كيف تحول داعش إلى خطر يهدد أمن وسلام العالم؟
لم يبرز داعش فجأة على سطح الأحداث بالعراق وسوريا في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بل كان الوليد الشرعي لتنظيم القاعدة الإجرامي الذي تشكل في العقد التاسع من القرن العشرين عملياً وبمساعدة كبيرة جداً من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية وباكستان في حربها ضد الاتحاد السوفييتي والحكومة الأفغانية في أفغانستان. وقد انشق تنظيم داعش عن تنظيم القاعدة في العقد الثاني من هذا القرن واستقل في عمله عنه وعن جبهة النصرة، التي ما تزال في علاقة قوية وتبعية لتنظيم القاعدة. وفي أوائل القرن الجديد وجه تنظيم القاعدة أعداداً غير قليلة من عناصره المنحدرة من أصول ودول عربية والمتدربة بأفغانستان على أيدي هذا التنظيم وفي دولة طالبان إلى العراق. وقد تم هذا باتفاق غير معلن مع جهاز الأمن الخاص للدكتاتور صدام حسين. وكان على رأس الفاعلين الأوائل الإرهابي الأردني أبو مصعب الزرقاوي. وكان النظام الصدَّامي على علم بتحركات وتنظيم القاعدة وراغب في مواجهة الغرب بدعم غير مباشر منها. وحين وقعت جريمة 11 سبتمبر 2001 أدرك صدام حسين مخاطر حرب جديدة تطيح بنظامه السياسي الاستبدادي، وبالتالي احتضن، على وفق خطة معينة وإشراف شديد، هذه القوى ونظم وجودها بالعراق. وحين أصبحت الحرب قريبة من نظامه أطلق سراح سجناء الحق العام كافة بهدف الاستفادة منهم ومن إشاعة الفوضى بالعراق في حالة سقوط الدكتاتورية البعثية وهو ما كان يتوقعه من الحرب. وقد حصل ما توقعه فعلاً. هذا العمل الإجرامي من جانب النظام البعثي تم استكماله بوعي وتخطيط وتنظيم من جانب الإدارة الأمريكية بتنفيذ حربها بالعراق في العام 2003 ودفع المزيد من الإسلامويين المتطرفين التكفيريين القتلة إلى العراق لخوض المعركة ضد الولايات المتحدة على أرض العراق وبعيداً عن حدود الولايات المتحدة وأوروبا من جانب آخر. وقد حصل هذا فعلاً بناءً على إرادة ورغبات رئيس الإدارة الأمريكية جورج دبليو بوش ولجنة الأمن القومي والبنتاغون ووكالة المخابرات المركزية، إضافة إلى إنها كانت رغبة القوى اليمينية المتطرفة الحاكمة بإسرائيل.
لعبت الولايات المتحدة الأمريكية دوراً استثنائياً في تنشيط الخلاف الطائفي بالعراق وتشديد الصراعات في ما بين الأحزاب السياسية الطائفية الشيعية منها والسنية، من خلال دورها في إقامة نظام سياسي طائفي بالعراق ومحاصصة طائفية وأثنية، وهي التي كانت تدرك احتمال هذا الصراع ونوايا القوى الطائفية إزاء الفيدرالية الكردستانية ابتداءً، إذ إن القوى الإسلامية السياسية لا تؤمن من الناحية الفعلية بوجود وحقوق القوميات، رغم إنها حين تكون بالسلطة تصبح أكثر شوفينية من الكثير من القوى الشوفينية وتمزج بين المذهب والقومية بشكل يلحق أفدح الأضرار بالمجتمع والدولة. وبهذا أمكن توجيه ضربة قاسية ومدمرة للهوية الوطنية والمواطنة العراقية، إذ أصبحت الهويات الفرعية هي السائدة وهي التي تسببت بنشوء صراعات قاتلة راح ضحيتها مئات الآلاف من الناس الأبرياء قتلى وجرحى ومعوقين ومشردين ومهجرين. إن اشتداد الصراع العربي الشيعي السني على مستوى الأحزاب الحاكمة والمليشيات التابعة لها من جهة، والصراع بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم بسبب تخلف تنفيذ الاتفاقات من جهة ثانية، وممارسة السياسات الطائفية والشوفينية من قبل رئيس الحكومة والمستبد بأمره والفاشل سياسيا نوري المالكي ومن هم حوله من جهة ثالثة، قد قادت إلى اختلاط الأوراق بين المطالب العادلة لفئات واسعة من الشعب والمحافظات الغربية من العراق وبين القوى الإرهابية التي سعت إلى تبني تلك المطالب، مما أشعر البعض من أبناء الشعب من أتباع المذهب السني العرب خطأً بإن هذه القوى الإرهابية يمكنها أن تدافع عن مصالحهم إزاء حكم تقوده بعض الأحزاب الشيعية ويحرمهم من حقوقهم ويمنع تنفيذ مطالبهم العادلة. وكلما أعاقت الحكومة الاتحادية تنفيذ تلك المطالب، كلما ازداد التلاحم والتفاعل بين القوى السليمة والشعبية وقوى الإرهاب، بحيث أصبح من الصعب التمييز والتفريق بينهما، مما أعطى القوى الإرهابية التكفيرية زخماً جديداً وقوة لا تمتلكها من حيث المبدأ. وهذا بالذات هو ما حصل في سوريا، إذ كلما طال أمد الحرب كلما تعززت القوى الإرهابية على حساب قوى الثورة الشعبية ضد النظام وانتقلت جماعات من قوى المعارضة المدنية إلى القوى الإرهابية. في هذا الجو نمت وتطورت قوى داعش بالعراق وسوريا، إضافة إلى قوى جبهة النُصرة بسوريا.
كيف نما واستفحل تنظيم داعش؟
لم يكن هذا التطور ممكناً وهذا الغزو والاجتياح للعراق في الفلوجة ومن ثم في الموصل والكثير من النواحي والأقضية التابعة لها ولمحافظة صلاح الدين والأنبار لولا وجود عدة عوامل جوهرية نشير إليها فما يلي:
1, النهج الاستبدادي لرئيس الوزراء نوري المالكي والسياسات الطائفية والشوفينية الخاطئة والخطرة التي مارسها إزاء أبناء وبنات الوطن في المحافظات الغربية والموصل من جهة، وضد الشعب الكردي في إقليم كردستان العراق من جهة أخرى، إضافة إلى بنية الجيش العراقي وبقية القوات المسلحة التي بنيت ووجهت بنهج طائفي خطير، والتي أدت إلى إضعاف الحكومة الاتحادية ورفضها من نسبة عالية من الشعب العراقي وإلى تفاقم الإرهاب والقتل على الهوية الدينية والمذهبية وإلى قرب حصول انفصام بين الشعبين العربي والكردي بالبلاد. إضافة إلى امتناع نوري المالكي عن تزويد قوات البيشمركة بالسلاح الضروري لمواجهة مثل هذه الاحتمالات وركز القوات العسكرية بالموصل وكأنها ليست لحماية الموصل بل لمواجهة قوات البيشمركة، وهي التجسيد لانعدام الثقة والشوفينية!
2. الدور الشرير الذي مارسته بعض الدول المجاورة، وخاصة السعودية وقطر والكثير من أصحاب الأموال في دول الخليج ومنظمات إسلامية سياسية متطرفة بالخارج بما فيها تنظيم الأخوان المسلمين الدولي، إضافة إلى كل من تركيا وإيران. وقد تبلور هذا الدور المكشوف باتجاهات عدة منها:
أ) توفير الأموال الضرورية لشراء المزيد من المجندين للمشاركة في هذه الحرب العدوانية ضد شعوب المنطقة؛
ب) توفير أحدث الأسلحة التقليدية والعتاد والعدة والمساعدات اللوجستية الضرورية لها؛
ج) فسح المجال أمام عدد كبير ومتزايد من المتطوعين والمجندين العرب والمسلمين القتلة من سائر الدول العربية والدول ذات الأكثرية المسلمة وكذلك المسلمين العرب وغير العرب من الدول الأوروبية أو الغربية عموماً والتي تقدر بالآلاف؛
د) الدور المخزي لشيوخ الدين المتطرفين الذين كانوا يصدرون وينشرون الفتاوى الداعية إلى التطرف الديني بذريعة حماية الدين من الكفار بالعالم العربي والإسلامي وكذلك بديار الحرب التي هي الدول الغربية. وهي التي أدت إلى قتل الكثير من المسيحيين والصابئة المندائيين والإيزيديين على امتداد الفترة المنصمرة، وكذلك في غزو واجتياح واحتلال الموصل حيث مورست وما تزال عمليات التطهير العرقي والتهجير والإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية؛
هـ) الفساد المالي والإداري الذي عم البلاد وأصبح نظاماً سائداً يجري التعامل به عملياً على مختلف المستويات والمجالات في الدولة وسلطاتها الثلاث والمؤسسات التابعة لها والمجتمع. وهي التي أمكن تمرير الكثير جداً من قوى الإرهاب وتنفيذ المئات من العمليات الإرهابية والتي أدت إلى موت الآلاف من بنات وأبناء الشعب العراقي، إضافة إلى فجوة الفقر التي كانت تسمح بتجنيد عناصر أخرى لقوى الإرهاب على الصعيد المحلي.
3) الدور السلبي غير المقبول وغير المعقول من جانب المجتمع الدولي إزاء الصراع المرير والقتل الجماعي والمتبادل بسوريا وعدم العمل الجاد والفعلي لإنهاء هذه الحرب حتى بلغ عدد القتلى أكثر من 200 ألف قتيل وأكثر من ستة ملايين مهجر في الداخل وفي دول الجوار وفي بقية دول العالم. لقد كان الموقف غير المسؤول من جانب الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والدول المجاورة للعراق وسوريا، إذ ساهم بعضها في توفير كل ما هو ضروري لاستمرار الاقتتال دون أن تظهر أي نتيجة لصالح أحد الأطراف، في حين عزز التلكؤ قوى الإرهاب وزاد من امتلاكها للسلاح والعتاد والمال والمشاركين في القتل والإبادة الجماعية.
لماذا هب العالم لمحاربة داعش بعد خراب الموصل؟
لقد بدا الأمر للكثير من الشعوب والقوى السياسية على حقيقته واقتنعت بأن بعض الدول الكبرى المتحكمة بالسياسة الدولية وصراعاتها ومصالحها راغب حقاً بمثل هذه الحروب المحلية لأنه المستفيد الوحيد منها من أوجه كثيرة، في حين أن الخاسر الأوحد هي شعوب هذه الدول. كما إن هذا البعض من الدول الكبرى كان يعلم علم اليقين بأن دولاً بعينها تمول وتمون وتجَّهز قوى الإرهاب والدكتاتورية بالمال والسلاح والرجال لتواصل نزاعاتها الدموية دون طائل.
إن ما حصل من غزو واجتياح واحتلال لمدينة الموصل والكثير من نواحيها وأقضيتها وأريافها والتوسع صوب كركوك والأنبار وصلاح الدين وتعزيز مواقعها بالفلوجة وغيرها وتهديد مدن إقليم كُردستان العراق هي النتيجة المنطقية لتلك العوامل الأساسية، ولكن العامل المركزي الذي أجج كل العوامل الأخرى وساعدها في تحقيق العواقب التي يعيشها العراق اليوم هو النظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية في توزيع مراكز ومناصب ومؤسسات الدولة العراقية على أسس طائفية وأثنية والذي ما يزال معمولاً به وطرد الهوية الوطنية للمجتمع.
ولكن، وبعد أن توسع تنظيم داعش المستقل عن القاعدة بأفعال أكثر دموية ووحشية وأصبح يهدد الدول الغربية ذاتها، باحتمال عودة من جند منهم بالعراق وسوريا إلى بلدانهم لتنظيم الإرهاب هناك وتوسيعه، دق عندها ناقوس الخطر في أمريكا وأوروبا. وقديماً قيل بحكمة كبيرة "يا حافر البير لا تغمج مساحيها خاف الفلك يندار وانت التكع بيها"، إذ إن تنظيم داعش أصبح الآن يهدد السعودية ودول الخليج، وسيهدد دولة قطر التي تبنى حكامها وسياسيوها فكر الإخوان المسلمين المتطرف وممارسة التدخل والعنف ضد الدول الأخرى.
واليوم تقوم الولايات المتحدة بتحشيد المزيد من الدول، بما فيها تلك الدول التي ساهمت بنشوء هذه الحالة المدمرة، وبعضها ما يزال لم يرفع يده عن دعم بعض قوى الإرهاب، كما في الموقف من جبهة النصرة أو داعش أو القوى الإسلامية المتطرفة في ليبيا، للمشاركة في محاربة داعش بالعراق وسوريا. وبالأمس عقد المؤتمر الأول بباريس للتنسيق والاتفاق على سبل المواجهة على وفق الإستراتيجية التي وضعتها الإدارة الأمريكية في محاربة داعش على الصعيد العالمي وتنشيف مصادر تمويلها وقطع الطريق عن مدها بالسلاح وبالمقاتلين. وكما يقول المثل العراق قد حصل هذا الموقف "بعد خراب الموصل!".
إن الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وغيرها من الدول تساهم بأشكال مختلفة في المعارك الدائرة بالعراق مع القوات العراقية المسلحة وقوات البيشمركة. وإذا كان بعض الدول الغربية يساهم اليوم بالقوات الجوية كالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا بشكل خاص، فإنه سيجبر على الدخول بقوات برية إلى العراق، إذ إن قوات داعش ومن التحق بها من العرب في الموصل وضواحيها وكذلك قوى البعث التي ساهمت معها والتحقت بها، لا يمكن الخلاص منها بالضربات الجوية وحدها. فالقوات العراقية تعاني من نواقص ومشكلات كثيرة، رغم وجود تباين في الموقف من تدخل القوات الأجنبية في المعارك الدائرة ضد داعش رغم علم غير المؤيدين، ومنهم قوى التيار الصدري وميليشياته جيش المهدي المسلحة، بأن القضاء على هذه القوى التي تمتلك أكثر من 30 ألف مسلح حالياً والمليارات من الدولارات الأمريكية وكميات هائلة من السلاح الأمريكي والتركي وغيره وكثرة من المؤيدين داخل العراق وسوريا والدول الأخرى ذات الأكثرية المسلمة، لا يمكن أن يتم بالقوات العراقية وقوات البيشمركة الكردستانية وحدها، والتي هي جزء من القوات المسلحة العراقية، بل بدعم دولي وإقليمي، رغم دورهم في خلق هذه المشكلة لشعوب المنطقة.
إن العراق سيتخلص من داعش وأخواتها وربما القوى المساندة لها، ولكن ستبقى الأرضية جاهزة لنشوء غيرها ما لم يجر تغيير في طبيعة النظام السياسي العراقي، ما لم يتخلص العراق من النظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية والأثنية، ما لم تأخذ الدولة العراقية بمبدأ المواطنة الحرة والمتساوية وتعترف وتمارس حقوق الإنسان وحقوق القوميات وأتباع الديانات والمذاهب الأخرى وبناء الدولة المدنية الديمقراطية الاتحادية، ما لم تجر تعديلاً في الدستور العراقي وفي أساليب الحكم وأن يكف الحكم عن التمييز بين أتباع الديانات والمذاهب وضد المرأة، وما لم يتخل عن الربط المؤذي بين الدين والدولة وبين الدين والسياسة، وما لم يرس أسس عدالة اجتماعية تنهي الفساد والإرهاب والدمار الحاصل بالبلاد، وما لم ينشط الحكم التنمية الوطنية وعدم الاعتماد على النفط وحده من خلال تنشيط التنمية الصناعية والزراعية والتشغيل الواسع ومكافحة البطالة المكشوفة والمقنعة ومكافحة الفقر الواسع الانتشار الذي زاد الآن عن 30% من مجموع السكان. إن الدولة المدنية الديمقراطية الاتحادية هي الرهان الأساسي لانتصار العراق وتقدمه.
أواخر سبتمبر/أيلول 2014 كاظم حبيب