صورة..
قيل إن ما كان لهذه الصورة من وقع يفوق مفعول آلاف الكلمات. ترجع القوة الإقناعية للصورة في عصرنا إلى ما تدعوه حنة آرندت " المصداقية ذات الأصل الإختباري". فعصر الصورة يقترن أساسا بهوس الإلتصاق بالواقع المباشر. وقد سبق لآرندت أن بيّنت " أنّ إنسان عصر الصورة، الذي يقدّس الشفافية، قد تخلّى عن كل مثل أعلى قد يكون بالنسبة إليه مصدر ردع وإكراه، فانطوى على نفسه بعيدا عن أيّ انفتاح على الخارج، وصار مكتفيا بعالمه الضيّق، ملتصقا بالمألوف الذي يعج بتمثلات تلتصق أشد الإلتصاق بالواقع المباشر". هنا يغدو "البعد الإختباري" empiricité أبلغ من أيّ تعبير، وأكثر قدرة على "الرّدع والإكراه"، وأقوى الحجج إقناعا، وأكثر الخطابات بيانا.
أول تجلّ لهذا "الإلتصاق بالعالم الضيّق" كون صورة الطفل آيلان ردّت كل من شاهدها إلى نفسه، وإلى "واقع الحال". تجلّى هذا أكثر ما تجلّى في تصريح وزير الخارجية البريطاني الذي انقلب رأيه في قضية المهاجرين رأسا على عقب، فاعترف: "أنا أيضا أب لأطفال، ولا أريد أن أرى ابني على هذه الحال".
صرّحت الصحافية التركية التي التقطت الصورة أنها رأت الطفلين الأخوين معا وقد ألقى بهما البحر على الشاطئ، إلا أنها أخذت صورة منفردة لكل منهما. لقد دفعها حسّها الصّحافي أن تدرك أن وحدة الطفل آيلان لغة جديدة ومغايرة للتعبير عن واقع الهجرة. فقد عودتنا الوسائط الإعلامية في هذا الشأن تعبيرات عددية كمية تحصي كل يوم ضحايا "الحرائق" البحرية، وقد ألفنا تلك الأعداد إلى حدّ أن فروقها لم تعد تعني بالنسبة إلينا شيئا كثيرا. ولا شكّ أن كلا منا رأى أكثر من مرة على الشاشات العالمية الجثت العديدة التي لا يفتأ البحر يلقي بها على مختلف الشواطئ الأوروبية، غير أن التعبير الكميّ غالبا ما يخفي قوة "الكيف" ويحجبها. ولا شك أن صورة طفل وحيد ملقى به دون حراك في شاطئ كان ممتلئا طيلة فصل الصيف صخبا وحركة وحياة، طفل لا نستطيع أن نحدّد من خلال الصورة لا هويته ولا وطنه ولا دينه ، لا شك أنها تلخّص بكثافة أكثر هول مأساة الهجرة، وتبرز للعيان الخلل العميق الذي يطبع العلاقات الدولية، وتجسد بعمق وكثافة، عجز الذين يتشدّقون بقيم المساواة وحقوق الإنسان عن مدّ يد المساعدة لمن يعلّق آماله على العبور نحو العالم المتحضر.
رغم الحراك الأوروبي الذي خلفته صورة طفل بلا حراك، فيظهر أن الأمر لا يعدو ردود الفعل المباشرة، وأن الضرورة قائمة بإلحاح للتعلق بـ" مثل أعلى يكون مصدر ردع وإكراه حقيقيين"، بحيث لا نقتصر على "الإلتصاق بعوالمنا الضيقة"، والإكتفاء بـ"المصداقية ذات الأصل الإختباري"، كي نفتح أعيننا على الواقع الفعلي بكل مآسيه ومرارته، وإلاّ فنحن لن ننفك نرى البحر يقذف بأطفال لا يملكون حراكا يُولوننا ظهورهم، ويمتنعون عن أن ينظروا إلينا وجها لوجه، غضبا ويأسا من الإنسان فينا.