العنف المزدوج
وضع الغزالي إذاً يده على ما ندعوه اليوم "الاقتصاد السياسي للمعرفة"، كما أدرك أن الخطاب لايتحدد فحسب بتماسكه المنطقي، وسلامة بنائه، وإنما بما يتولد عنه من مفعولات. بل إننا نستطيع أن نقول إن حجة الإسلام تبيّن العلاقة بين الخطاب ومفعول معين للسلطة، وأدرك أن المعرفة وحدها عاجزة عن هداية الضالين، وأن لا مفر من اقتران سلطة المعرفة بسلطان دنيوي .صحيح أنه لم يذهب إلى حد القول إن "في" الخطاب سلطة، لكنه سلم بأن الخطاب يستمد قوته ومفعوله من السلطة التي من ورائه، وبالتالي أن "لـ"لخطاب سلطة. فحياة الحقيقة وانتشار الأفكار وانتصارها لا يتوقفان على صدقها المنطقي، وإنما على السلطة التي تروج لها. العلم كما يقول الإحياء "لا يذمّ لعينه" ، والكلام يتخذ معناه من المنبر الذي يصدر عنه"، فإذا نسبت الكلام وأسندته إلى قائل حسن فيه اعتقادهم قبلوه وإن كان باطلا، وإن أسندته إلى من ساء فيه اعتقادهم ردّوه وإن كان حقا، فأبداً يعرفون الحق بالرجال ولا يعرفون الرجال بالحق. هذا ما يؤكده كتاب الفضائح": فالشيء إذا نسب إلى مشهور بالفضل، يغلب على الطبع التشوق إلى التشبه به، فكم من طوائف رأيتهم اعتقدوا محض الكفر تقليدا لأفلاطون وأرسطو طاليس وجماعة من الحكماء قد اشتهروا بالفضل وداعيهم إلى ذلك التقليد وحب التشبه بالحكماء".
إن المعارف، حتى وإن كانت يقينية في ذاتها، إلا أنها تتحدد أساسا بمن يروج لها، بل إن الألفاظ ذاتها تنطوي على مفعول يتجاوزها كألفاظ. ولعل هذا هو ما يفسر إلحاح حجة الإسلام على ترجمة لغة المنطق ونقلها إلى لغة القسطاس المستقيم نظراً للإيحاء الذي لتلك الألفاظ ووقعها على الآذان والعقول، فقيمة اللفظ أيضا ليست في ذاته وفي ما يحمله من معنى، وإنما في مفعوله وما يتولد عنه.
لقد خاض حجة الإسلام في مواجهة الفلاسفة والتعليمية خوض مجادل، ودخل في الاعتراض عليهم "دخول مطالب منكر لا دخول مدع مثبت . "إنه أدرك أن الشبهة، إذا اشتهرت، تعمل عمل الحقيقة، وأن الوقوف عند الإنكار ليس كافيا وحده، وتفنيد الآراء مسألة لا تنفع فيها المناظرة الكلامية. وخطر الفلسفة والتعليم لا يكمن في الأفكار التي يروج لها وإنما في الآفات التي تتولد عن تلك الأفكار.
لا مانع إذن أن يعمد الغزالي إلى قوة الأسلوب وغموضه في بعض الأحيان، وإلى براعة الجدل فلا "ينهض ذابا عن مذهب مخصوص"، بل يجعل الفرق" إلبا واحدا على أعدائه "، "فإن سائر الفرق ربما خالفونا في التفاصيل، وهؤلاء يتعرضون لأصول الدين، فلنتظاهر عليهم فعند الشدائد تذهب الأحقاد".
من السهولة بمكان أن نجد من معاصرينا من يذهب هذا المذهب في التعامل مع "نظام الخطاب"، لكن قيمة رأي الغزالي آتية من كونه أساسا وليد مخاض عاشه المجتمع الإسلامي ذاته، فدفع مفكريه إلى أن يبحثوا عن قوة الخطاب وحدوده، فأخضعوا معيار المنطق نفسه لمعيار آخر يحتويه، بحيث لا يتوقف عند الخطاب واللوغوس لضبط القواعد التي ينبغي أن يخضع لها، وإنما يبحث عن شروط إمكان القول، وعما يتولد عن الخطاب من مفعولات.
وعلى رغم كل ذلك، ورغم ما توصل إليه حجة الإسلام فإنه يعترف بعجزه، لا عن إقناع الخصم، بل عن تحويل رأيه. إنه يعترف بعدم مفعولية الخطاب، فيقر بنوع من الإحباط، بل من اليأس من إقناع المائل عن الحق وردّه إلى طريق الصواب.وهكذا ففي نص يورده في كتابين أساسيين من كتبه يحاول أن يبرر هذا الشعور باليأس عاقدا حوارا بينه وبين داعية باطني: يسأل الداعية:"هل يمكنك أن تعرف جميع الحقائق والمعارف الإلهية جميع الخلق فترفع الاختلافات الواقعة بينهم"؟ فيجيب الغزالي: "هيهات لا أقدر عليه، وكأن إمامك المعصوم قد رفع الاختلافات بين الخلائق وأزال الإشكالات عن القلوب. ...بل اختلاف الخلق حكم ضروري أزلي ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك"، ثم يسأل الداعية "كيف نجاة الخلق من هذه الاختلافات؟" فيرد الغزالي: "إن أصغوا إليّ رفعت الاختلافات بينهم، ولكن لا حيلة في إصغائهم، فإنهم لم يصغوا بأجمعهم إلى الأنبياء ولا إلى إمامك، فكيف يصغون إلي؟ وكيف يجمعون على الإصغاء وقد حكم عليهم في الأزل بأنهم لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك؟"
لا يهمنا هنا أن نسأل الغزالي" لماذا لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك"؟ لأنه لن يفيدنا كثيرا هذه المرة. ذلك أننا قد نخافه في رده الاختلاف إلى ضرورة كونية. إلا أن ما يهمنا بالضبط هو أن نتبين أن هؤلاء الذين لا يصغون، لا يقرون بضرورة الاختلاف، كما يفعل الغزالي. فهم يرفضون كل تعدد للآراء واختلاف للمواقف، وكل تردّد بين شك ويقين. الأمر الذي يدفعهم إلى أن يُدخلوا كل الأمور في دائرتهم فيجبرونها على الخضوع لمنطقهم، مع ما يقتضيه ذلك من آلية إكراهية. ونحن نعلم، كما سيقول نيتشه فيما بعد، أنّ كل آلية توحيدية، وكل نفي للإختلاف، لا يكون كذلك إلا بما هو تنظيم وإكراه وإقحام، وإلا بما هو مقاومة فوضى الكثرة، وسَنّ منطق الهيمنة والإخضاع والقهر. فالآلية التوحيدية التي تكمن وراء الوثوقية، والتي تحول بين الوثوقي وبين أن يقبل بتعدّد الآراء، وبالأحرى اختلافها، تنطوي على نوع من القهر والعنف. وهذا العنف لا يتوجه فقط نحو الآخر، وإنما ينصب على الذات نفسها. فقبل أن يرفض الوثوقي الاختلاف مع غيره، يبدأ أولا بالامتناع عن الاختلاف مع نفسه، أو، على الأصح، بالخضوع لاستحالة الاختلاف مع الذات. قبل أن يسدّ الوثوقي الأبواب على الغير، يسدّها على نفسه، و قبل أن يمارس عنفه على الآخرين، يرزح هو نفسه تحت ضغط البداهة وعنفها. فالوثوقي لا يخضع فكره للمنطق، بل إنه يخضع كل شيء لمنطقه هو. من هنا ذلك الإدّعاء بالإحاطة بكل شاذة وفاذة، إذ أن أيّ تحفظ أو تردّد من شأنه أن يحطّ من مكانته ويضعف سلطته وهيبته. من هنا الطابع الكلياني للوثوقية وتوتاليتاريتها.
ذلك أن هناك ارتباطا وثيق الصلة بين الكلي Totalوالكلياني Totalitaire، بين الرّغبة في الإحاطة بكل شيء، وبين التفرّد بالرأي والتوتاليتارية، وهو ارتباط يتجاوز المستوى اللفظي. ذلك أن الفكر التوتاليتاري يتسم بمنطق الحصروالنظرة الكلية، التي تدّعي أن لا شيء يفلت من إحاطتها. من هنا ابتعاده التامّ عن كل تحفظ وتردّد، وحسمه المتسرع في كل ما من شأنه أن يفصح عن نقص وعجز، نظرا لما يترتب عن ذلك، ليس من إظهار لضعف نظري فحسب، وإنما من تنقيص من صاحب الرأي ومسّ بهيبته وسلطته. فالنقص هنا أيضا لا يتوقف عند المعرفة والنَّظر، وإنما يطال الهيبة والسّلطة. إنه ليس مجرَّد جهل بأمور، وإنما هو علامة على قصور وعجز وضعف. لذلك فان ما يميّزالوثوقية هو قدرتها الخارقة على الإفتاء في جميع النوازل مهما كانت طبيعتها ودرجة تعقيدها. فكل شكّ أو تردّد لن يكون إلا علامة عجز، وكل خطأ لن يعتبر إلا خطيئة.
أما عن علاقة لفظ الكلي بالتوتاليتاري في الإتجاه الآخر فقد سبق أن أشرنا إليها عندما قلنا إن الفكر الكلياني، بما ينطوي عليه من آلية توحيد و"ضمّ في كل موحَّد"، فإنه يضطر إلى توظيف آلية قمعية إكراهية.
بناءً على ذلك، فالفكر الوثوقي الدوغمائي الذي يسبح في البديهيات واليقين، لا يكون، كما يقال عادة، عنيفا بما يتولد عنه من مفعولات، وما يتمخض عنه من نتائج، وإنما بما هو ينشدّ، أو يُشدّ إليه على الأصَّح، إلى ما يعتقده طبيعيا بدَهيا مُسَلَّما به. فكأن العنف هنا عنف بنيوي. وقد سبق لرولان بارط أن بيَّن أن البداهة عنف، و"أن العنف الحقّ هو أن تقول : طبيعي أن نعتقد هذا الإعتقاد، هذا أمر بدهي".
الوثوقية عنف وقمع بما هي بداهات تسدّ أبواب الشك وتوصد سبل النقد فتسجن صاحبها داخل "كلّ موَحَّد" وتحول بينه وبين أن يتنفس هواء الحرية. لذا فهي ترتبط بالصمم و"عدم الإصغاء للغير"، وتقترن بالتشنج وأحادية الرأي وما يتولد عنها من قمع للآراء المخالفة، وعدم اعتراف بالرأي الآخر، برأي آخر، الأمر الذي قد يؤدي بها إلى عدم الإقتصار على العنف الرمزي، إذ سرعان ما يجد هذا العنف امتداده فيتجسد في عنف مادي، فيغدو "عنفا مزدوجا".