الدستور الكوردستاني بين عمقه المدني وخطابه القانوني وضغوط الخطاب السياسي
إنّ كتابة الدساتير بجوهرها تبقى عملية قانونية بحتة تتضمن اتفاقا مجتمعيا على عقد يُصاغ بروح القانون وبجوهره ومبادئه وآلياته. وطبعا يتضمن معالجة القانون الأشمل لمناحي الحياة ومفرداتها. على أنه لن يكون لا عقدا اجتماعيا شاملا ولا دستوراً معاصراً عندما يخضع لخطابات سياسية حزبية أو فئوية مجتزأة..
ومن أجل ذلك، ومن أجل أن يبقى الدستور معبراً عن الجميع بلا استثناءات أو مصادرة أو تهميش وأو تمييز تركبّت لجنة الصياغة من عناصر أدخل بالجهد القانوني، ومن ممثلي التنوع والتعددية المتعايشة بكوردستان. وهذا الإجراء، ليس من أجل تجسيد طابع انفصالي بصيغ الكانتونات والغيتوات الانعزالية كما يطرح بعض مراهقي السياسة ممن يرتفع صوته وسط وسائل الاتصال الاجتماعي مستغلا التكنولوجيا التي توفر الفرص لأصحاب العقل الموضوعي ولغيرهم..
وأيضا لم تكن تلك التركيبة الغنية بالتنوع من أجل كتابة صياغات تتبنى هذا الاتجاه السلبي التقسيمي؛ الذي يطالب بعضهم في إطاره بتلصيق نصوص لـ(أشلاء) ممزقة تعبر عن تلك المعازل بعضها مع البعض الآخر لإظهار ما يسمونه دستورا معبرا عنهم وفي الحقيقة إن صيغ الدستور على وفق أهواء أولئك لن يعبر عنهم بقدر ما سيعبر عن المستفيدين من عناصر السياسة الحزبية على حساب بنات الشعب وابنائه..
إذن، تلك التعددية في التمثيل باللجنة جاءت لتوكيد احترام مبدأ التعددية والتنوع ومن أجل منع التجاوز على المواطن وحقوقه وحرياته بذريعة انتمائه لأقلية من باب التهميش والمصادرة! وتلك هي السمة الإيجابية السامية لبناء اللجنة بصفة قانونية من جهة وللتعبير الشامل عن الجميع من جهة أخرى ولكن بأسس سليمة نوعيا لا تقبل التعبيرات السياسية الضيقة الأفق.
إنّ لجنة الصياغة المعنية ينبغي لها أن تؤكد هنا، انتماء كوردستان بوجودها الحالي وبنية توجهاتها إلى عصرنا ومنطق الحداثة في بنى مؤسساته.. وليس إلى زمن القرون المظلمة وما يعبر عنه الخطاب السياسي لبعض الأطراف؛ أي عليها توكيد ما يفرضه منطق المعاصرة وتوجهاته من وجود (الدولة المدنية) الحاضنة لجميع التنوعات الإنسانية بروح (دولة المواطنة) الضامنة لحقوق وحريات التنوعات والهويات الفرعية المتعايشة من دون منقصة وتلك هي مهمتها الجوهرية والنهائية..
لق أثبتت تجاريب الشعوب ومنه ما جرى في العراق الفديرالي، أنّ احترام تلك الحقوق الجوهرية الأساس، الثابتة بالمواثيق والعهود الدولية لا يأتي إلا من صياغة (دستور مدني) الجوهر؛ يحترم بنى التعددية والتنوع، ولا يسمح بالاعتداء أو المساس بأيِّ مكونٍ بل يحمي وجوده وحقوقه وحرياته.
وفي ضوء هذه المؤشرات (القانونية) المعروفة، ينبغي أنْ تشير عملية صياغة الدستور إلى احترام تلك التعددية في إطار مؤسسي لدولة المواطنة.. وأن تلتزم جميع الأطراف الموجودة في لجنة الصياغة به وليس بمرجعياتها الحزبية وخلفيايتها العقائدية.
ونحن هنا في العمل الحقوقي والسياسي المدني، نجد أنّ دعم هذا الاتجاه الإيجابي بثبات جوهريا.. وبناء عليه، نتضامن بقوة مع جميع القوى التي تحمل هموم الكوردستانيين بكل أطيافهم ومكوناتهم وتلتزم بكوردستان العدالة بعيداً عن مفاهيم أكثرية وأقلية التي تتضمن أحياناً احتمال تمرير ممارسة تهميش بعض الأطراف مما لا يمكن القبول به قطعاً. بالإشارة هنا إلى جهات تتحدث في ضوء ما تسميه الأكثرية المسلمة وتُحاول الإيهام بأنها تعني أكثرية لأحزاب التأسلم السياسي والفرق كبير من حرية الاعتقاد الديني وتعبيره عن إيمان الفرد بعقيدة المكفول بالدستور المدني وبين الادعاء أن كل مسلم هو عضو بحزب الإسلام السياسي وهو أمر غير صحيح بالمرة؛ بل الأنكى في الأمر أنه يعبر عن سلطوية وأوامرية لأحزاب الإسلام السياسي يسلطونها على رقاب المواطنين الأحرار الذين يمتلكون حقهم الثابت في رفض هذا المنطق وفي الانتماء أو عدم الانتماء لأي توجه سياسي.
إن قوى الخير والحرية تأمل أن يعمل الجميع تحديدا من أعضاء لجنة الصياغة، بروح التفاعل والعمل الجمعي المشترك والحرص على استمرارية الجهود وليس بصيغ الفرض أو ما يعرقل مهمة الإنجاز بأيّ شكل. مذكّرين هنا بأن صياغة الدستور يجب أن تبقى في إطار خطاب قانوني لا يمسّه ويشوهه الروح الحزبي وخطابه السياسي ضيق الأفق. الأمر الذي يفترض بجميع أعضاء لجنة الصياغة ممارسة جهودهم باستقلالية تامة وباعتماد الاشتغال القانوني البحت لا العمل بصيغ تمثيل فئوي حزبوي ضيق كما تفعل قوى الإسلام السياسي المتعارضة مع خطاب مدنية الدولة ومدنية الصياغة المنتظرة للدستور وبالإطار تحصل حالات انسحاب من هذا الطرف أو ذاك على خلفية هذه المواقف الحزبوية..
من جهة أخرى فإنّ رسم مفردات الدستور ومحاوره وفصوله تقوم على خيار النظم المجتمعية التي تراها غالبية الشعب وممثليه وعند الاختلاف على قضية هناك كثير من الوسائل للحل والوصول إليه. وليس من بينها التضاغطات القائمة على الفرض وأو أيّ ممارسة سلبية مثلما يحصل بتهديدات قوى الإسلام السياسي للجوء للتخريب أو مثلما يحصل بانسحاب بعض الأطراف على خلفية مطالب اشرنا إلى خطأ فرضها وإقحامها بدستور يمثل عقدا اجتماعيا قانونيا لا سياسيا...
لقد برهنت الأوضاع ومسيرة كوردستان طوال السنوات منذ انتصار الثورة وايضا منذ تبني النظام الرئاسي صحة المسار حتى هذه اللحظة الأمر الذي يمكن الاستمرار فيه وإقرار الدستور في ضوء نجاحات المسيرة .. وطبعا يمكن في مراحل أخرى لاحقة البحث شعبيا في التغييرات التي تتلاءم وكل مرحلة وعلى وفق ما تفرضه لاحقا الأوضاع من مطالب واقعية.
وقطعاً يدرك الجميع ما يحيط بكوردستان اليوم من تهديدات في مختلف الجبهات ومن المغامرة الربط بين صياغة الدستور وتغيير النظام وبين تطبيقه الفوري بطروحات تغيير الرئيس في هذا الظرف المعقد. وبالنظر في تجاريب الشعوب لم يحصل أن تحدثت عن فرض تغييرات في وسط المعركة التي تخوضها البلاد ضد التهديدات الخارجية، إلا على خلفيات خطيرة من قبيل وفاة أو عجز أو خيانة وهي شروط لم تحصل بل الذي حصل أسمى التضحيات وإدارة دفة السفينة بأفضل مسار وتجنيب كوردستان وشعبها مخاطر ما جرى ويجري في محيطها من انهيارات وكوارث..
لذا ينبغي أن تواصل اللجنة مسارها بأسس قانونية سليمة وبمبدأ مدنية الاتجاه ورفض فروض الأسلمة من جهة والتمزيق بحسابات مشروعات الفيتوات الانعزالية سواء على اسس دينية مذهبية أم قومية.. فكل ذلك يتعارض ومنطق وآليات الدولة المدنية وقوانينها ودساتيرها.
وبذات الوقت سيكون موضوع النظام المجتمعي السياسي العام قائما على اساس الاستمرار بما نجحت فيه التجربة الكوردستانية وتأجيل أي تغييرات راديكالية إلى مراحل لاحقة تكون الأوضاع المحيطة بكوردستان مستقرة وتكون كوردستان غير معرضة لمهول التهديدات القائمة اليوم.
ولابد من التأكيد هنا، أنه على الرغم مما جابه اللجنة من أطراف وجهات فيها، على خلفية حزبية أو عقيدية دينية إلا أنّ الحزم في الموقف وحكمة إدارته وحسمه بأسس الدساتير المعاصرة في وجودنا الإنساني، يؤكد ضرورة وضع الثقة بكون اللجنة ستنتهي من كتابة دستور لا يعود لنا باتجاه فروض تدعي انتماءها للدين وتمثيله وحتى ادعاء تمثيلها الله على الأرض لتمرر مواقفها وخطابها السياسي الماضوي.. وثقتنا وطيدة بأن جلّ الأعضاء يسعون باتجاه دستور لــ(دولة مدنية) تحترم مواطنيها وحقوقهم مثلما تحترم انتماءاتهم وانحداراتهم القومية والدينية والمذهبية وتكفل للجميع ممارسة حياته في إطار دولته المدنية التي لا تغلِّب طرفا على آخر ولا تميزه بناء على أغلبيته العددية ولا تهمِّش طرفا بناء على أقليته العددية بل الدستور هو العقد الاجتماعي للعدالة التامة بين الجميع أي هو القانون العام الأشمل لآليات العيش بأفضل سبلها.
*رئيس جامعة ابن رشد في هولندا