نحو مشاركة واسعة ومسؤولة لطرد الغزاة من أرض السلام!
ويبدو إن الجميع بالعراق قد أدركوا بأن القتال ضد قطعان داعش الوحشية لا يمكن أن يحقق أي نصر حاسم دون وحدة القوى، دون وحدة القوميات المتعايشة بالعراق الاتحادي في النضال ضد قطعان داعش التي تعادي أتباع كل الديانات والمذاهب بالعراق، ودون تعاون وتنسيق بين أبناء وبنات الشعب الكردي والشعب العربي وبقية القوميات بالعراق ، دون تعاون وتنسيق بين أتباع المذهبين السني والشيعي من العرب ومع أتباع الديانات والمذاهب الأخرى، إذ أن مثل هذه الوحدة هي القادرة على كسر شوكة الإرهابيين القادمين من وراء الحدود أو العراقيين الذين خانوا وطنهم وشعبهم وقضيته العادلة. واشعر بأن مشاركة أبناء الأنبار وصلاح الدين، وفيما بعد أبناء الموصل، في المعارك الجارية ضد داعش كان، كما سيكون لها، دورها المميز للمسيرة المعقدة الراهنة.
إن طرد الغزاة الجدد أمر ممكن وسيتحقق دون أدنى ريب. ولكن المشكلة بالعراق لا ترتبط بهؤلاء الغزاة القتلة، بل بوجود نظام سياسي يستند إلى خمسة مؤشرات سلبية، وهي:
1. وجود أحزاب سياسية تعتمد الدين والمذهب أساساً لكيانها ونشاطها السياسي والاجتماعي، وهو أحد أوجه انتهاك مبادئ وأسس المجتمع المدني الديمقراطي الذي يعتمد مبدأ المواطنة وليس الهويات الفرعية.
2. وجود نظام سياسي يقوم على أساس طائفي ومحاصصة طائفية في توزيع سلطات ومؤسسات الدولة، في دولة يقال فيها "إن الإسلام دين الدولة!"، في حين إن الدولة شخصية معنوية لا دين لها ولا يمكن أن يكون لها دين، وبالتالي فمبدأ الدولة الديمقراطية هو : الدين لله والوطن للجميع.
3. وجود أرضية صالحة لنشوء أو تفاقم الصراع القومي في المجتمع العراقي لأسباب ترتبط ببنية الدولة والمجتمع والعلاقات الإنتاجية والاجتماعية السائدة فيه، إضافة إلى وجود ضعف وخلل ونواقص في بعض بنود الدستور العراقي وعدم وجود قوانين ضابطة للعلاقات بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان، إضافة إلى محاولة ابتعاد الحكام عن الجدية في معالجة المشكلات القائمة بالعراق، وبشكل خاص بين العرب والكُرد حول ما يطلق عليه "المناطق المتنازع عليها" على وفق ما ثبته الدستور العراقي لعام 2005، وكذلك عدم إرساء الأسس السليمة في التعامل والعلاقات مع بقية القوميات وأتباع الديانات والمذاهب بالعراق.
4. التخلف الاقتصادي والاجتماعي والبنية المشوهة للاقتصاد الوطني وما نشأ عنها من بناء فوقي هش ومتخلف ووعي مشوه ومن غياب للعدالة الاجتماعية في توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي وفي استخدامه، وتنامي الفقر واتساع الفجوة بين الدخول والبطالة الواسعة، وكذلك في سيادة الفساد المالي والإداري، وما يقترن به وينجم عنه من إرهاب متنوع الأشكال والأهداف بالبلاد.
5. وعن كل ذلك نشأت الدولة الهشة والمهزوزة القائمة حالياً والتي يسمح حكامها والكثير من سياسييها للدول المجاورة والدول الكبرى التدخل الفظ والمستمر والمؤذي في الشؤون الداخلية وفي الإساءة للعلاقات بين القوميات وأتباع الديانات والمذاهب والمساهمة في ترويج الحقد والكراهية وفي التأثير السلبي على علاقات العراق مع بقية شعوب ودول العالم.
وحين نشخص هذه المسائل ونسعى إلى إيجاد حلول عملية لها يفترض أن ننطلق من أرض الواقع العراقي وتحليلنا للعوامل الفاعلة فيه أولاً واستناداً إلى تجارب العراق عبر العقود المنصرمة وبشكل خاص منذ سقوط النظام الملكي ومروراً بالنظم الجمهورية الخمسة حتى الوقت الحاضر ثانياً، والتعرف الدقيق على العوامل التي قادت إلى كل تلك الوثبات والانتفاضات والثورات والانقلابات والمآسي والكوارث بالبلاد, وإدراك حقيقة أن كل ذلك قد اقترن بغياب حرية الفرد والحريات العامة والحياة الديمقراطية وتهميش الشعب بكل مكوناته وممارسة الاستبداد والقهر السياسي والاجتماعي والحروب، إضافة إلى تشخيص دور الخارج في كل ذلك وهو دور ثانوي بالقياس إلى الدور الداخلي الأساسي.
إن الحلول المنشودة للعراق بقدر ما هي بسيطة حقاً من حيث المبدأ، بقدر ما تبدو في الواقع الراهن معقدة ومتشابكة وطويلة الأمد في آن. لأنها تستوجب إرادة الواعين والعقلانيين من حكام اليوم من جهة، وإرادة الشعب والقوى الواعية والعقلانية فيه من جهة أخرى. والسؤال العويص هو: هل لنا ما يكفي من هؤلاء الواعين والعقلاء في الحكم والمجتمع؟ يفترض أن يتوفر للعراق مثل هؤلاء الواعين والعقلاء بعد التجارب المريرة للعقود الست المنصرمة، وإلا فأن الكارثة كبيرة والأزمات القادمة أشد حدة وقسوة ومرارة وعقماً على المجتمع بأسره.
العقلانية في الفكر والسياسة تقول بأن على الأحزاب الإسلامية السياسية، السنية منها والشيعية، القائمة حالياً، وهي أحزاب ذات طبيعة مذهبية طائفية، أن تدرك بأنها لا يمكن أن تحكم العراق بالعدل والمساواة من مواقع دينية طائفية في بلد ومجتمع متعدد القوميات والديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية، وإن عليها تغيير هذا الواقع والبدء بتأسيس أحزاب سياسية لا تعتمد الدين أو المذهب أساساً لها في الحكم، بل يمكن أن يكون لأفرادها الحق الكامل في أتباع هذا الدين أو المذهب دون تمييز. القيام بهذه الخطوة أمر ممكن بالنسبة للعقلاء من الناس الذين يحسون بمرارة الشعب من خلال إلقاء نظرة جدية على فعله النظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية بالعراق والشعب العراقي منذ إسقاط الدكتاتورية حتى الوقت الحاضر.
وإذا ما أدركت هذه الأحزاب هذه الحقيقة الناصعة، فأن هذا يعني بأن النظام السياسي العراقي يجب أن لا يبنى على أساس المحاصصة الطائفية، بل يبنى على أساس الأكثرية السياسية والأقلية، أو من تحالف برنامجي بين الأكثرية والأقلية السياسية. وهنا تكون بنية المجتمع السكانية هي التي تحدد الأكثرية والأقلية على وفق الأحزاب التي لا تربط برامجها بدين أو مذهب، ولكن لا يعني تغييب مبادئ الأخلاق التي يفترض أن تحملها الديانات والمذاهب مثلاً أو حقوق الإنسان. وهذا يعني أن يتجه المجتمع بقواه وأحزابه السياسية صوب المجتمع المدني الديمقراطي العقلاني.
وفي مثل هذا الحكم الوطني والديمقراطي يمكن، وعلى أسس ديمقراطية وسلمية، معالجة المشكلات المعلقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم ومع مجالس المحافظات ومع القوميات الأخرى بالبلاد على وفق مبادئ الدستور وما يفترض أن يتغير ويعدل أو يصحح فيه لإزالة الغموض أو التناقض أو النصوص الحمالة لأوجه عديدة. ولدي الثقة التامة بوجود مثل هذه الإمكانية بما يسمح في نشوء علاقات إنسانية سليمة في المجتمع العراقي.
إن بلدا تسوده العلاقات الإنسانية بين قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه وتحكمه مبادئ الديمقراطية وقوانين منظمة لبنود الدستور بشأن العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم ومجالس المحافظات وتنظمه قوانين وقواعد العمل على أساس الأكثرية واحترام الأقلية ورأيها، يمكنها أن تدفع باتجاه وضع برامج لتنمية اقتصادية وبشرية تسهم في الاستفادة الأكثر عقلانية من إيرادات ومورد النفط الخام أولاً، وفي تحقيق التنوع في الاقتصاد وإقامة المشاريع الصناعية والزراعية وتنشيط دور القطاع الخاص والقطاع الحكومي والقطاع المختلط، وبالتالي تغيير بنية المجتمع الطبقية وبنية الوعي الفردي والجمعي وإغناء الثروة الوطنية وتحسين عملية توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي واستخدامه، ومن ثم تحسين مستوى حياة ومعيشة الغالبية العظمى الفقيرة من السكان. ومثل هذا التوجه سيسهم بدوره في ضمان نهوض حضاري حقيقي بالبلاد وإلى وضع حد فعلي للإرهاب والفساد والتدخل الخارجي في شؤون العراق الداخلية وسياساته الخارجية.
هذا التصور للدولة الديمقراطية الاتحادية وللحكم الرشيد يستوجب رؤية فلسفية عقلانية وثقافة ديمقراطية لدى الحكام بالعراق. لقد برهنت الحياة على إن الشعب قد ابتلي بغير ما يفترض أن يكون عليه حتى نهاية حكم نوري المالكي، فهل في مقدور الدكتور حيدر العبادي تغيير هذه الحالة القاتمة التي وضعنا فيها إبراهيم الجعفري ونوري المالكي وكل الأحزاب افسلامية السياسية، شيعية كانت أم سنية؟ تشير الإجراءات المتخذة حتى الآن إلى تحسن نسبي في بعض جوانب العملية الجارية بالعراق، وخاصة في الموقف من تعبئة سكان الأنبار وصلاح الدين والموصل باتجاه النضال ضد داعش وبالتعاون الوثيق مع الجيش العراقي، إضافة إلى أخذه مسؤولية قيادة الحشد الشعبي والذي يفترض أن يغير قياديي هذا الحشد الذين يعتبرون قادة المليشيات المسلحة. وهنا أقول إن تحسناً حصل في الإجراءات، بما في ذلك التنسيق مع الإقليم وقوات الپيشمرگة لتحرير الموصل، وليس في السياسات التي يفترض أن يعتمدها النظام السياسي العراقي والتي تعني التخلص من المحاصصة الطائفية، إذ إنها ما تزال بعيدة عن أن تكون مرضية لتغيير دفة المسيرة السلبية التي عاشها العراق طيلة السنوات المنصرمة وما يزال فيها.