حول التوجه إلى مؤتمرات إقليمية بشأن الوضع العراقي
وإذا كان صحيحاً تماماً ارتباط دول المنطقة بواقع جيوسياسي مشترك، وإذا كان صحيحاً تأثير أية تداعيات في العراق على مجمل المشهد الإقليمي، فإنّه من الصحيح أيضاً أنّ تلك الأوضاع ليست بمعزل عن تاثيرات أوضاع دول الجوار وسياساتها على الوضع العراقي سواء منها تلك التاثيرات المقصودة أم غير المقصودة ولكنها الناجمة عن طابع الجوار الجغرافي...
لكن بجميع الأحوال يبقى العامل الداخلي العراقي صاحب قرار في تحديد مقدار التأثيرات سلباً أم إيجاباً.. فحيثما قوي العراق وجبهته الداخلية استطاع أن يصد أيّ خروق لحدوده ولسيادته وأن يمنع عبور ميليشيات الإرهاب ومافيات الخراب..
نُذكّر هنا، بما جرى من زحف على الأرض العراقية وقضم للسيادة وانتهاك لها حيثما ضعفت قوة البلاد، وطوال المدة ما بعد 2003 شهدنا على سبيل المثال كيف تم قضم الساحل العراقي وأراض فيها حقول بترولية تحت تسويات أشرفت عليها الأمم المتحدة! وأخرى في ظل الانهيار وحل الجيش حيث ارتكبت فيها الجارة الشرقية استباحة أراضٍ حدودية ومدت سلطانها على المياه الإقليمية حتى وصلت الكويت، عبر مياه الخليج العربي..! لتعمل سوراً بحرياً يُغلق الممر البحري على العراق والعراقيين!!
ولطالما مورست أعمال القصف واختراق العراق الفديرالي بمنطقة كوردستان وعملت دولتا الجوار الشرقية والشمالية على إفراغ المنطقة الحدودية من أهلها! فيما استبيحت القرى والمدن وأجوائهما؛ وصالت وجالت عسكريا بذرائع عديدة وبالتعكز على اتفاقات أمنية لم تعر للسيادة العراقية ولحقوقه أي اهتمام.
ومعروفة مشروعات السدود على الأنهار المشتركة تلك التي أهملت الإصغاء إلى الحملات الوطنية والأممية والمواقف الدولية المثبتة بمواثيق وعهود وقوانين مازالت مضروبة عرض الحائط في ظل الظروف الخاصة بالعراق اليوم؛ فقطعت إيران عشرات الروافد وجففت أبرزها فيما قضمت تركيا أغلب الحصة العراقية من دجلة والفرات؛ هذا فضلا عن التغييرات الجيولوجية التي تسببت بها تلك السدود راهناً وما تتنبأ به الدراسات مستقبلا من كوارث!!
ولابد من الإشارة الصريحة إلى أنّ قوى الإرهاب التي تحولت بين ليلة وضحاها من عناصر وشراذم عصابات إلى كينونة بجيش مقاتل تستغل دعماً لوجستيا في حراكها بتنوعاته، ميدانه دول الجوار وكذلك استغلال سياسات ومواقف بعينها لحكومات تلك الدول، لتعضيد وجودها!؟
لكننا علينا هنا، معالجة مسألتي الضعف الهيكلي والخلل البنيوي للدولة العراقية وهزال السياسات الحكومية وفشلها التام في معالجة اختلال التوازن وعدم تمكنها من التصدي لمسؤولياتها تجاه مجمل تلك الخروق بل التهاون والتبعية لطرف معروف على مدار السنوات العجاف الكارثية منذ 2003 حتى اليوم..
لقد جاءت المحاصصة بعناصر لا تمثل رجال دولة ولا رجال سياسة، وهي بالخلاصة لا تمتلك برنامج بناء مؤسسي للدولة العراقية الجديدة. وكل ما أتت به هو تسويق لأجندات طائفية أخضعت البلاد لأجندات إقليمية غير خافية على كل لبيب.. ومن ثم وجدنا الحكومات المتعاقبة تتصرف تجاه مسؤولياتها وكأنها امتلكت غنيمة باتت تتقاسمها مادياً تاركة الفرص واسعة لعبث التدخلات الخارجية بالبلاد والعباد!
ولقد طبعت السياسة الإقليمية تبعية تامة لإيران بوجود تدخلات معلنة وأخرى متخفية بذريعة (وحدة المذهب والحلف الطائفي!!). فيما جرى قطع جسور العلاقات مع دول الجوار الأخرى ووضع العراق في تعارض مع تلك الدول في تسويق معلن سافر لاختلاق الصراع معها على أسس طائفية!
إنّ تلك السياسة الممنهجة لا العارضة الطارئة خلقت تمزقات في النسيج العراقي ومنحت الفرص واسعة لاختلاق ثغرات خطيرة لتبرز الأجندات الخارجية على حساب الأجندة الوطنية.. ومن ثمّ باتت كل الأنشطة المدارة إقليميا تبحث في اقتسام البلاد وكيفية أخذ أكبر حصة من الكعكة العراقية!
وقد جرى ويجري كل ذلك عبر عقد مؤتمرات تميزت باستبعاد من يمكنه أن يمثل الأجندة الوطنية العراقية، بغياب حكومة تمثل العراق وطنياً لا طائفياً وببروز حال احتضان القوى الطائفية الذليلة الخانعة لتسويق أجندة غير عراقية وتجسيد الروح الطائفي والانقسام على وفق مبرر الوجود الطائفي بين جناحين...
إنّ كون برامج الحكومة الاتحادية هي برامج طائفية ومن ثم كونها بالضرورة وبالنتيجة برامج تجسد هزيمة المشروع الوطني وتفاقم أزموي للانقسامات وحال التشظي السائدة يعني أن أدائها يتجه بالضرورة نحو تمسك مرضي بالتبعية لطرف نظير ببنية الجناح الطائفي المهيمن في تأسيسٍ لاتجاه إقليمي تتشرذم فيه دول المنطقة وتتقسم على نحو لا يراعي الأبعاد الوطنية لوجود دول المنطقة بل يقمع أنسنة الشعوب وحقوقها ويضعها على سكة الصراعات المفروضة قسراً عليها...
وهكذا كانت أغلب المؤتمرات الإقليمية انعكاس لما انحدرت إليه الأوضاع العراقية.. وكل ما يصدر عن قيادات الطائفية لا يمكن الركون إلى أنه سيتحول يوماً إلى ما يخدم وطنا وحقوق شعبه.. إذ لا يمكن للذئب أن يتحول إلى حَمَل وديع.. ونداءات عناصر أحزاب الطائفية تظل تخفي في طياتها أمرين: أولهما مواصلة التضليل وثانيهما إدامة اللعبة الطائفية للتقدم بها خطوات إلى أمام حيث مزيد الانحدار والانهيار.
بينما المؤتمرات التي ينبغي عقدها يلزمها أجندات تحترم الوجود الوطني لجميع دول المنطقة. وتتجه لإحلال التعايش السلمي بينها. وأن ينهض بهذا أطراف لا يُشتبه بمرجعياتهم القابعة في عواصم غير عاصمة البلاد.. ولربما تعمق الجرح الفاغر نتيجة الربط بين وهم ما يُسمى مرجعية دينية لهذا المذهب أو ذاك وبين مرجعية الحكومة التي يجب بالضرورة والحتم أن تكون وطنية حصراً بدستور البلاد والسمو الدستوري للشعب أي بضرورة الفصل بين الدين والدولة، أو التسم ببناء دولة مدنية على وفق ما طالب ويطالب به الشعب العراقي..
إنّ إمكان أن ينعقد مؤتمر إقليمي اليوم بشأن الوضع العراقي لا يمكنه أن يكون مضمون النجاح من دون وجود ممثل لصوت الشعب العراقي مباشرة بسبب من كون من يتصدر السلطة ويسطو على كرسيها لا يعده تكليفا وطنيا لخدمة مصالح الشعب وأجندته بل يعد ذلك غنيمة يضعها حيثما تقتضي رغباته وأفكاره المرضية بالتقسيم الطائفي محليا إقليميا..
وفي الحقيقة، فإننا عراقيا اليوم، لا نملك سوى ركناً فديراليا سليما، هو الوجود الكوردستاني الذي مضى بترسيخ بنية مؤسسية للدولة المدنية بعيدة عن الانقسامات الطائفية وفلسفتها وبرامجها وأدار سياسة خارجية تقوم على قراءة التوازنات والتعامل في ضوئها بما يجنب الشعب كوارث وتعقيدات مضافة من التدخلات الخارجية ووضع ما يحصل بحدود تأثيراته الدنيا.. بخاصة في ضوء تمسك كوردستان بمبادئ التعايش السلمي وحسن الجوار واتخاذ الحوار طريقاً لحل ما طفا نتيجة هزال أداء الحكومة الاتحادية واضطراب سياساتها الإقليمية..
ومع أن إقليم كوردستان يتسم بطابعه وهويته القومية المستقلة إلا أنه لم يقطع العلاقات مع دول ظل التحالف الاستراتيجي معها وشعوبها تاريخيا معروفاً بصوابه وسلامته.. ولذا تجد كوردستان تواصل بناء جسور العلاقات مع الدول العربية وتسير باتجاه توازنات منطقية مع جميع دول المنطقة..
وربما تمثل هذه النافذة فرصة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في الاتجاه نحو عقد مؤتمرات إقليمية موفقة في معالجاتها ونتائحها.. بمعنى التوجه عراقيا نحو تركيبة الوفود الخارجية من ممثلي بغداد وأربيل وكذلك إيجاد أرضية (قانونية) مؤقتة لتمثيل الحراك الشعبي المدني لتعزيز منهج يمثل العراق الفديرالي الجديد وللحد من المنطق الطائفي للحكومة الاتحادية ولانغماسها في القطيعة مع المحيط العربي والتبعية لطرفٍ نشهد استغلاله الظروف العراقية المتدهورة..
إنّ مما سيضيف إلى المؤتمرات الإقليمية المنشودة فرص نجاح يتجسد بوجود تمثيل فاعل للمنظمة الدولية من جهة وللأطراف العراقية التي أشرنا إليها في ظل سقوط شرعية حكومة طائفية تأتمر لمصلحة أعتى تركيبة فساد على وفق القراءات والمعايير الدولية استقر فيه وضع العراق طوال أكثر من عقد ونيف...
وخلا ذلك فإن النداءات والتصريحات التي تنطلق اليوم إنْ هي إلا أوراق دجل تستمر بالعبث والتضليل وترمي إلى إطلاق بالونات اختبار وتسكين أو تخدير لهذه الموضوعة أو تلك لتمرير ما يختفي من مخاطر مهلكة مبيتة للعراق والمنطقة..
فهلا تنبهنا إلى قراءة طابع العلاقات الإقليمية وما تجري الدعوة له بين الفينة والأخرى من مؤتمرات.. لها الجعجعة ولدعاتها الطحن بينما لا يصيب العراق والعراقيين منها سوى مزيد تدهور بات حتميا أن نعالجه عاجلا بموقف حازم يمكنه أن يحسم الأمور بعقد مؤتمر شرق أوسطي يعالج الوضع بكليته وشموله ويستجيب لبناء الثقة وجسور احترام جميع الدول واستقلالها وسيادتها وتعاونها البنيوي في إطار التعايش السلمي ونزع التسلح الكتلوي واعتماد منطق جديد للعلاقات..
إنّ هذا الاتجاه الجديد الذي يقرأ الوضع العراقي وخلله البنيوي ويضع البدائل، هو ما سيخدم شعوب المنطقة وينهي مآسيها وأشكال الاحتراب فيها وهو ما يمكنه أن يمثل الأجندة السليمة بديلا لما يجري بكل شروره وما اختلقه ويختلقه من صراعات وأزمات..