لنتحاور بهدوء ونناقش أفكار وملاحظات السيد أياد السماوي بموضوعية بصدد حق الشعوب في تقرير مصيرها:
(1-3)
حين نشرت مقالي الأخير الموسوم "كيف يمكن تحقيق حلم الكرد بإقامة دولتهم الوطنية في إطار دولة كونفدرالية بالعراق" كنت أتوقع ردود فعل إيجابية وسلبية وأحياناً غاضبة من البعض الذي لا يرى أي حق للشعب الكردي في تقرير مصيره بنفسه من جهة، وفي الوقت ذاته يحمل رد الفعل معه محاولات بائسة ويائسة للإساءة والتشكيك بصدق نوايا الكاتب من جهة أخرى. وهذا الأمر غير مستغرب بالعراق الراهن الذي يحمل معه تراكمات الماضي المريرة وبؤس الواقع الجديد في ظل نظام سياسي طائفي مقيت ومحاصصة طائفية مخلة بالوطن والمواطن جاءت في أعقاب إسقاط الدكتاتورية البعثية الفاشية والعنصرية الغاشمة واحتلال العراق وتفاقم الإرهاب ونشاط المليشيات الدينية والطائفية المسلحة والدموية الداخلية منها والخارجية، السنية منها والشيعية.
لقد خضع العراق على مدى أربعة عقود بالتمام والكمال تحت هيمنة الفكر القومي اليميني والبعثي العنصري والسياسات الفاشية المتطرفة في دعايتها وتربيتها لأجيال مناهضة للشعب الكردي والقوميات الأخرى وتحت شعارات "الجيب العمل" والانفصال وتحت واجهة "دفاعاً عن البوابة الشرقية" تم تخطيط وتنظيم ليس الحرب العراقية الإيرانية فحسب، بل وحرب الأنفال والكيماوي ضد شعب كردستان بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه بمن فيهم وبشكل خاص الشعب الكردي. ثم جاء النظام السياسي الطائفي حيث فرض عليه القبول بالفيدرالية التي كانت قائمة منذ العام 1991/1992 فعلياً بإقليم كردستان العراق. ولكن هذه القوى الدينية لا تعترف بالقوميات من جهة، وحين تصل إلى السلطة تصبح أكثر قومية يمينية من القومين اليمينيين وأكثر استعداداً للمواجهة حين تتاح الفرصة المناسبة من جهة ثانية. وما تزال في الذاكرة حروب النظم القومية-البعثية على امتداد الفترة الواقعة بين 1963-1991 ضد الشعب الكردي، دع عنك حروبهم الخارجية، ثم سياسات النظام الطائفي متمثلة بسياسات الجعفري، ولكن وبشكل أخص، سياسات الطائفي والقومي اليميني بامتياز نوري المالكي التي كانت بمثابة العودة المفجعة إلى سياسات صدام حسين في نشر الكراهية والأحقاد بين الشعبين العربي والكردي.
ولهذا لم استغرب بما ورد في مضامين المقال الذي نشره السيد أياد السماوي مشككاً بنوايا الكاتب وساعياً للإساءة الشخصية بكلمات أقل ما يقال عنها إنها بعيدة عن الأخلاق التي يعرف بها شعبنا. وما كنت أتمنى له ذلك، إذ عليه أن يناقش الأفكار التي طرحتها كما فعل بعد تلك دون المقدمة البائسة التي لم يكن لها معنى والتي يشك بها حتى نفسه، وبعض الظن أثم، "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم. " (القرآن، سورة الحجرات، آية رقم 12).
وقبل الدخول بمناقشة أفكار وملاحظات السيد أياد السماوي أود الإشارة إلى أنني أتشرف بعضويي وبكوني كنت في القترة بين 1985-1989 عضواً في اللجنة المركزية ومكتبها السياسي وأعتز بذلك كثيرا، ولن أتخلى عن تاريخي المشرف والمتشرف بالحزب الشيوعي العراقي. ولكن هذه الإشارة من جانب السيد أياد السماوي يفترض فيها أن لا تُحمِل الحزب الشيوعي العراقي مسؤولية ما أكتبه وأنشره. فالحزب الشيوعي العراقي له لجنته المركزية ومكتبها السياسي ولهما وحدهما الحق في التعبير عن سياسة ومواقف الحزب. وأنا هنا في كل دراساتي وكتبي ومقالاتي، سواء أكانت تتفق أم تختلف عن سياسات ومواقف الحزب الشيوعي العراقي، اعبر فيها عن رأيي ووجهة نظري الشخصية، ولا يتحمل أي شخص أو حزب مسؤولية ذلك.
وبعد هذه الملاحظة الضرورية سأناقش في هذا المقال بحلقاته الثلاث أفكار وملاحظات السيد أياد السماوي على وفق التسلسل الوارد في مقاله الموسوم "تحت المجهر: كاظم حبيب يدعو لتقسيم العراق وإقامة الدولة الوطنية الكردستانية..." المنشور في موقع "المنتدى الإعلامي الحر في العراق بتاريخ 8 أيار/مايس 2015). والسيد أياد السماوي هو مدير هذا الموقع.
أولاً: حول حق تقرير المصير
حين كانت الشعوب تناضل في سبيل انعتاقها من السيطرة الاستعمارية القديمة برز حق تقرير المصير لأول مرة في بيان الاستقلال الأمريكي في العام 1776م، ومن تم برز بشكل متقدم في وثيقة حقوق الإنسان الفرنسية في العام 1789 والتي انتزعت في أعقابهما دول أمريكا الجنوبية، التي كانت خاضعة للاستعمار الإسباني والبرتغالي، استقلالها الوطني في الفترة بين 1819-1825. وفي العام 1823 أصدر الرئيس الأمريكي جيمس مونرو (1728-1831م) مبدأ مونرو القاضي برفض محاولات أوروبا لاستعمار نصف الكرة الغربي، وقد قدمها برسالة موجهة إلى الكونغرس الأمريكي الذي وافق على ذلك المبدأ.
في العام 1917 انتصرت ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا القيصرية. ومباشرة أعلنت السلطة السوفييتية الجديدة إعلان مبدأ حق تقرير المصير في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1917 والذي جاء فيه: "إعلان حقوق شعوب روسيا الذي تضمن حق تقرير المصير بما فيه حق الانفصال وتكوين دولة مستقلة". ثم جرى تكريس هذا المبدأ من جانب لينين (1870-1924م) في أول دستور سوفييتي أقر في العام 1918. وقد استندت الدولة السوفييتية في هذا الموقف على المبدأ الذي أقرته الأممية الاشتراكية في مؤتمرها الذي عقد بلندن في العام 1896 والذي أقر فيه حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها. وقد مورس هذا الحق فعلاً من جانب الشعب الفنلندي على سبيل المثال لا الحصر. وكان حق تقرير المصير بالنسبة إلى لينين "يعني حق الأمم في الاستقلال بالمعنى السياسي، في حرية الانفصال السياسي عن الأمة المتسلّطة المضطهِدة". وهو المبدأ السليم الذي تلتزم به الأحزاب الشيوعية والعمالية والقوى والعناصر الماركسية المقتنعة بمبادئ الأممية والرافضة لاستعمار واستغلال الشعوب.
وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى وحين بدأت الدول الاستعمارية المنتصرة في هذه الحرب ضد الدولة الألمانية والعثمانية بتقسيم مناطق النفوذ في ما بينها اصدر الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون (1856-1924م) وثيقة المبادئ الأربع عشرة التي تضمن المبدأ العاشر منها مضمون حق تقرير المصير للأمم المستعمرة والتي قدمت إلى عصبة الأمم للأخذ بها. وقد جرى التجاوز على مبادئ هذه الوثيقة حين وافقت عصبة الأمم بفرض الانتداب على الشعوب وإلى حين نضوجها!
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية تشكلت الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي الذي جاء في ميثاق الهيئة العامة ما يؤكد على حق الشعوب في تقرير مصيرها. فقد ورد في الفقرة الثانية من المادة الأولى من الميثاق ما يلي:
"(2) إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، وكذلك اتخاذ التدابير الأخرى الملائمة لتعزيز السلم العام."
"ثم ورد في المادة الخامسة والخمسين من الفصل التاسع الخاص بالتعاون الدولي والاقتصادي والاجتماعي، ما يلي:
"رغبته في تهيئة دواعي الاستقرار والرفاهية الضروريين لقيام علاقات سليمة ودية بين الأمم، مؤسسه على احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب، وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها."
كما نصت في قرارها رقم "545" الصادر في شباط 1952م على ضرورة تضمين الاتفاقية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية، والاتفاقية الخاصة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مادة خاصة تكفل حق الشعوب في تقرير مصيرها، ومن ثم أصدرت في 16 كانون أول 1952 القرار رقم "673" والذي اعتبرت بمقتضاه حق الشعوب في تقرير مصيرها شرطاً ضرورياَ للتمتع بالحقوق الأساسية جميعها، وأنه يتوجب على كل عضو في الأمم المتحدة الحفاظ على تقرير المصير للأمم الأخرى واحترامه."
كما أكدت الجمعية العامة في القرار رقم "2787" والصادر في 12 كانون أول 1972م حق الشعوب في تقرير المصير والحرية والاستقلال وشرعية نظامها بكل الوسائل المتاحة لها والمنسجمة مع ميثاق الأمم المتحدة، وطلبت في القرار رقم "3970" الصادر في تشرين الثاني 1973م، من جميع الدول الأعضاء الاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها واستقلالها وتقديم الدعم المادي والمعنوي وكافة أنواع المساعدات للشعوب التي تناضل من أجل هذا الهدف."
"وبعدها أصدرت الجمعية العامة في قرارها رقم "2200" الصادر في كانون الأول 1966م العهدين الدوليين اللذين اعتمدتهما لجنة حقوق الإنسان، والعهد الأول خاص بالحقوق المدنية والسياسية، وقد أصبح الأول نافذ المفعول اعتباراً من 23 آذار 1976م في حين أصبح الثاني الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية نافد المفعول في 3 كانون الثاني 1976م، وقد تناولت المادة الأولى من كلتا الاتفاقيتين حق تقرير المصير على النحو التالي: "تملك جميع الشعوب حق تقرير مصيرها، وتملك بمقتضى هذا الحق حرية تقرير مركزها السياسي، وحرية تأمين نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي." (حق تقرير المصير في القانون الدولي).
ثانياً: أصبح حق تقرير المصير للشعوب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على نحو خاص مبدأً ثابتاً ونافذاً. وكما نرى فلا يمس هذا الحق الدول فحسب، بل يمس وبالأساس الشعوب صغيرها وكبيرها. أي لا يجوز حصره بالدول المستعمرة والتابعة، كما أراد أن يقنعنا السيد أياد السماوي، بل الشعوب في الدولة الواحدة، كالعراق مثلاً. وعلى هذا الأساس:
أ. يحق لشعب كردستان العراق، أي مع القوميات القاطنة بإقليم كردستان العراق، الحق الكامل في تقرير مصيرها بنفسها وليس بوصاية من الشعب العربي. وهذا المبدأ يمكن تطبيقه على الشعوب الكردية في كردستان تركيا وإيران وسوريا.
ب. وعند المطالبة بممارسة هذا الحق لا يعتد بمسألة وجود نص حول حق تقرير المصير في الدستور العراقي أو غير مثبت فيه. فهذا الحق ثابت لا يمكن التلاعب به. كما إن حق تقرير المصير يبدأ من الحق في اختيار الإدارة الذاتية أو الحكم الذاتي أو الفيدرالية أو الكونفدرالية أو وصولاً إلى إعلان الانفصال وتشكيل الدولة الوطنية المستقلة. وهذا التسلسل في الطرح لا يعني إن على الشعب الكردي أن يمر بهذه المراحل ليصل إلى المرحلة الأخيرة، بل من حقه ممارسة أي من الأشكال التي يراها ممكنة ومناسبة وضرورية، وهو وحده الذي يقرر ذلك.
ثالثاً: يبدو إن المفاهيم مختلطة لدى السيد أياد السماوي حين يقول إن المطالبة بحق تقرير المصير للشعب الكردي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتغيير الخارطة الجيو-سياسية للمنطقة، وبالتالي فليس هناك أي اتجاه لهذا التغيير. السؤال الذي لا بد لنا من طرحه هو: من وضع هذه الخارطة الجيو-سياسية للمنطقة؟ إنها الدول الاستعمارية التي اقتسمت مستعمرات الدولة العثمانية وقررت خارطة الدول فيها وأعطت لكل دولة حصة من الأرض الكردستانية، وهي أربع دول تركيا وإيران والعراق وسوريا. كما اقتطعت أرضاً عربية ووضعتها ضمن الدولة التركية وهي مدينة الاسكندرونة مثلاً لا حصراً. ولا شك في أن شعوب هذه المنطقة لها الحق الثابت في إجراء التغيير المناسب على هذا التوزيع الجيو سياسي غير العادل الذي تم على وفق معاهدة سيفر الاستعمارية القديمة. إن أوضاع العالم والشعوب في العام 2015 غير ما كانت عليه أوضاع العالم حين تقرر ذلك في العام 1916-1919. وبالتالي من حق الشعب الكردي أن يطالب بهذا الحق المشروع والعادل على وفق ما يرى الوقت المناسب له.
رابعاً: يبدو إن السيد أياد السماوي يعيش في عالم آخر غير عالم منطقة الشرق الأوسط وغير قادر على رؤية الصراعات والنزاعات والحروب والتدمير الجاري في هذه المنطقة، وأنه يرى بأن مطالبة الشعب الكردي بممارسة حقه في تقرير مصيره هي التي ستزعزع المنطقة بأسرها وليس القوى والنظم الشوفينية والطائفية والتمييز الديني والمذهبي، إضافة إلى الاستبداد والقسوة في التعامل مع شعوب المنطقة.
إن الاستجابة لحق تقرير المصير للشعب الكردي هو الذي يرسي دعائم التفاهم والصداقة والتضامن والتعاون بين الشعوب وليس العكس. فعلى مدى ما يقرب من مئة عام يفترض فينا أن نعترف دون وجل بأن هذه الدول المركزية، ومنها الدولة العراقية، قد فشلت فشلاً ذريعاً في التعامل مع التعدد القومي فيها. وهو ما سنشرحه في الحلقات التالية.
خامساً: إن الدستور العراقي هو القانون الأساسي الذي ينظم العلاقة بين المجتمع والدولة، وفيه يتحدد شكل وطبيعة الدولة وكذلك العلاقة بين سلطاتها الثلاث كما ينظم العلاقة بين أفراد المجتمع، وبين المجتمع والدولة وبين الدولة والمكونات القومية في المجتمع ...الخ. ولكن هذا القانون الأساسي ليس جامداً بل يمكن تغييره مع التغيرات الجارية في الدولة والمجتمع ومع المستوى الحضاري للفرد والمجتمع وبنية الدولة... إن الدستور يشكل التزاماً مشتركاً، يمكن تغيير هذا الالتزام ووضع صيغ أخرى حين تبرز ضرورات لذلك التغيير ومن حق الذين رفضوا الدستور أو بعض مواده أن يناضلوا من أجل هذا التغيير وبالطرق السياسية الممكنة. ولكن الدستور القائم لا يعيق ولا يعرقل حق الشعب الكردي أو شعب كردستان في تقرير مصيره بنفسه حتى وأن لم يتضمن الدستور بنداً بهذا الخصوص لأن الأغلبية الإسلامية السياسية والقومية اليمينية قد رفضت وضع هذا النص في الدستور. إن ممارسة حق تقرير المصير لا تقوض الوحدة الوطنية لأي شعب بل توفر له إمكانية التطور الحر والازدهار في حالة نشوء دولة ديمقراطية فيه وسلطة وطنية ديمقراطية ومجتمع مدني ديمقراطي، إذ إن العوامل التي قوضت وتقوض الوحدة الوطنية وتفرط بها تتمثل بتلك السياسات التي انتهجت على امتداد العقود المنصرمة، سواء أكانت سياسات قومية شوفينية وعنصرية في النظم السياسية السابقة، وبشكل خاص النظم القومية والبعثية، أم السياسات الدينية والطائفية والقومية اليمينية المبطنة والمفرقة للصفوف والطاردة لمبدأ المواطنة الحرة والمتساوية منذ إسقاط الدكتاتورية وإقامة النظام السياسي الطائفي بالبلاد.
انتهت الحلقة الأولى وتليها الحلقة الثانية.
10/5/2015 كاظم حبيب