من هو على حق: الشعب العراقي أم مجلس القضاء الأعلى؟
الجانب الأول: يمتلك الرجل معرفة واسعة بالقضاء العراقي والتشريعات العراقية، كما يمتلك خبرة جيدة وكبيرة في المحاكم العراقية. هذا الجانب معروف عنه ويذكره العدو والصديق.
الجانب الثاني: لا يمتلك الرجل شجاعة الحقوقي الذي يفترض أن "لا يخشى في الحق لومة لائم". فقد تحول إلى بسطال (چزمة) المستبدين، ارتداه حتى الآن من شاء من الحكام ليدوس به على السلطة القضائية والدساتير والقوانين والشعب، كما إنه انتهازي لا يضاهيه أحد في سلطة القضاء العراقي، وهذا ديدنه منذ ما يقرب من 40 عاماً، أي منذ أن كان، أو حتى قبل أن يصبح، صدام حسين رئيساً لمجلس قيادة الثورة ورئيساً للجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة. إنه الأداة القانونية بيد الحكام المستبدين ابتداءً من صدام حسين ومروراً بپاول بريمر وعلاوي والجعفري وأخيراً بالمالكي على نحو خاص. ولكنه في الوقت نفسه مستبد في منصبه إزاء من يعمل معه، متسلط على رقاب موظفيه والقضاة. فليس من حق أحد من العاملين معه معارضته، وإلا فالويل له، في حين يطلقون عليه في ما بينهم بقاضي القضاة الجبان إزاء الحكام. وإذا كان يخشى صدام حسين وغير هويته الكردية الفيلية واسمه، فإنه كان عاشقاً للمالكي وحكمه، وهي نتيجة منطقية من خشيته منه أيضاً. من يقرأ تاريخ مدحت المحمود يصاب بالقرف الشديد ويتمنى أن لا يتطلع إليه بسبب ما نشر عنه. ولم يكن عبثاً حصول ثلاث مسائل مهمة في الآونة الأخيرة:
• إصرار الشعب على التظاهر ضد مجلس القضاء الأعلى وعموم السلطة القضائية والمطالبة بإصلاح القضاء كله جذرياً لأنه فاسد من الرأس حتى القدمين. ولم يكتف الناس بالتظاهر في أيام الجمعة ضد القضاء بل تظاهر الناس أمام مجلس القضاء الأعلى. ولأن المحمود هو الذي كان يضع صيغ القوانين التي يطلبها الدكتاتوريون والتي تمعن في احتقار وهدر كرامة الإنسان وتكبيله.
• إصرار المرجعية الدينية الشيعية على لسان ممثلها على ضرورة إصلاح القضاء العراقي، وهي كما يبدو تمتلك من المعلومات عن أفعاله خلال العقود الأربعة المنصرمة بما يؤكد لها ثوب دعمها لعدالة مطلب الجماهير بإزاحته وتحرير القضاء منه ومن مريديه.
• وبسبب إصرار أعضاء مجلس القضاء الأعلى على رفض طلبه للتقاعد، لأنه هو الذي أتى بهم واختارهم ليكونوا عوناً له في ما يتخذ من قرارات وما يضع من قوانين. بعضهم يستحق الموقع، وبعضهم منسجم مع المحمود ولا يختلف عنه.
فهل استمرار وجوده على رأس السلطة القضائية يساعد على إصلاح السلطة القضائية؟ لا أعتقد ذلك بل إن وجوده يعتبر ثورة مضادة لهبة الشعب التي تنادي بالتغيير. الكثير كان يقول إن إخراج المالكي من السلطة لا يغير شيئاً. ولكن الحقيقة غير ذلك. فتغيير المالكي فتح أبواباً جديدة للتغيير ما يزال الشعب يناضل لتوسيعها وتجذرها وعدم السماح بإفلات المناهضين لمصالح الشعب والفاسدين من وجه العدالة.
في الطرف الآخر تنكشف للشعب العراقي الكثير من القضايا التي تجسد طبيعة القضاء غير المستقل والكوارث التي تسبب بها لعدم ملاحقته للإرهابيين والفاسدين. كما إنه ما يزال جزءاً من صفقة المحاصصة الطائفية بالعراق، ولم يحتل هذا الموقع على أساس النزاهة والإخلاص لحقوق الإنسان والشرعية والدستور ومصالح وإرادة الناس بالعراق.
فمن هو على حق في الموقف من قاضي القضاة مدحت المحمود: الشعب أم مجلس القضاء الأعلى الذي رفض استقلالية المحمود؟ من الذي ينبغي له أن ينتصر في هذه المعركة الشرسة: الشعب أم مدحت المحمود الذي يتهمه الشعب بالفساد وعدم احترام الدستور والقوانين وإرادة ومصالح الشعب.
تحدث السيد رئيس الوزراء العراقي مشيراً إلى جود من يريد إسقاط السلطات الثلاث ليشيع الفوضى بالبلاد؟ نعم هناك من يريد ذلك، ولكن ليس الشعب من يريد ذلك وليس المتظاهرين الذين يطالبون بالإصلاح وليس المرجعية الدينية الشيعية التي وقفت غلى جانب المتظاهرين وطالبت بإصلاح السلطات الثلاث لأن الفساد والفاقة الفكرية عشش فيها واحتمى بعضها بالبعض الآخر. ولكن الإصلاح والتغيير الذي يطالب به الشعب وأيدته المرجعية بحرارة وطالبت بإقامة مجتمع مدني لا يعني إسقاط السلطات الثلاث وخلق فراغ سياسي وتشريعي وقضائي بالبلاد، بل يريد تغيير هذه السلطات وإحلال النزيهين وغير الطائفيين والمتعصبين، إحلال مواطنين أكفاء محل الفاسدين والمارقين والذين أذلوا الشعب ودفعوه إلى الجوع والحرمان، ووضعوا جزءاً من البلاد تحت احتلال أكثر الوحوش افتراساً وهمجية، إنهم الأوباش من الداعشيين والبعثيين والنقشبنديين ومن حالفهم وتبنى نهجهم في التكفير والقتل والسبي والاغتصاب والنهب والسلب وتدمير التراث الحضاري لشعب العراق.
إن على الحكومة ومجلس النواب ومفوضية النزاهة والإعلام العراقي الحر ونقابة المحتمين فتح ملفات أعضاء مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية أولاً، ومن ثم القضاة الآخرين بالتدريج للتعرف على الاتهامات الموجهة لهم من طرف الشعب والمرجعية والكثير من الإعلاميين النزيهين الذين يتابعون تصرفات الحكام من جهة وسلوك القضاة والادعاء العام إزاء هؤلاء الحكام من جهة ومصالح الشعب وإرادته وحقوقه من جهة أخرى. والتعرف على العوامل التي أدت إلى إهمال الوقائع والاتهامات خلال تسع سنوات تقريباً من حكم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي ومن كان معه في الحكم، أو الموقف من النواب أو القضاة الفاسدين طيلة السنوات المنصرمة.
إن هذه العملية المطلوبة هي التي سترضي الشعب وتشير إلى توجه فعلي لدى رئيس الوزراء بأنه غير متردد بما يتعلق بالإصلاح وضروراته، إذ إن أهم ملفات الوضع السابق لم تفتح تماماً ولم تتابع حتى الآن، بما في ذلك موضوع اجتياح واستباحة واحتلال الموصل وباقي المحافظات المحتلة أو الموقف من المجازر التي تعرض لها السكان في أكثر من منطقة وجماعة سكانية مثل أتباع الديانة الإيزيدية أو المسيحية أو الشبك والتركمان الشيعة، أو ما جرى ويجري لأهل الموصل المسلمين السنة أو في المحافظات الأخرى وخاصة ضد العشائر في المناطق الغربية ...الخ.
إن من مهمة السيد رئيس الوزراء تتلخص إلى جانب الإصلاحات العمل على إعادة العلاقات الطبيعية والنضالية المشتركة بين قوميات وأتباع الديانات والمذاهب بالعراق ضد قوى التكفير الداعشي وقوى البعث المسلحة المتحالفة مع داعش والإرهاب والفساد في سائر أرجاء العراق. كما يتطلب قضاء عادلاً يستطيع المساعدة الفعلية وبحيادية واستقلالية المشكلات التي تنشأ بين رئاسة وحكومة الإقليم والحكومة الاتحادية أو بين بينها وبين مجالس المحافظات أو مع مجلس النواب...الخ.
إن إصلاح القضاء يعني توجهه صوب محاسبة الفاسدين والإرهابيين واستعادة أموال العراق المنهوبة والذي لم يتم بالطريقة المطلوبة حتى الآن والتي توقف أيضاً النهب غير المنقطع وبأساليب شتى.
إن إصلاح القضاء يعتبر معياراً لمدى توجه السلطتان التشريعية والتنفيذية صوب إصلاح الوضع كله ومقاضاة الفاسدين والمفسدين والطائفيين ومن بث أو يبث الفرقة والكراهية الدينية والمذهبية والقومية في صفوف الشعب، ومن يصادر حرية الإنسان وحقوقه الأساسية بما في ذلك التهام خزينة الدولة وإفقار الشعب. فهل سيتوجه رئيس الوزراء إلى خطوات فعلية جادة، سريعة وصائبة بهذا الاتجاه؟ الشعب كله ينتظر الإجابة عن هذا السؤال، والإجابة الصحيحة المطلوبة هي التي تسمح بنشوء ثقة متبادلة مفقودة حتى الآن!