الحنين إلى المثقف الهادي..في ذكرى رحيل م.ع.الجابري
نلمس هذا الحنين إن نحن أولينا انتباهنا إلى ما يطرحه البعض من تساؤلات في هذا الصدد، تلك التساؤلات التي يمكن أن نجملها في سؤالين: ماذا كان سيقوله صاحب "الخطاب العربي المعاصر"عمّا يجري لو أنه كان لا يزال بيننا؟ وماذا كان سيردّ لو أنه تبيّن كيف حاكم "منطقُ" التاريخ المنطقَ الذي سعى هو أن ينتقد العقل العربي على ضوئه، فوقف على مختلف أشكال اللامعقول التي غدت تطبع الواقع العربي؟
استبعَد البعض هذا النوع من التساؤلات اعتقادا منه أن مرمى الجابري لم يكن قطّ تنبؤيا، وأنّه لم يكن يهدف إلى رسم ما ينبغي أن تكون عليه الأمور، وأنّ ما كان يشغله أساسا هو محاولة الجواب عن السؤال الذي ما فتئ يقضّ مضجع كل من اشتغل بالفكر من عرب معاصرين، أعني:"كيف يمكن للفكر العربي المعاصر أن يستعيد ويستوعب الجوانب العقلانية في تراثه، ويوظفها توظيفا جديدا؟". كان الجابري، حسب هذا الرأي، منشغلا بما مضى وبواقع الحال، أكثر مما كان متطلعا إلى معرفة ما سيكشف عنه المستقبل. وهو قد مارس السياسة، ليس في الثقافة وحدها على حدّ تعبيره، وإنما كاهتمام بقضايا الساعة، وانشغال بالشأن اليومي.
قد يُرَدّ على هذا الموقف بأن الممارسة السّياسية، والاهتمام بقضايا السّاعة ، لا يعنيان "غرقا" في الحاضر، واقتصارا على الالتفات إلى الماضي، وإنما تخطيطا للمآل وانفتاحا على المستقبل. وليست قليلةً تلك المواقف التي كان الجابري يدلي برأيه فيها فيما يخص آفاق تحولات المجتمعات العربية سياسيا وفكريا وتربويا، مما جعل همّه الأساس، وكما كان يقول، هو "إعادة بناء الذات"، مع ما تتطلبه تلك الإعادة من إعادة نظر في ما ورثناه وما نحن عليه وما نصبو إليه، ومن وجهة النظر هاته لم يكن الحفر في الماضي عنده، إلا طريقا لفتح آفاق المستقبل.
ليس من باب مجرد إشباع الفضول المعرفي إذاً محاولة استنطاق الرجل في قبره. ولعل الأمر يرجع هنا إلى ما يتجاوز شخص الجابري، ويرتبط بمفهوم معيّن عن المثقف طالما ترسّخ عندنا. أشير هنا إلى ما يمكن أن ندعوه رواسب التحديد الذي كان يُعطى للمثقف، والدّور الذي كان يناط به. فقد كان يُنظر إليه أساسا على أنه من يفكر بدل الآخرين، بل من يهديهم إلى الصّواب، ومن "يحمل مشعل الحقيقة". بهذا المعنى يمكن أن نرى في التساؤل عماذا كان سيقوله الجابري عن الربيع ومخلفاته؟ حنينا إلى ذلك المثقف الذي يهدي الناس، وذاك العقل الذي يفكر بدلهم. غير أن ما يبدو أنّ الربيع كشف عنه بالضبط هو كون هذا النّوع من المثقف - الهادي لم يعد له وجود، أو على الأقل لم تعد له ضرورة. وعلى أية حال فنحن لم نلمس له وجودا فعليا وراء ما جرى، إذ يظهر أن الانتفاضات "انفجرت" من غير أن يُتنبأ بها أو يخطط لها.
وعلى رغم كثير من الصواب الذي ينطوي عليه هذا التحليل في بعض جوانبه، إلا أنّه يظهر أنّه يغفل ما كشف عنه الربيع من جانب آخر، أعني بذلك ما ترتّب عن الانفجارات من فوضى وما أعقبها من لامعقول، وكونها لم تتوفّق كثيرا في فتح الآفاق وفكّ الإنسداد. فقد بيّنت عواقب الانتفاضات أن "العقل العربي" ما زال في أمسّ الحاجة إلى نقد، وأنه ما زال يرزح تحت ثقل الوثوقيات بمختلف ألوانها، وأنّ الانتفاضات اقتصرت فحسب على التوجّه ضد السلطة أو الحزب أو الجماعة الحاكمة، ولم تقم ضد العلائق الإجتماعية والعوائد الأخلاقية والأساليب الفكرية والقيم الثقافية، مما من شأنه أن يمكّنها من أن تعيد النظر في مفهومات الإنسان والمجتمع والفكر والتاريخ. فهي إن كانت قد استبدلت أنظمة، فإنها لم تغيّر الذهنيات. وربما، لأجل ذلك، فإن أهداف الانتفاضات سرعان ما كانت عرضة، في أغلب الأحيان، لمقاومة قوى المحافظة والتقليد، وهيمنة الفكر الوثوقي الذي ينطوي بطبيعته على آلية توحيدية ترفض كل تعدد للآراء واختلاف للمواقف، مما دفعها إلى أن تُدخل كل الأمور في دائرتها فتجبرها على الخضوع لمنطقها، مع ما يقتضيه ذلك من آلية إكراهية سرعان ما تحوّلت إلى توتاليتارية فكرية وجدت تطبيقها في حركات عنيفة نفَت كل ما قامت من أجله الإنتفاضات، بل أسهمت في زيادة انسداد الآفاق.
لقد كشف تطوّر الأحداث بعد الرّبيع إذاً أنّ الفكر العربي لم يتمكن لا من تملك تراثه ولا من تملك الحداثة نفسها. كما أوضحت أن اللامعقول يتوارى خلف كثير من اأقنعة. بهذا المعنى تجد الاستغاتة بآراء الجابري تبريرها، ربما ليس كمثقف هاد هذه المرة، وإنما كطرف أساسي في نقاش لايزال ضروريا ومفتوحا.