• Friday, 22 November 2024
logo

لنتحاور بهدوء ونناقش أفكار وملاحظات السيد أياد السماوي بموضوعية بصدد حق الشعوب في تقرير مصيرها:

لنتحاور بهدوء ونناقش أفكار وملاحظات السيد أياد السماوي بموضوعية بصدد حق الشعوب في تقرير مصيرها:
شعب كُردستان العراق نموذجاً
كاظم حبيب
(2-3)
سادساً: طرحت مناقشة هذه الفقرة في الفقرات السابقة من الحلقة الأولى ولا تستوجب العودة إليها.
سابعاً: يشير السيد أياد السماوي إلى أن الشعب الكُردي ارتضى التوحد مع العراق في استفتاء عام 1924 وبالتالي فليس من حقه الخروج عن هذا الاتفاق. لا بد لي أن أحيل السيد أياد السماوي والقارئات والقراء الكرام بهذا الصدد إلى كتابي الموسوم "لمحات من نضال حركة التحرر الوطني للشعب الكُردي في كُردستان العراق" الصادر في العام 2005 عن دار أراس باربيل والذي يجيب عن الكثير من هذه المسائل التي طرحها السيد السماوي، إضافة إلى مقال موسع لي عن موقف الأستاذ عزيزي شريف من المسألة الكُردية. ومع ذلك سأتناول هذه القضية من جديد وبشكل مكثف.

إلحاق كُردستان الجنوبية بالدولة العراقية الحديثة

لم تكن انتفاضة السليمانية عام 1919 حركة عفوية انطلقت من رغبة وإرادة فرد واحد هو الشيخ محمود الحفيد, بل كانت تجسيدا لرغبة وطموح الجماعات الواعية من الشعب الكُردي التي كان في مقدورها تحريك المجتمع الكُردي في المدينة والريف لصالح المطالبة بحقه في الوحدة وفي تقرير مصيره وإقامة دولته الوطنية على أرض كُردستان، إضافة إلى وعود الدول المتحالفة ضد الدولة العثمانية التي كانت قد أعطيت للقادة الكُرد حينذاك بإقامة الدولة الكُردية المستقلة. ولكن الوعي القومي والسياسي والاجتماعي لم يكن في أوساط الشعب الكُردي عميقاً أو شاملاً بسبب طبيعة المجتمع وبنيته الاقتصادية وسيادة علاقات البداوة والرعي والعلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية (الأغوات) في الزراعة. كما لم تكن القوى السياسية والاجتماعية مهيأة لخوض معركة كبيرة من هذا النوع في ظل العلاقات التنافسية التي كانت سائدة في ما بين العشائر الكُردية. ولذلك كانت تضحيات مجتمع السليمانية كبيرة من أجل تأمين هذا الهدف, الذي راود الرواد الأوائل في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين, ثم تنامي وأصبح قاب قوسين أو أدنى بوعود الحلفاء بتحقيقه. أو هكذا بدا للمتفائلين الكُرد الذين كانوا يعملون من أجل هذا الهدف ولم ينتبهوا إلى طبيعة المؤامرات الاستعمارية التي كانت تدار وكانت تقودها بريطانيا العظمى باتجاه تحقيق مصالحها على المدى القريب والبعيد على حساب مصالح شعوب المنطقة, ومنها مصالح الشعب الكُردي. فانتفاضة السليمانية جاءت تعبيرا عن تلك الرغبة الجارفة في تحقيق هذا الهدف واحتجاجاً على أولئك الذين تنكروا لوعودهم التي أعطوها لقادة الحركة الكُردية في الداخل والخارج. ولكنها لم تأخذ بنظر الاعتبار موازين القوى حينذاك المختل لصالح الهيمنة البريطانية. وما كان في مقدورها أن تأخذ ذلك بنظر الاعتبار بسبب طبيعتها ومستوى تطور الوعي السياسي في صفوف القيادة والمجتمع. فماذا كانت النتائج العملية لانتفاضة الشعب الكُردي في السليمانية؟
يفترض أن تؤخذ انتفاضة السليمانية, أو كما تسمى شعبياً بثورة 1919, في سياق المرحلة واعتبارها جزءاً من حركة الشعب الكُردي التي شهدت قبل ذاك وفيما بعد العديد من الهبّات والانتفاضات الشعبية. وإذ كانت الحركات التي سبقتها قد عجزت عن تحقيق الطموحات, فأن انتفاضة الشعب الكُردي في عام 1919 عجزت هي الأخرى عن تحقيق أهدافها الأساسية في إقامة دولة كُردية مستقلة أو حكم ذاتي لكُردستان أو لأجزاء منها. ولكن هذا الواقع الذي تجلى في ثورة العشرين العراقية أيضاً يستوجب التحري عن الأسباب أو الإجابة الممكنة التي لا أجد مبرراً هنا البحث فيها. إذ تحت تأثير انتفاضة السليمانية, رغم فشلها, تبنت عصبة الأمم واللجان التي تشكلت للنظر في أمر المنطقة الكُردية وعموم العراق, موقفاً يدعو إلى منح الكُرد في العراق جملة من الحقوق القومية المشروعة مثل إقامة حكومة كُردية والتدريس باللغة الكُردية وتوظيف الكُرد في المنطقة الكُردية, ولكن لم يشمل هذا الموقف بقية مناطق كُردستان, أي منطقة كُردستان إيران وكُردستان تركيا وسوريا, بمثل هذه الحقوق الأولية المشروعة. فقد ورد في لائحة الانتداب على العراق نصاً يشير إلى ما يلي جوازاً: "المادة السادسة عشرة- لا شيء مما في هذا الانتداب يمنع المنتدب من تأسيس حكومة مستقلة إدارياً في المقاطعات الكُردية كما يلوح له" . وهذا يعني إقامة حكم ذاتي في منطقة كُردستان الجنوبية, إذ لم يكن تعبير كُردستان العراق مستخدماً حينذاك. كما أنها لم تأخذ بالرأي الذي كان يدعو إلى استفتاء أهالي المنطقة الكُردية ومن ثم عرض نتائج الاستفتاء على عصبة الأمم لاتخاذ قرار بشأنه .
وبسبب تجدد التحركات الكُردية المشروعة في عام 1922, ,أثناء البحث في معاهدة لوزان في نفس العام, حيث تبين أن الحكومة البريطانية قد تخلت عن وعودها وتنكرت للحق الكُردي, فأنها اتفقت مع الحكومة العراقية على إصدار البيان التالي في الحادي والعشرين من شهر ديسمبر 1922 يتضمن ما يلي:
"تعترف حكومة صاحب الجلالة البريطانية والحكومة العراقية معاً, بحقوق الكُرد القاطنين ضمن حدود العراق, في تأسيس حكومة كُردية ضمن هذه الحدود, وتأملان أن الكُرد على اختلاف عناصرهم سيتفقون في أسرع ما يمكن على الشكل الذي يودون أن تتخذه تلك الحكومة, وعلى الحدود التي يرغبون أن تمتد إليها, وسيرسلون مندوبيهم المسؤولين إلى بغداد لبحث علاقاتهم الاقتصادية والسياسية مع حكومتي إنگلترة والعراق" . ثم يعقب عبد الرزاق الحسني على ذلك بقوله و "لم يصغ أحد إلى هذا الوعد الرسمي" .
وفي 11 تموز/يوليو 1923 أصدرت الحكومتان البريطانية والعراقية تطمينات جديدة معسولة للكُرد جاء فيها:
"أولاً- أن الحكومة لا تنوي تعيين موظف عربي في الأقضية الكُردية ما عدا الموظفين الفنيين.
ثانياً- ولا تنوي إجبار سكان الأقضية الكُردية على استعمال اللغة العربية في مراجعاتهم الرسمية.
ثالثاً- أن تحفظ كما يجب حقوق السكان والطوائف الدينية والمدنية في الأقضية المذكورة" .
وفي الوقت الذي أصدرت الحكومتان البريطانية والعراقية تطمينات للكُرد كانتا تهيئان مستلزمات توجيه المزيد من الضربات العسكرية للحركات الكُردية المسلحة التي لم تتوقف رغم الضربة التي وجهت للانتفاضة 1919 من جهة, مع مواصلة العمل السياسي باتجاهين أساسيين:
أ. إعادة الشيخ محمود الحفيد (البرزنجي) من الهند إلى كُردستان, وفي نيتها المساومة معه على تهدئة الأوضاع لصالحها.
ب. تأليب بعض شيوخ العشائر ضد العشائر الثائرة من أجل إضعاف الجميع, أي ممارسة سياسة فرق تسد.
وبعد عودة الشيخ محمود إلى السليمانية واستقراره فيها أعلن نفسه حكمداراً على المنطقة , وبالتالي, عمد إلى قيادة الثورة بنفسه وفرض الأمر الواقع على الإنكليز. ولكن الحكومة البريطانية رفضت ذلك عملياً وقررت العمل للتخلص من الوضع كله من خلال توجيه كل قدراتها العسكرية الجوية والبرية ضد الشعب الكُردي, وبالتعاون التام مع الحكومة العراقية في بغداد. واستطاعت فعلاً توجيه ضربة قاسية للحركة الثورية التحررية في السليمانية والمناطق الأخرى.
وإذ تخلت بريطانيا, وهي الدولة المنتدبة, عن تأمين هذه الحقوق عملياً ومارست القوة الغاشمة والقتل الواسع لوأد رغبة الشعب الكُردي في إقامة دولته المستقلة أو الحكم الذاتي, فأنها أقرت في عام 1925 إبقاء ولاية الموصل كلها في إطار الدولة العراقية الحديثة, على أن تلتزم الدولة العراقية بعدد من الشروط الأساسية, وفق ما جاء في كلمة وزير المستعمرات البريطاني أمام المجلس بعد صدور قرار مجلس العصبة بضم الموصل إلى العراق. وهذا النص مأخوذ من تقرير اللجنة الثلاثية حول الكُرد الذي رفعته في يوليو/تموز عام 1925. وكانت اللجنة الثلاثية قد شكلت بقرار من مجلس عصبة الأمم, ثم أضيف إليها ممثلان عن العراق وتركيا. وجاء في تقرير اللجنة ما يلي:
"النظر بعين الاعتبار إلى رغبات الكُرد بتعيين الموظفين الكُرد لإدارة بلدهم, وتصريف شؤون العدالة والتعليم في المدارس, وأن تكون اللغة الكُردية اللغة الرسمية في كافة هذه المرافق الخدمية" . وكانت اللجنة قد أكدت ما يلي: "إذا لم يعط الكُرد ضمانات كافية وعهوداً قوية بأن تنشأ لهم إدارة داخلية مستقلة, بعد أربع سنين من قبول معاهدة إنجليزية - عراقية, وزوال سلطة عصبة الأمم عن العراق, فأن معظم الكُرد يفضلون الرجوع إلى الانضواء تحت لواء الإدارة التركية, على البقاء في الإدارة العراقية" . ومن الجدير بالإشارة إلى أن الشعب الكُردي لم يستفت بموقفه من الانضمام إلى العراق, بل قررت عصبة الأمم ضم كُردستان الجنوبية, باعتبارها ضمن ولاية الموصل, إلى العراق دون استشارة الشعب الكُردي. إن هذه الإشارة تستهدف إبراز استهانة سلطات الاحتلال البريطانية بصوت وإرادة الشعب الكُردي بعد أن كانت قد استهانت بالوعود التي منحته إياه قبل ذاك من خلال ممثليه في المحافل الدولية.
کتب الأستاذ عزيز شريف في كتابه الموسوم "المسألة الكردية في العراق" الصادر في العام 1950 ما يلي:"وبهذه الصورة استقرت سياسة بريطانيا في خصوص كُردستان الجنوبية وذلك بإلحاقه بالعراق وعدم فسح المجال لأي نوع من الحكم الذاتي الكُردي. وقد عُلل هذا الإلحاق في بيانات وخطب كثيرة وفي تأليف الكتاب الرأسماليين أنه مستوحى من الضرورات الجغرافية والتجارية. ولا ريب في أن بين كُردستان الجنوبية ووسط العراق علاقات اقتصادية واجتماعية أخرى. ولكن هذه الصلات لا تحتاج إلى ضم استعماري. أما أغراض هذا الضم فأنها استعمارية مفضوحة, إستراتيجية واستغلالية. ولم يستطع ممثلو الإمبراطورية البريطانية إخفاء هذه الحقيقة" .
ومع ذلك توقع الكُرد أن تلتزم الحكومة العراقية بوعودها وتستجيب لمطالب الشعب الكُردي الواضحة, إلا أن كل ذلك لم يتحقق رغم تأكيدات عصبة الأمم. وأدى هذا إلى استمرار الكُرد بالاحتجاج وتقديم المذكرات لعصبة الأمم التي كانت تطالب باتجاهين: كان أحدهما يمثل أولئك الذين انخرطوا في النظام السياسي العراقي وأصبحوا أعضاء في مجلسي النواب والأعيان, حيث أطلق على مطالبهم بالمعقولة, وكان ثانيهما يمثل أولئك الذين طالبوا بتشكيل دولة كُردية ضمن الحدود الطبيعية الممتدة من زاخو إلى خانقين, وسميت بالمطالب القاسية والمتطرفة. ولم تكن استجابة عصبة الأمم مشجعة, خاصة وأن بريطانيا لم تعد تفكر بالاستجابة لمطالب الشعب الكُردي بعد أن ضمنت مصالحها في نصوص معاهدة 1930 وملاحقها العسكرية والمالية والعدلية منذ بدء عرض مشروع المعاهدة في عام 1922.
وأدى هذا الواقع, إضافة إلى استفزازات الحكومة العراقية في المنطقة ومحاولتها نشر مخافر الشرطة في كُردستان لمواجهة الكُرد في حالات الضرورة, واحتجاجاً على معاهدة 1930 تفجرت الأوضاع في السليمانية وزج الحكم الجيش إلى جانب الشرطة في التصدي للحركة الشعبية وأدت إلى سقوط الكثير من القتلى والجرحى بين السكان المدنيين. كما تم اعتقال العديد من الشخصيات الكُردية, ومنعت التظاهرات والفعاليات السياسية واتخذت إجراءات ردعية وقمعية أخرى.
وخلال تلك الفترة بدأت الحكومات العراقية المتعاقبة, إضافة إلى عدم استجابتها لمطالب الشعب الكُردي, محاولاتها بشراء ذمم البعض ومنح امتيازات للبعض الآخر من الشيوخ لضمان دعمها لمواقفها ضد تلك القوى التي كانت تطالب باستمرار بحقوق الشعب الكُردي ومنها سكان منطقة بارزان والقوى المتحالفة معها. وفي أعوام 1930-1932 برزت من جديد حركات الشيخ أحمد البارزاني بهدف التأثير على قرارات عصبة الأمم بشأن حقوق الكُرد. إلا أن قوات الاحتلال البريطانية ساندت الحكومة العراقية في توجيه قواتها الجوية لدعم قواتها البرية في محاربة البارزانيين والتي انتهت باستسلام القوى الكُردية المحاربة. وأخيراً أصبح العراق عضوا في عصبة الأمم, دون ضمانات فعلية ملموسة للشعب الكُردي, في ما عدا التزامات حكومية تقلصت تدريجاً إزاء الشعب الكُردي, منها ما ورد في المادة التاسعة من التصريح الذي تضمن تعهدات العراق إلى مجلس عصبة الأمم, والتي تجاوزتها الحكومة العراقية ولم تمارسها عملياً:
1 - توافق الحكومة العراقية على أن تكون اللغة الرسمية في الأقضية التي يسود فيها العنصر الكُردي, من ألوية الموصل وأربيل والسليمانية اللغة الكُردية بجانب اللغة العربية".
2 - توافق الحكومة العراقية على أن الموظفين في الأقضية المذكورة يجب أن يكونوا, ما لم تكن هناك أسباب وجيهة, واقفين على اللغة الكُردية, حسبما تقتضي الحال" .
ويلاحظ أن تعبير "واقفين على اللغة الكُردية" لا يعني بالضرورة تعيين الكُرد, بل العرب أو غيرهم ممن يجيد اللغة الكُردية أيضاً.
وبشأن اللغة الكُردية فقد ورد النص المائع التالي في المادة الثامنة:
"1 - تمنح الحكومة العراقية, فيما يتعلق بالتعليم العام في المدن والمناطق, التي يقيم فيها قسم كبير من الرعايا العراقيين, الذين لغتهم غير اللغة الرسمية, تسهيلات مناسبة لأجل تأمين تلقين العلم في المدارس الابتدائية, إلى أولاد هؤلاء الرعايا العراقيين, بلغتهم الخاصة, ولا يمنع هذا الشرط الحكومة العراقية من أن تجعل تعليم اللغة العربية في المدارس المذكورة إجبارياً" . ويشم من طريقة طرح المسألة رائحة الذهنية الشوفينية في الموقف من اللغة الكُردية والكُرد عموماً. ولا بد من إبراز ملاحظة مهمة, وهي أن الحكومة البريطانية والحكومة العراقية قد دأبتا منذ البدء على إبعاد كركوك من إيرادها ضمن المدن الكُردستانية أو الكُردية, كما هو واضح من النص السابق.
ومنه يتبين للمتتبع كيف بدأت الحكومة العراقية في التملص من كل التزاماتها السابقة إزاء الكُرد بذهنية شوفينية وعجز فعلي عن فهم حق هذا الشعب, كما هو حق للشعب العربي, في أن تكون له حكومته الكُردية في إقليم كُردستان, وأن تكون له لغته الخاصة التي يدرس بها التلاميذ والطلبة, وأن يكون له موظفوه الذين يتحدثون ويتعاملون باللغة الكُردية, وله ثقافته التي يفترض أن تقرأ وتكتب وتحاور باللغة الكُردية وأن يوسع النشر بها ويجري إغناء اللغة وتطويرها. ولا يمنع هذا, بل يتطلبه أصلاً, التفاعل بين الثقافة العربية والثقافة الكُردية في إطار الثقافة العراقية أو في إطار الثقافات المتعددة في المنطقة.
وخلال الفترة التي أعقبت دخول العراق إلى عصبة الأمم لم تتخل الحكومات العراقية المتعاقبة عن سياستها في مصادرة الحقوق المشروعة للشعب الكُردي وعدم تنفيذ ما اتفق عليه في ظل الاحتلال البريطاني للعراق أو في ضوء قرارات عصبة الأمم, مما دفع الشعب الكُردي إلى مواصلة النضال من أجل تأمين تلك الحقوق المشروعة والتي تركزت في الإدارة المستقلة في إطار الدولة العراقية وجملة من المطالب الأخرى. كما حاولت الدول التي توزعت عليها كُردستان أن تتنكر كلية للحقوق القومية العادلة للشعب الكُردي وضد حركته التحررية عندما تصدت دول ميثاق سعد آباد , هذا الميثاق الذي تم التوقيع عليه بطهران في الثامن من شهر تموز/يوليو عام 1937, لهذه القضية بصورة غير مباشرة في المادة السابعة منه, إذ جاء فيها:
"المادة السابعة- يتعهد كل من الفرقاء المتعاقدين السامين, كل داخل حدوده, بعدم إعطاء مجال إلى تأليف العصابات المسلحة والجمعيات أو كل ترتيب غايته قلب المؤسسات القائمة أو قيامها بأعمال لغرض الإخلال بالنظام والأمن العام في أي قسم من بلاد الفريق الآخر سواء أكان في منطقة الحدود أو في غيرها أو الإخلال بنظام الحكم السائد في بلاد الفريق الآخر " . وشارك وزراء خارجية كل من إيران والعراق وتركية وأفغانستان في التوقيع على هذا الميثاق. ومن هذا النص يبدو واضحاً أن الحكومات الثلاث كانت تنظر إلى نضالات الشعب الكُردي على أنها من أعمال العصابات التي ينبغي التصدي لها وتصفيتها بدلاً من التفكير والعمل على الاستجابة لها وفق مبادئ عصبة الأمم وفي إطار الدول القائمة.
تسببت تلك السياسة الشوفينية والتمييز إزاء الشعب الكُردي بشكل عام, سواء كان في مجال الإعمار وتطوير المدن الكُردية أو التعليم أو التوظيف في المراكز الحكومية المهمة أو القبول في السلك الدبلوماسي أو في الكلية العسكرية, في تشويه العلاقات بين العرب والكُرد والأقليات القومية الأخرى, وساهمت في تأجيج المشاعر الكُردية ضد الحكومة العراقية التي ناصبت الشعب الكُردي وقضيته العادلة العداء. وأجبرت تلك السياسات على انطلاق الكثير من الحركات المسلحة في كُردستان العراق وبشكل خاص في العقد الخامس, ومنها نضالات البارزانيين التي ساهم فيها المجتمع الكُردي بشكل عام. علماً بأن سياسات الحكومة العراقية كانت موجهة ضد الأقليات القومية وضد بعض الطوائف الدينية أيضاً. وقدم الشعب الكُردي في سنوات 1943-1946 الكثير من التضحيات وعاني الكثير من الحملات العسكرية الظالمة وشرد عشرات ألآلاف من الكُرد بسبب الانتفاضات العسكرية التي قام بها دفاعاً عن حقه, كما أعدم له أربعة من المناضلين الشجعان في التاسع عشر من حزيران/يونيو من العام 1946، بعد أن كان الملا مصطفى البارزاني (10/03/1903-01/03/1979) مع جمهرة من المقاتلين قد قرر الانسحاب إلى الاتحاد السوفييتي بعد سقوط جمهورية مهاباد في كُردستان الشرقية في إيران, وبعد أن سلموا أنفسهم بوعود حكومية بعدم التعرض لهم، وكانت خيانة مخزية لحكام العراق حينذاك.
وفي خلال فترة الحرب العالمية الثانية نشطت الحياة السياسية في العراق, وظهرت العديد من الأحزاب غير المجازة, ومنها في كُردستان, التي لعبت دوراً مهماً في توسيع وتعميق الوعي السياسي الديمقراطي والقومي والاجتماعي في صفوف الجماهير الكُردية إلى جانب الحركات المسلحة البارزانية. ففي عام 1939 تأسس حزب هيوا (الأمل) برئاسة رفيق حلمي, ورفع شعارات ديمقراطية ومناهضة للفاشية, ودعا إلى إقامة الحكم الذاتي لكُردستان العراق . وفي عام 1943 اندلعت الحركة الثورية الكُردستانية من جديد بقيادة الملا مصطفى البارزاني. وفي عام 1945 تأسست جمعية (ز.ك. زياني كُرد), الذي تحول فيما بعد إلى الحزب الديمقراطي الكُردي. وعلى اثر انشقاق حزب هيوا في عام 1944, تشكل في عام 1945 حزب جديد باسم الحزب الشيوعي لكُردستان العراق بقيادة صالح الحيدري, وأصدر جريدته المركزية باسم شورش (الثورة), بعد أن عجزت المجموعة على اتفاق مع الحزب الشيوعي العراقي بقيادة فهد. تبنى الحزب الجديد الماركسية-اللينينية ورفع شعارات الأخوة العربية الكُردية والكفاح المشترك في سبيل الحرية والديمقراطية والتقدم. وفي عام 1945 ظهر إلى الوجود حزب (رزكاري كورد), باعتباره جبهة وطنية واسعة لعموم كُردستان. وكان على رأسها صالح الحيدري, إذ كان مسؤولاً عن شورش أيضاً. وكان أغلب قياديي حزب رزكاري كورد من الأعضاء القياديين لحزب شورش.
ونشأ خلال الأعوام المنصرمة مزيداً من التفاعل بين القوى السياسية العراقية, العربية منها والكُردية والأقليات القومية الأخرى لتساهم معاً في النضال من أجل الديمقراطية والاستقلال للعراق مع عدم تخلي الكُرد عن المهمات التي كانوا يطرحونها باستمرار. فعلى سبيل المثال لا الحصر كانت المهمات التي طرحها الملا مصطفى البارزاني في الحركة المسلحة التي قادها في عام 1943 وتبناها فيما بعد الحزب الديمقراطي الكُردي, والتي سلمت في حينها إلى ممثل الحكومة للتفاوض بشأنها من أجل إنهاء النشاط العسكري ضد الحكومة العراقية. وهي المطالب التي أوردها السيد مسعود البارزاني في كتابه الموسوم البارزاني والحركة التحررية الكُردية, حيث جاء فيه ما يلي:
“ 1- نقل وعزل الموظفين الذين اشتهروا بالرشوة وإساءة استخدام السلطة الممنوحة لهم.
2- تشكيل ولاية كُردستان من ألوية كركوك, السليمانية, أربيل والأقضية الكُردية في لواء الموصل وهي: -زاخو, عمادية, دهوك, عقرة, شيخان, سنجار - وقضائي خانقين ومندلي من لواء ديالى).
3- اعتبار اللغة الكُردية لغة رسمية في الولاية.
4- تعيين معاون وزير كُردي في كل وزارة من الوزارات.
5- استحداث وزارة يتولاها وزير كُردي تناط به شؤون ولاية كُردستان المقترحة.
6- دفع تعويضات للمتضررين.
7- فتح المدارس والمستشفيات وشق الطرق وإعمار المنطقة.
8- في ولاية كُردستان تبقى الشؤون العسكرية والمالية والخارجية من اختصاصات الدولة المركزية.
9- إعادة المبعدين إلى المنطقة وإطلاق سراح السجناء" .
ومن الجدير بالإشارة إلى أن الحياة السياسية في كُردستان لم تشهد حياة حزبية علنية وديمقراطية بالنسبة إلى الشعب الكُردي, إذ كانت سياسة القمع والحرمان من الحقوق سمة عامة للعراق بأسره, فكانت أحزابه وجمعياته كلها سرية أو شبه سرية, سواء تلك التي تأسست في بغداد أم تلك التي تأسست في المدن الكُردستانية العراقية. وبالتالي لم يكن هناك حزباً علنياُ واحداً يمثل مصالح الشعب الكُردي, رغم وجود بعض الكُرد في الأحزاب العراقية الأخرى التي لم تكن قائمة على أساس قومي أو ديني أو طائفي. وكان لهذا الأسلوب السري في التأسيس آثاره السلبية المباشرة وغير المباشرة على طبيعة تلك الأحزاب وأسلوب نشاطها وعلاقاتها المتبادلة وعلى الحياة السياسية في كُردستان العراق فحسب, بل في سائر أرجاء البلاد. وشهدت فترة الحرب العالمية الثانية تشكيل العديد من الأحزاب والجمعيات السرية ذات الاتجاهات الديمقراطية والماركسية, كما ذكرنا سابقاً, ومنها جماعة ز. ك. (زياني كُرد) , وحزب هيوا (أمل) وحزب رزكاري كُرد, إضافة إلى فرع كُردي للحزب الشيوعي العراقي. وإذ أصبح الأول فيما بعد الحزب الديمقراطي الكُردي ذاته, فأن الأحزاب الأخرى كانت حلت نفسها والتحق بعض أعضائها بالحزب الشيوعي أو بالحزب الديمقراطي الكُردي, مثل جماعة أمل, أو روزكاري كُرد, حيث التحق أعضاء هذه الأحزاب بالحزب الديمقراطي الكُردي في أوائل عام 1946.
وفي عام 1946 تكون على صعيد كُردستان العراق الحزب الديمقراطي الكُردي (1946) برئاسة الملا مصطفى البارزاني . وكان هذا الحزب يتبنى ويدعو بشكل واضح إلى تحقيق الاستقلال والسيادة الوطنية وإلى تعزيز الوحدة العراقية, وحدة العرب والكُرد, من خلال الاستجابة للحقوق القومية العادلة للشعب الكُردي. ولم يكن هذا الحزب من الناحية الرسمية والفعلية, في ما عدا أوساط معينة فيه, يدعو إلى الاستقلال عن الدولة العراقية أو إقامة الدولة الكُردية المستقلة, بل كان همه المباشر تحقيق نوع من الحكم الذاتي ضمن الدولة العراقية. وكان هذا الحزب, الذي كان رئيسه يتمتع بموقع قيادي كبير من الناحيتين العشائرية والدينية, إضافة إلى موقعه السياسي البارز في أوساط الشعب الكُردي, قد لعب دورا نضاليا ملموسا ومتميزا لتحقيق الديمقراطية في العراق وضد الحكم الملكي الرجعي. وشارك الحزب الديمقراطي الكُردي في تشكيل جبهة الاتحاد الوطني من خلال علاقته بالحزب الشيوعي العراقي, إذ أن القوى القومية كانت ترفض في حينها مشاركته المباشرة في الجبهة لأسباب شوفينية بحتة. وكان حزب هيوا, الذي ضم مجموعة من مثقفي كُردستان, يرنو إلى إقامة دولة كُردية مستقلة يمكنها أن تشكل أساساً صالحاً لوحدة باقي أقسام كُردستان. أما حزب شورش, الذي كان يعتبر جزءاً من حزب وحدة النضال, الذي أسس في بغداد وأصدر جريدة بنفس الاسم ضمت في صفوفها مجموعة من الشيوعيين القدامى المطرودين من الحزب الشيوعي العراقي والذين عملوا مع جماعة إلى الأمام وجماعة وعي البروليتاريا العراقية مع مجموعة من المثقفين الشباب. وكان على رأس هذه الجماعة يوسف زلخا. والجدير بالإشارة أن اسم هذه المجموعة ظهر في كُردستان العراق أيضا, حيث سميت ب "يكيتي تيكوشين" التي تحولت فيما بعد إلى مجموعة شورش وأصدرت جريدة بنفس الاسم, علماً بأن مجموعة منها التحقت بالحزب الشيوعي, ورفض البعض الآخر قرار حل حزب وحدة النضال في بغداد والانضمام إلى الحزب الشيوعي العراقي, وساندت موقف صالح الحيدري وشكلت معه حزب شورش. ولكن حزب شورش حل نفسه فيما بعد والتحق بعض أعضاء الحزب إما بالحزب الشيوعي أو الحزب الديمقراطي الكُردي.
رفعت الأحزاب القومية والديمقراطية والماركسية الكُردية, وكذلك الحزب الشيوعي العراقي, في هذه الفترة شعارات واضحة تطالب بتأمين الحقوق القومية العادلة للشعب الكُردي, وأن تباينت في مدى عمق وسعة هذه الشعارات, ولكنها تركزت على المصالح الحيوية للجماهير الكُردية وعلى الديمقراطية السياسية وضمان المساواة وعدم التمييز في التعامل وإعمار كُردستان العراق. ورفع الحزب الشيوعي منذ عام 1935 شعار استقلال كُردستان ووحدتها القومية, كما دافع عن الحركات الثورية المسلحة للشعب الكُردي وطالب بإطلاق سراح السجناء وإعادة المبعدين منهم إلى كُردستان, ولكنه لم يستطع في البداية أن يجد لغة مشتركة مع تلك القوى التي أعلنت تمسكها بالماركسية أو الماركسية اللينينية من منطلق لا يجوز وجود أكثر من حزب شيوعي واحد في بلد واحد. وكان لهذا الموقف تأثيره السلبي المباشر على العلاقات السياسية التحالفية بين القوى الماركسية. وأدى إلى خصومات سياسية لم تكن مبررة خلال فترة الحرب العالمية الثانية وما بعدها, سواء على نطاق العراق كله أم على مستوى كُردستان العراق. وفي الوقت الذي أكد الحزب الشيوعي العراقي في بداية الخمسينات بحق الشعب الكُردي في تقرير مصيره بما فيه إعلانه الانفصال وإقامة دولته الوطنية المستقلة, إلا أنه بقى على سياسته السابقة إزاء رفض وجود أكثر من حزب ماركسي في البلاد.
وبعد جهود نضالية مضنية وتضحيات كبيرة قدمها الشعب العراقي, بقوميتيه الرئيستين العربية والكُردية وأقلياته القومية, في معارك كثيرة, ومنها وثبة كانون 1948 وانتفاضة تشرين 1952 وانتفاضة 1956, تمكن من تحقيق النصر على النظام الملكي الإقطاعي الرجعي في العراق وإقامة الجمهورية بانتفاضة الجيش وتأييد الجماهير الواسعة في كل أنحاء العراق في الرابع عشر من تموز عام 1958.
Top