البارزاني: تجاريب نضالية غنية
ولربما كان طابع التحدي والإصرار ودفق العزيمة وروعة حيويتها واحدة من تلك السمات التي شهدناها تتبدى وتظهر جلية عندما نقرأ تمسك البارزانيين بإعادة بناء مدينتهم التي تعرضت لجرائم الهدم والتخريب مراراً. لكنّ العزيمة والتحدي هو ما كان يؤكده ذاك القائد حريصاً على توكيد أهمية التمسك بروح مثابر معطاء باستمرار مهما كرر الأعداء هجماتهم وطعناتهم.
لقد كانت معاناة البارزاني ملا مصطفى منذ طفولته الأولى سبباً لتجربة نضالية منحته حنكة لمزيد من مهام الدفاع عن الحقوق والحريات. إذ كانت مشاركته في الثورة الكوردية بكل أقاليم كوردستان المجزَّأة عاملا حاسما في ما اختزنه من تجاريب؛ تأتت من تلك المعارك السياسية والحربية لتتحول إلى دروس كوَّنته وأعدته لدور قيادي في تأسيس الحزب الديموقراطي الكوردستاني وفي قيادة حركة التحرر القومي أيضا. ولا ننسى هنا دوره بالمستوى العراقي بعامة بخاصة عندما عاد من المنفى بُعيْد ثورة 14 تموز 58 إذ دفع باتجاه ترسيخ علاقة نوعية بين الكورد والعرب وهو الأمر الذي أوجد تأسيساً لهذي العلاقة في العراق الفديرالي الجديد ممتاحاً [آخذاً] من تلك الرؤية الحصيفة في صب العلاقة بصيغ بنَّاءة إيجابية..
وفي وقت سجل التاريخ الوطني العراقي الدور التخريبي لسلطات انقلاب شباط 63 ووضْعِ البلاد في حال احتراب دموي بروح عدائي قمعي فإن ذاك العمل التخريبي ظل مدعاة للإخلال بالعلاقة الطبيعية بين العرب والكورد لكنه الفعل الذي وجد في المبادئ التي عمل بها البارزاني الخالد ودافع عنها سدا منيعا قطع الطريق على محاولات تمرير المآرب المرضية التي أرادت طعن التضامن الكوردي العربي ونضالهما المشترك ضد طغيان النظم ودكتاتوريتها..
إنَّ كونَ البارزاني الخالد تجسيدٌ لرمز نضالي كبير في تاريخ القضية الكوردية جعله أبعد من ذلك رمزا قوميا ليس للثورة والحركة التحررية حسب بل لمعاني الكرامة والدفاع عن الحقوق والحريات وعن الشخصية الكوردية الجمعية والفردية بكل مفاصلها ومحاورها فضلا عن تبنيه جسور علاقاتٍ متفتحةٍ متينة بين شعوب المنطقة..
ولهذا يأتي الاحتفاء بمناسبة رحيله توكيدا لصواب مؤشّر اعتزاز الكورد بكل أجزاء كوردستان بزعيمهم وإرثه وهو حقهم أن يفخروا به كونه ولادة مهمة واستثنائية جاءت من رحم تجاريب الأمة الكوردية بشعوبها كافة وهو كذلك حق لمجموع الشعوب والأمم الأخرى تقدم اعتزازا آخر بالمنجز التاريخي الذي قدمه البارزاني بخاصة للعلاقات الإنسانية الأسلم والأنضج بين الكورد وبين تلك الشعوب والأمم...
واليوم تخوض كوردستان حربها دفاعاً عن تلك القيم والمبادئ التي أعلاها البارزاني ضد قوى الظلام والتخلف. وهي لا تخوض الحرب بقيم الثأر والانتقام كما كان داب الثورة الكوردية المسلحة التي لم ترضَ يوماً على أيّ فعل يدخل بتوصيف التخريب والتفجير والاغتيال حتى وصف بعض الساسة الأوروبيين الثورة الكوردية التي قادها البارزاني بالثورة النظيفة؛ بخلاف ما عرفناه عن ميليشيات حركات اصطرعت مع النظم الدكتاتورية المتعاقبة في العراق مُستخدِمة أساليب الاغتيال والتفجير الذي عادة ما أطاح برقاب الأبرياء...
ومما تدافع كوردستان عنه اليوم، ما أخذته من تجاريب معلم الثورة الكوردية باتجاه ممارسة أعلى سمات المرونة والتسامح مع الآخر؛ ولعل ما مورس مع مَن عاد عن خيانته من (الجحوش) خير مثال على تلك الممارسة السامية التي أكدت منح الشعب فرص العيش بوحدة إنسانية عميقة تنظر إلى الأبعاد الاستراتيجية لهذا الدرس وما يمكن أن يؤسسه حاضرا ومستقبلا إلى جانب منح جسور العلاقة مع الأمم الأخرى فرص العيش بأسس التكافل والتعاضد والتعاون الأممي.
ولنبدأ بعد هذا بتحديد ما يجابه اليوم العلاقات الكوردية العربية في إطار العراق الفديرالي الجديد.. كي نلاحظ ما يمكن الإفادة منه في الإطار الأشمل لهذا الإرث النضالي وتجاريبه ودروسه. إن أبرز تلك العلامات تكمن في الآتي من المحاور والموضوعات:
1. تفعيل الاتفاقات: إن الاتفاقات السياسية المبرمة بين القوى والحركات التي تدير الأمور ببغداد والقيادة الكوردستانية بأربيل لا ينبغي حصرها بنصوص مرسومة على الورق بل يجب التوجه إلى تنفيذها فعليا ميدانيا عبر بناء المؤسسات الدستورية الضامنة لذلك ورسم خارطة طريق وأسقف زمنية بهذا الاتجاه، بخاصة في أبرز سمة تتعلق ببناء الحكومة الاتحادية وآلية العمل التي تضبط توجهاتها.
2. تمكين الديموقراطية فكراً وممارسة دعماً للبنية الفديرالية: ومن أجل حماية المسيرة الفديرالية يجب استكمال خطى دمقرطة البلاد وتوفير فرص الحوار والتفاعل بين القوى المعبرة عن مكونات المجتمع العراقي بعيدا عن الانفراد أو ظواهر من قبيل نشر ثقافة مضللة لا ترسم سوى حال استبداد من يدعي تمثيل الأغلبية بأسس طائفية لا بأسس ومنطق الدولة المدنية. وبهذا الإطار نستذكر وصايا البارزاني الخالد التي تؤكد على أنّ الضمانات في الشراكة الفعلية لا يكتنفها التردد في قضية قيادة مؤسسات الديموقراطية [عراقيا] معا وسويا وبطريقة لا تقبل التراجع وأو الغدر كما حصل في نكث العهود والاتفاقات في تجربة السنوات القريبة الماضية..
3. إقرار حق تقرير المصير عمقاً للبنية الفديرالية: إن رسم نهج نوعي جديد لهوية العراق الجديد يقوم على إقرار ثابت واستراتيجي حاسم ونهائي بحق تقرير المصير وبالأساس الاختياري الحر للاتحاد؛ وبمنح مؤسسات الدولة صلاحياتها مع توكيد تمسكها بآليات ديموقراطية ضامنة للحقوق والحريات بلا منغصات لا تنمّ إلا عن إمكان التراجع والالتفاف على الأسس الدستورية التي مازالت تخضع لصراعات غير خافية على النبض الشعبي الحذر من الوقوع أسرى جرائم تصفوية كارثية جديدة..
4. ممارسة خطاب سياسي وإعلامي تنويري ينهي الشوفينية: واجب الانتهاء بشكل حاسم وحازم من السياسات الشوفينية الاستعلائية وبقاياها ومن خطابات التضليل الظلامية ومن سياسة العداء والتهجم سواء في الخطاب الحزبي السياسي أم في الخطاب الإعلامي التعبوي.
5. حسم مشكلة الثروات الطبيعية بقوانين تحترم حقوق الجميع: قضية النفط والثروات الطبيعية ومعالجتها بقوانين استراتيجية تنظمها وتنهي التذبذب والتخبط الذي مارسته بعض العناصر داخل بنى الحركات السياسية المتحكمة بالمسيرة مع وجوب منع ربط مرتبات الموظفين والعاملين بهذه القضية كون المرتبات قضية أرزاق الناس ولقمة عيشهم التي يجب كفالتها..
6. قضية خوض المعركة مع الإرهاب: وواجب التنسيق في إدارة هذه المعركة على أساس من احترام بنى العراق الفديرالي واتخاذ القرار الأنجع في التعامل مع البيشمركة كونها جزءا حيويا ورئيسا من الجيش الاتحادي وتزويدها بكل ما يلزم من تسليح وتدريب لمتابعة مهامها البطولية..
7. رسم خطى بناء الدولة وإطلاق مشروعات الزراعة والصناعة: فالمعركة الأبرز بطريق تحقيق السلم والاستقرار واستتبابهما تتمثل في مهام البناء وإعادة إعمار البلاد وإطلاق حركة الاستثمار ومسيرة التنمية والتقدم في قطاعات الصناعة والزراعة وفي ميادين التعليم والصحة والبيئة. وهذه الأمور لا تأتي من قرارات اعتباطية أو تكتيكية مترددة متخبطة بل تأتي من استراتيجيات مرسومة بطريقة تدرك مفردات التصدي للمهام بشكل يحرص على القواسم المشتركة فديراليا...
إن هذه الذكرى التي يمر عليها اليوم أكثر من ثلاثة عقود ونصف العقد، تدفع نحو تعزيز الدراسات التي تتمعن في دلالات التجربة الكبيرة والمهمة ولربما كان من بين ما ينتظرنا بالخصوص، يتمثل في ضرورة تبني مراكز بحثية وجهود أكاديمية جامعية متخصصة تحمل هذا الاسم البارز [اسم البارزاني الخالد] لمكانه ومكانته في مسيرة الثورة في مرحلة سابقة ولأهمية تبني التجربة ودروسها في بناء الدولة في المرحلة الراهنة بكل ميادين الخطابات الاقتصادية الاجتماعية والسياسية والعسكرية...
ثقتي أنّ هذه الملتقيات السنوية يمكنها أن تتحول إلى منتدى يتم فيه تدارس المحاور الأبرز لقضايا البلاد عامة وقضايا كوردستان مخصوصة الهوية والمطالب والحاجات بما يمكن عبرها استقطاب التجاريب الإنسانية بكل تنوعاتها تأسيسا على معطيات ومبادئ حملها البارزاني القائد وتركها إرثا خالدا ومعِيْناً للعمل في مشوار البناء السلمي بكوردستان والعراق الفديرالي...
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا
[email protected]