الأغلبية والأقليات
يتخذ المعيار اليوم صورة الرجل الأبيض الذكر العاقل الذي يقطن المراكز ويتحدث لغة بعينها. نسبة إلى هذا المعيار تتحدّد الأغلبية، بل تتعيّن "الطبيعة البشرية". ونسبة إلى هذه الأغلبية تقوم الأقليات المختلفة في اللون والجنس. الأقليات هي التي يرمى بها خارجا: خارج المراكز وخارج اللغة، بل خارج الوطن في بعض الأحيان.
غير أن هذه "الخارجية"، حتى وإن تجسدت في المكان، فهي تظل خارجية سطحية. ذلك أن علاقة الأقليات بالأغلبية ليست في العمق علاقة داخل بخارج بقدر ما هي علاقة هامش بمركز.
نعلم ان الهامش والمركز لا يتحددان تحديدا مكانيا. فالهامش ليس هو ما يوجد "تحت" ولا ما يمكث في "الاطراف". ليست علاقة الهامش بالمركز علاقة داخل بخارج. الهامش لا يوجد في منأى عن المركز مستقلا عنه، بل هو دائما مشدود إليه عالق به إلى حدّ أننا يمكن أن نقول إنه المركز ذاته في تصدّعه وابتعاده عن نفسه. فهو ما يشكل فضيحة المركز، وما يكشف عن ضعف ما يدّعيه من مركزية. الهامش هو الحركة التي تشهد أن كل داخل ينطوي على خارجه، وأن المنظومة تنطوي على ما يفضحها. إنه القوى المتنافرة والتوترات التي تصدّع المركز وتزحزحه عن ثباته.
مثلما أن علاقة الأقليات بالأغلبية ليست علاقة خارج بداخل، فهي أيضا ليست علاقة كل بأجزاء. لهذا قلنا إن التصنيف هنا لا علاقة له بالعدّ والتكميم. ربما كان عدد السود أكبر بكثير من عدد البيض، وربما كان سكان الأطراف أكثر من سكان المراكز، وربما كان عدد النساء أكبر من عدد الذكور، وربما كان صغار السنّ أكثر عددا من البالغين، إلا أن الأغلبية تبقى لمن يحقق النموذج.
ليست الأغلبية هي التي تفرض النموذج وتكرّسه، بل إنها تفترضه فتقدّ نفسها عليه. للنموذج سبق قيمي وزمني ومنطقي على عملية التصنيف ذاتها، فهو الذي يؤسس، وهو الذي يقيم الحد والحدود.
ولكن، أين تتم الحركة وأين تكمن الصيرورة؟ أين يظهر التحوّل؟ لن يكون ذلك بطبيعة الحال، في مستوى النموذج. ذلك أن النموذج مثال، إنه معيار عليه تقاس الأمور، وبدلالته تصنَّف المراتب. وهو مركز به تعلق الهوامش. لن يكون التحوّل في مستوى الأغلبية، لأن هذه، عندما تعتقد أنها تجسد النموذج، لا ترى ما تصبو إليه بعد ذلك، لذا فإنها "لا تصير" كما يقول دولوز.
إذا كانت الأغلبية "لا تصير"، فإن الصيرورة تبقى للأقليات. بما أن الأقلية هامش، فهي فضاء الحركة والتحوّل، مجال الوعي المطلبي، فضاء الصيرورة. إذا كانت الأكثرية لا تصير، لكونها لا تصبو إلى تحقيق نموذج، ما دامت هي النموذج نفسه، فإن الأقليات تنشد التحوّل، ولكن لا لتغدو هي المركز ذاته، وإنما لتقضي على المركزية. إنها تهدف إلى فضح أسس المعيار الذي يعمل كنموذج، وهي لا تصبو أن تكون الطّرف الآخر للثنائي، لا تصبو أن تصبح الذّكورة بدل الأنوثة، أن تغدو الأبيض بدل الأسود، السيد بدل العبد... يصدق هذا على كل من يصيح بصوت الأقليات، وذلك بهدف خلخلة المعيارية التي تقسّم العالم وفق ثنائيات، فتضع نفسها جهة الإيجاب لترمي بالباقي في هاوية السلب.