947 إخلالاً بميثاقها ومقاصدها وأهدافها، في حين أنها في الحالات المطروحة تستجيب لمقاربة القرار رقم 2625 الصادر في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) العام 1970 الذي تخطّى القرار رقم 1514 الخاص بتصفية الكولونيالية والصادر في 15 ديسمبر (كانون الأول) 1960 بامتداد ساحته ليس فقط إلى إنهاء الاستعمار بل إلى تلبية مطالب الشعوب لجهة حقوقها وحرياتها في تقرير مصيرها.
*باحث ومفكر عربي